الإجازة الصيفية
أ.د عبدالله الطيار
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ فاطرِ الأكوانِ وباريْها، ومُسيِّرِ الأفلاكِ ومُجْريْها، وخالقِ الدَّوابِ ومُحصِيْها، ومُقسِّمِ الأرزاقِ ومُعْطِيْها، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ المستحقُّ للثناءِ والمجدِ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، صلَّى اللهُ وسلَّم عليهِ وعلى آلِه وصحبِه إلى يومِ الدينِ. أما بعدُ: فأوصيكم ونفسي بوصية الله تعالى القائل في كتابه، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون}[الحشر:18].
عبادَ اللهِ: على كلِّ مسلمٍ أن يعرفَ شرفَ زمانِه وقدرَ وقتِه، فلا يُضيِّعُ منه لحظةً في غيرِ طاعةٍ أو قربةٍ، ويُقدِّمُ فيه أفضلَ الأقوالِ والأعمالِ.
ورأسُ مالِ العبدِ وأغلَى شيءٍ في حياتِه هو عُمُرِه، وكلَّما مضى يومق منه مضى بعضُه، والأجلُ له نهايةٌ، والموتُ حقٌّ على كلِّ إنسانٍ، والعاقلُ من استغلَّ لحظاتِ عمرِه فيما يُقرِّبُه إلى رضا مولاه وخالقِه.
والإجازةُ التي يعيشُها أبنَاؤنَا وبناتُنا فرصةٌ طيبةٌ لاغتنامِها فيما يَنفعهُم من أعمالِ الدنيَا والآخرةِ, وعلى قدرِ صدقِ النِّيةِ والحرصِ والمجاهدةِ, يُعينُهم اللهُ جلَّ وعلا، ويفتحُ لهم أبوابَ الخيرِ كُلَّها.
أيُّها المؤمنونَ: وإنَّ من كياسةِ المسلمِ أَنْ يَستغلَّ وقتَه في هذهِ الإجازةِ بما يعودُ عليه بالنَّفعِ العاجلِ في الدنيَا والآخرةِ. قالَ عمرُ رضي اللهُ عنه: إنِّي لأكرهُ أَنْ أرى أحدَكم سَبهللاً لا في عملِ دُنيَا ولا في عملِ آخرةٍ، وما أكثرُ الذينَ يُضيِّعونَ هذه الإجازةَ فيما لا يعودُ عليهمْ بالفائدةِ.
يقولُ ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ: إضاعةُ الوقتِ أشدُّ من الموتِ؛ لأنَّ إضاعةَ الوقتِ تَقْطعُك عن اللهِ والدَّارِ الآخرةِ، والموتُ يقطعُكَ عن الدنيَا وأهلِها.
وإنَّ من أخطرِ ما ابتُلي به بعضُ النَّاسِ في الإجازةِ السهرَ طوالَ الَّليلِ على المباحِ وغيرِه، والنَّومَ بالنَّهارِ، وخاصةً الشبابَ والفتياتِ، فَتَضيْعَ عليهم صلاتَا الظُهرِ والعصرِ، ولا يستيقظونَ إلا قُربَ المغربِ، وهؤلاءِ على خطرٍ عظيمٍ، لتهاونهِم وتضييعهِم لوقتِها، قالَ تعَالى:{فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة..}، فاتَّقوا اللهَ تعالى في صلاتِكم، فهي عمادُ دينكِم، وأعظمُ العباداتِ عندَ ربِّكم، ومن ضيَّعها فهو لما سُواها أضيعُ ـ نسألُ اللهَ السلامةَ والعافيةَ.
عبادَ اللهِ: إنَّ الإجازةَ نعمةٌ ومنَّةٌ مِنَ اللهِ بعدَ طولِ دراسةٍ وبذلٍ وعملٍ، والنفسُ تحتاجُ إلى ترويحٍ بالمباحِ، فينبغي علينَا أن نعمرَها بكلِّ خيرٍ، ومن ذلك:
أولاً: استغلالُ الوقتِ في المشاركةِ بالدوراتِ العلميةِ؛ كحفظِ القُرآنِ ومراجعتِه، والقراءةِ المفيدةِ، وحفظِ المتونِ، وسَماعِ شروحِ العلماءِ، وحضورِ الدوراتِ المفيدةِ في التَّنميةِ البشريةِ لرفعِ مُستوىَ قدراتِ الفَردِ العلميةِ والعمليةِ.
ثانيًا: السفرُ إلى مكَّةَ والمدينةَ، لأداءِ العُمرةِ، وزيارةِ مسجدِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومشاهدةِ الأماكنِ السياحيةِ في بلادِنا، والتَّمتّعِ بما فيهَا من مناظرَ جميلةٍ وخلابةٍ.
ثالثًا: المشاركةُ في الدوراتِ الرياضيةِ؛ وممارسةُ الأنشطةِ الرياضيةِ، كالسباحةِ والمشيِ، والجريِ، وغيرِها.
رابعًا: الحرصُ على صلةِ الرحمِ، وزيارةِ الأقاربِ، والترويحِ عن الأهلِ بالمباحِ، وإدخالِ السُّرورِ عليهم ففي ذلكَ أجرٌ عظيمٌ.
خامسًا: تَجنُّبُ السفرِ إلى البلادِ والأماكنِ التي فيهَا ضررٌ على المسلمِ في دينِه، والبعدُ عن التبذيرِ والإسرافِ في الإنفاقِ والمناسباتِ، وليكنْ منهجُنا التَّوسطَ في كلِّ شيءٍ، ففي ذلكَ حفظٌ للنعمةِ وشكرٌ لمسدِيها.
سادسًا: اجتماعُ الآباءِ والأمهاتِ مع أبنائِهم وبناتِهم، وملءُ فراغِهم بالموضوعاتِ والأعمالِ المفيدةِ، وغيرُ خافٍ أنَّ عدمَ التواصلِ بين أفرادِ الأسرةِ وخاصةً في هذه الإجازةِ يُولِّدُ الجفاءَ والوحشةَ بينهم، كما أنَّه يُعرِّضُ الأبناءَ والبناتِ لشرورٍ كثيرةٍ، وانحرافاتٍ خطيرةٍ.
أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون}[التحريم:6]
باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذِّكرِ الحكيمِ، فاسْتَغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ النبيِّ الأمينِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين. أما بعدُ: فاتَّقوا اللهَ أيها المؤمنون، واعلموا أنَّ أكثرَ ما يُعاني منه الشبابُ في هذهِ الإجازةِ الفراغُ؛ وهو في الأصلِ نعمةٌ إذا أحسنوا استغلالَها، ولا ينبغي على العاقلِ منهمْ تركُ نفسِه بلا شيءٍ مفيدٍ يَشغلُه، فنبيُّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: (نِعمَتانِ مَغبونٌ فيهما كَثيرٌ من النَّاس: الصّحّةُ والفَراغُ)(رواه البخاري() .
وابنُ مَسعودٍ رضي اللهُ عنه يقولُ: (مَا نَدِمتُ على شيءٍ نَدَمي على يومٍ غَربَت شمسُه نَقَص فيه أجلي ولم يزدَد فيه عملي).
أجلْ إنَّ الوقتَ هو مادةُ حياتِهم؛ والزمنُ وعاءُ أعمارِهم، فعليهم استثمارُه في مرضاةِ ربِّهم، وشَغْلُه بما يعودُ بالنَّفعِ عليهم، والمستفيدُ من وقتِه هو مَنْ استغلَّ فراغَه في أعمالٍ نافعةٍ.
يقولُ ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ:(السَّنةُ شجرةٌ؛ والشهورُ فروعُها؛ والأيامُ أغصانُها؛ والساعاتُ أوراقُها؛ والأنفاسُ ثمارُها؛ فمنْ كانتْ أنفاسُه في طاعةٍ فثمرةُ شجرتِهِ طيبةٌ، ومَنْ كانتْ في معصيةٍ فثمرتُه حَنْظلٌ، وإنَّما يكونُ الجذاذُ يومَ المعادِ، فعندَ الجذاذِ يَتبيَّنُ حلوُ الثِّمارِ منْ مُرِّهَا)(الفوائد 164).
ووصيتي للآباءِ والأمهاتِ توجيهُ وتشجيعُ ومساعدةُ الأبناءِ والبناتِ على شَغلِ أوقاتِهم بالمفيدِ، وعدمِ تركهِم للأجهزةِ الإلكترونيةِ التي تقتلُ أوقاتَهم وتُضعفُ
إيمانَهم، فإنَّ أغلبَها فسادٌ وشرٌّ متسطيرٌ.
أسألُ اللهَ جلَّ وعلا أَنْ يباركَ لنا في أوقاتِنا وأعمارِنا، وأَنْ يُصلَحَ لنَا أبناءَنا وبناتِنَا وأَنْ يُنشِّئَهم على الخيرِ وأن يجعلَهم صالحينَ بارِّينَ، وأن يعيذَهم من الفتنِ ما ظهرَ منهَا وما بَطَنَ.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفَى والقدوةِ المجتبى فَقَد أمَرَكُم اللهُ بذلكَ فقالَ جلَّ وعلا:[إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا].
الجمعة: 10/23/ 1442هـ