الإجازة والفراغ نعمة

محمد سعيد صديق
1433/07/17 - 2012/06/07 11:38AM
18 / 7 / 1433هـ

الخطبة الأولى العنوان/الإجازة والفراغنعمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونثني عليه الخير كله، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداًعبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يومالدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد، فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله عزوجل:( يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُممُّسْلِمُونَ).
أيهاالأحبة في الله، روى البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((نعمتان مغبون فيها كثير من الناس: الصحة والفراغ)). فحصول الفراغ وكمال الصحة للعبد نعمةعظيمة، قلّ في الناس من يدركها ويستشعر فضلها، ليستثمرها فيما يعود عليه بالنفع فيالأولى والآخرة، ( وَالْعَصْرِ ، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ، إِلاَّالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْابِالصَّبْرِ ) .
فلذاـ أيها الأحبة في الله ـ كان لزامًا على كل واحد منا أن يكون شديد الحرص على ساعات عمره وأنفاس وقته؛ لتكون له حصيلةً في غده الذي سيقدم عليه بلا ارتياب. وإن لنا في أسلافنا المثل الجميل في اغتنام الأوقات والضنّ بها أن تعبث بها أيادي الهوىوالشهوة.
ولقدكان نبينا صلى الله عليه وسلم يوصي أشد الوصية بذلك، فقد قال فيما رواه ابن عباس رضي الله عنهما: ((اغْتَنِـمْ خَمْساً قَبْلَ خَمْسٍ: حَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ،وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَشَبَـابَكَ قَبْلَهَرَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ)) أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وقدجاءه صلى الله عليه وسلم رجل يطلب منه وصية، فأوصاه بأن يكون لسانه رطبًا بذكرالله تعالى؛ لتبقى الحياة كلها معلقة بالله تعالى، كلما غفلت النفس عن طاعته كانذكره واعظًا فيها وداعيًا إلى ابتغاء مرضاته.
وهكذاكانت تلك الوصايا مدرسةً تربى فيها سلف الأمة الأبرار، فكانت حياتهم يصدق أن يقالعنها: إنها وقف لله تعالى.
فهذاعمر رضي الله عنه كان لا ينام بالليل إلا قليلاً، وينشغل في النهار في قضاياالرعية، فقيل له في ذلك فقال: (إن نمت بالليل ضيعت نفسي، وإن نمت بالنهار ضيعترعيتي).
وهكذاكان السلف الصالحون على هذا السبيل في الحرص على الأوقات واغتنام الساعات واللحظات، وإن التاريخ ليحدثنا بما لا يستوعبه أهل الأوقات الضائعة في زماننا،ليحدثنا عن نفوس قدرت للأوقات قدرها، وأيقنت ما تستقبله بين أيديها، فأبت أن تكون من أهل الغبن والحسرة، فسطّر لها التاريخ العجب في الحرص على الدقائق ولحظاتها.
أيهاالأحبة في الله، أولئك القوم مضوا وانتهت أوقاتهم، فهل تراهم ندموا على تلك الساعات التي اغتنموها؟! أبدًا والله، بل إنهم يتنعمون في ظلالها بإذن الله تعالى.
وقدمضى أيضًا أولئك الذين نظروا في أوقاتهم فرأوها محنة ووبالاً، فسعوا في قتلهابالمعاصي والشهوات، فهل تراهم طرفة عين يحمدون ساعة من ساعات الشهوات التي قضوهاأو ليلة من ليالي اللهو التي سهروها؟! كلا، بل حديث الصاحب لصاحبه .
أيهاالمسلمون: وها نحن نستقبل بين أيدينا الإجازة الصيفية، بعد أن طال انتظار الطلابلأيامها بعد عام قضوه في التحصيل العلمي. وإنها لأيام تستوجب الوقوف عندها؛ لأنكثيرًا من الناس قد يغبنُ فيها من حيث يشعر أو لا يشعر. فلا بد أن نوقن أنها قطعة من العمر يسطر فيها كل صغير وكبير ودقيق وجليل، فلا يظن أن تسقط فيها تكاليف الدينكما سقطت تكاليف الدنيا، بل هي من الأيام التي لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتىيُسأل عنها، فلا بد أن تصان من حبائل الشيطان، ولا بد أن تطهر من دنس المعاصي، ولابد أن تقضى بطاعة الله تعالى وبما أخرج من الطيبات التي لا تعد ولا تحصى.
أيهاالمسلمون ،إنّ المسلم بحاجة ماسّة إلى أن يضع له ولأفراد عائلته أهدافًا يريد تحقيقَها خاصة في زمن الإجازات التي تخلو من دراسة نظامية أو وظيفة. هذه الأهداف يسعَى للوصول إليها من خلال وسائل ومناشط متعدّدةتناسب جميعَ الأعمار، وتلبي مختلف التوجهات والرغبات. ليس عدلاً في قاموس العقلاءأن تكون الإجازة عند المسلم ضياعًا للأوقات وهدرًا للطاقات وركوبًا لأصناف المعاصي والمنكرات .
أيهاالمؤمنون، إن كيفية قضاء الإجازة الصيفية أمر يحتاج إلى أن نقف معه عددًا منالوقفات :
الوقفةالأولى: مع الشباب ذكورًا وإناثًا:
أيهاالشباب، أنتم عماد الأمة ورصيدها وذخرها وسر نهضتها وبناة مجدها ومستقبلها،فبصلاحكم واستقامتكم تصلح الأمة وتستقيم، ومن أهم عوامل تحقيق صلاحكم واستقامتكم وعيكم بواجبكم وملؤكم أوقاتكم بالنافع المفيد، وها أنتم ـ أيها الشباب ـ تستقبلون إجازتكم السنوية، فإياكم إياكم والفراغ والبطالة، فإنهما أصل كثير من الانحراف ومصدر أكثر الضلال، كما قال الأول :
إنالشباب والفراغ والجِدة مفسدة للمرء أي مفسدة
فاملؤواأوقاتكم في هذه الإجازة بالنافع والمفيد في دين أو دنيا، ولا تتركوها نهبًا لشياطين الإنس والجن. وقد يسر الله تعالى لكم في هذه الأزمان قنوات عديدة، تستغلون من خلالها أوقاتكم، وتنمون قدراتكم وعلومكم ومعارفكم، بل وإيمانكم، فمنها حِلقالقرآن الكريم المنتشرة في المساجد، فإنها من رياض الجنة وفيها خير عظيم .
ومن هذه القنوات التي تحفظون بها أوقاتكم تلك الدروس العلمية والدورات التي تقام هناوهناك، وفيها يتعلم الشاب ما يجب عليه معرفته من علوم الشريعة والدين .
ومن هذه القنوات أيضًا الأندية الصيفية ، ففيها الأنشطة الترويحية والمهنية، وفيها الدورات العلمية والثقافية .
فاحرصواـ أيها الشباب ـ على الاستفادة منها.
فإن أبيت أخي الشاب هذا فاحرص على شغل وقتك بتعلم مهنة أو بتجارة أو زراعة أو صناعة،تملأ وقتك، وتحفظك من شرور الفراغ وأهله، فإن نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل ولا بد .
وإياكـ يا أخي الحبيب ـ ورفقةَ السوء وقرناءَ الشر الذين يزينون لك المنكر ويدعونك إليه، ففر منهم فرارك من الأسد .
الوقفةالثانية: مع أولياء الأمور من الآباء والأمهات، فأقول لهم :
أيهاالأفاضل، إن الله تعالى منّ عليكم بالولد، ذكورًا وإناثًا، وتلك من نعمه الكبيرة عليكم.
مننالإله على العباد كثيرة وأجلّهنّ نجابـة الأولاد
وحمّلكم الله تعالى مسؤولية تربيتهم وحفظهم وتنشئتهم على العبادة والطاعة، كما قال النبي صلىالله عليه وسلم : ((كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ)) ، فما تقومون به اليوم من حسن التربية والرعاية والحفظ والصيانة لفلذات أكبادكم تجنونه ثوابًا وأجرًا عند الله في الآخرة، وبرًا وإحسانًا في الدنيا، وقد كلفكم الله وأمركم بحفظهم ووقايتهم، قال الله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((والرجلُ راعٍ على أهلِ بيتهِ، والمرأةُ راعيةٌ على بيتِ زَوجِها وَوَلِدِهِ،فكلُّكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيَّته)) رواه الشيخان . فمحافظتك على أولادك ورعايتك لهم والاجتهاد في إصلاحهم وإبعادهم عن الفساد وأهله مقدمة ضروريةلاستقامتهم وصلاحهم .
وينشأ ناشئ الفتيان منّـا على ما كان عوّدهأبوه
فالأب الذي أدار ظهره لأولاده وبيته، فلم يجلس فيه إلا ساعات قصارًا، في نوم أو أكل، وقدأخذت مشاغله بتلابيب قلبه، وشغلت لبه وقلبه، فلم يلتفت لأولاده، ولا لتربيتهم وإصلاحهم، هل قام بما أوجب الله عليه ؟!
والأب الذي ترك الحبل على الغارب لأولاده ذكورًا وإناثًا، يضيعون الصلاة تلو الصلاة ،على مرأى منه ومسمع ، يخرجون متى يشاؤون، ومع من يريدون، يسهرون إلى الفجر،وينامون أكثر النهار، ويصاحبون أهل السوء، ويهاتفون أهل الشر، هل قام بحفظهم ورعايتهم ؟!
إن الجواب على هذه الأسئلة ما ترونه من أحوال أبناء هؤلاء لا ما تسمعون .
فياأولياء الأمور، اتقوا الله فيمن استرعاكم الله إياهم، مروا أولادكم بالمعروف،ورغبوهم فيه، وانهوهم عن المنكر، ونفروهم منه، احفظوهم عن قرناء السوء وأصحاب الشر، أبعدوهم عن وسائل الفساد ، أشغلوا أوقاتهم في هذه الإجازة بما يعود عليهم بالنفع في دينهم ودنياهم، وبادروا بذلك كله في أوائل أعمارهم، فإن الأمر كما قيل :
إنالغصون إذا عدّلتها اعتدلت ولا تليـنإذا قوّمتها الخشب
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفرالله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبةالثانية
الحمدلله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً الى يوم الدين.
أما بعد ،عبادالله ، اتقوا الله تعالى حق التقوى .
أيها المسلمون : إن هذا الفراغ الذي سوف يمر به أبناؤنا ، إذا لم يغتنم بالخير، فإنهم سوف يستعملونه في الشر ، ولنكن ـ أيها الأحبة صرحاء ـ أبناؤك إذا لم تشغلهم بالخير، فإنهم سوف يجدون من يشغلهم بالشر.
ومن رعى غنما في أرض مسبعة ونام عنها تولى رعيها الأسد
إذا لم نعمل على حفظ أوقاتهم ، واستغلالها واستثمارها بما ينفعهم دنيا وأخرى ، فإنهم سوف يقضون أوقاتهم بما يعود وبالا عليهم ، وعلينا نحن ، بل وعلى مجتمعهم وأمتهم. فينبغي لنا ـ أيها المسلمون ـ أن نرسم الخطط ،لهذا الفراغ الذي سوف يتخرج منه أبناؤنا إما بصلاح وإما بفساد . نعم أحبتي الكرام، شهران أو أكثر ، كفيلة بأن تشكل حياة الشاب ، وترسم أوضاعه ، قد يحفظ فيها أجزاءً كثيرةً من كتاب الله ، وعدداً كبيرا من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم .
شهران أو أكثر، قد يلازم الابن والده ، والبنت أمها ، فيتعلمان منهما الكثير ، فالابن يتعلم معاني الرجولة ، ويتعود الاعتماد على النفس ، والبنت تتعلم من أمها ، مهام النساء ،لتعتمد على نفسها بعد ذلك .
وهذا قد يكون في هذه الأيام المقبلة المملوءة بالفراغ ، إذااستغلت استغلالاً صحيحاً ، وخطط لها تخطيطاً سليماً .
وأما إذا لم يخطط لها، وترك الفتى والفتاة، يسهر الواحد منهم طوال الليل كيفما يشاء ومع من يشاء وعلى مايشاء، فسوف تنتهي الإجازة،بشهادة ذات تقدير عالٍ في عالم الانحراف والضياع والفساد لكل شاب وشابة .
فلنعمل أيها المسلمون على استغلال أوقات فراغ أبنائنا ، ولنهتم في هذا الأمر ، الذي سوف نكون أول من يجني ثماره ، نعم أول من يجني ثماره ، مهما كانت هذه الثمار ، حلوة أوفاسدة ، لذيذة أو مرة : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ).
عبادالله، صلوا وسلموا على من أمركم ربكم بذلك فقال عز من قائل : ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواصَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا )...
المشاهدات 2732 | التعليقات 0