الإتقان وأثره في نهضة الأمم
Sheikh Sayed2019
الحمد لله المبدىء المعيد الفعال لما يريد، له الحمد كله وبيده الخير كله وإليه يرجع الأمر كله علانتيه وسره، له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون. خلق الكون الفسيح بإتقان ليبلونا أينا أحسن عملا فقال تعالي }وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7){[هود].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أتقن كل شيئ فقال تعالي }وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ(88){ [النمل].
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، إمام المتقين ،وقائد الغر المحجلين، وسيد ولد آدم، أخبرنا بأن الله يحب إتقان العمل، فقال (ﷺ) }إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه { ]رواه البيهقي[.
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله صحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين.
أما بعـد:فيا أيها المؤمنون ..
إن الإتقان قيمة عظيمة أكد عليها الإسلام، وإن الله سبحانه وتعالى أبدع الكون حولنا بدقة وإحكام، وإن الله سبحانه وتعالى قد أحسن كل شيء خلقه، وقال عز وجل{ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ(88)}]النمل[.
فأحسن وجوده وأتقنه، وجعله بديعاً في هيئته ووظيفته على حسب ما تقتضيه حكمته سبحانه وتعالى، يتجلى إتقان الله عز وجل في هذه المخلوقات التي خلقها فلو بحث الباحث المدقق عن خللٍ في خلق الله ما وجد، {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ (3)}]الملك[ .
و قد عبر النبي صلى الله عليه وسلم عن قيمة الإتقان بلفظ أرقى وأبلغ من مجرد الإتقان ألا وهو الإحسان!
والإحسان أن نتقن أعمالنا ونحن نستشعر مراقبة الله لنا كما يُفهم من قوله (ﷺ): }الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك{ ]متفق عليه[.
وبهذا يتضح أن الإتقان في الإسلام ليس هدفًا سلوكيًّا قاصرًا على الفرد فحسب، بل هو سمةٌ حضاريةٌ تقدميةٌ للمجتمع المسلم تنمحي بسببه بعض السلوكيات البغيضة كالفوضى واللامبالاة، والسلبية والهزل . لذلك كان حديثنا عن} الإتقان وأثره في نهضة الأمم{. والمضوع يتناول هذه العناصر الرئيسية التالية ...
1ـ تعريف الإتقان .
2ـ الإتقان فريضة وضرورة.
3ـ مجالات الإتقان .
4ـ العوامل المؤدية إلي الإتقان .
5ـ آثار عدم الإتقان .
6ـ ثمرة الإتقان وفائدته .
7ـ صور تنافي الإتقان
العنصر الأول : تعريف الإتقان :
أتقنَ العملَ أحكمه ، أجاده ، ضبطه يعني الإجادة والإحكام والضبط .
وهو ممارسة النشاط الإنساني بمهارة عالية ودرجة كبيرة من الإحكام والجودة .والإتقان هو الجودة . قال تعالي {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ(1)}]هود[ .
أحكمت : قال السعدي رحمه الله : أتقنت وأحسنت .
والإتقان في نظر الإسلام : هو أن تبذل الجهد، وتتبع أحسن الطرق، وتأخذ بأفضل الوسائل لإنجاز الأعمال المكلف بها، ترجو بذلك ثواب ورضوانه ومغفرته؛ فما من عمل يقوم به المسلم إلا ويجب عليه أن يتقن ذلك العمل، سواء كان ذلك في العبادات والطاعات؛ كالصلاة والزكاة والصوم والحج، وسائر العبادات، فالصلاة تحتاج إلى إتقان الوضوء، وحسن الخشوع، والقيام بالأركان والواجبات؛ كما أمر المسلم في كتاب ربه وسنة رسوله (ﷺ) القائل: }صلوا كما رأيتموني أصلي{ [رواه البخاري] .
العنصر الثاني : الإتقان فريضة وضرورة :
لقد استعمل الإتقان في القرآن والسنة بمعني الإحسان ، ولقد ركز القرآن والسُّنة على الإحسان ، ووردت كلمة الإحسان بمشتقاتها المختلفة مرات كثيرة في القرآن الكريم، منها ما ورد بصيغة المصدر اثنتي عشرة مرة، بينما وردت كلمة المحسنين ثلاثاً وثلاثين مرة، وبصيغ اسم الفاعل أربع مرات، واللافت للنظر أنها لم ترد بصيغة الأمر إلا مرة واحدة للجماعة.
لقد أمرالله تعالي عباده بالإحسان في أعمالهم، وأحب ذلك، فقال عز وجل{وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(195)} ]البقرة[.
هذا الإحسان، هو الإتقان والإحكام، وهذه القضية وهي تجويد شيء وإحسانه وإتقانه من المطالب الشرعية العظيمة في ديننا، وقد حضنا ديننا على إتقان العمل فقال (ﷺ)}إن الله كتب الإحسان على كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته { ]مسلم[.
وذكر ابن رجب رحمه الله: أن المسلم مطالب بالإتقان في أعماله التعبدية والمعاشية ، إحكاماً وإكمالاً، تحسيناً وتجويداً، وإتقاناً، فحُق عليه أن لا يأتي بشيء من أعماله إلا صححه وأكمله وكمله، ولذلك يقبل ويكثر ثوابه، والإحسان والإتقان والإكمال والتجويد والتحسين، هذا الآن مما يتنادى به البشر، في التخطيط والتنفيذ، وقد جاء الإسلام بذلك من قديم.
قال أحد السلف : لا يكن هَمُّ أحدكم في كثرة العمل ولكن ليكن همه في إحكامه وتحسينه .
إِنَّهُ لا يَكفِي الفَردَ أَن يُؤَدِّيَ العَمَلَ صَحِيحًا، بَل لا بُدَّ أَن يَكُونَ مَعَ صِحَّتِهِ مُتقَنًا، فَهَل يَعِي ذَلِكَ المُسلِمُونَ وَيَسعَونَ إلى جَعلِهِ مِيزَةً لِشَخصِيَّاتِهِم وَخُلُقًا يَتَّصِفُونَ بِهِ في حَيَاتِهِم، وَمَبدَأً يَنطَلِقُونَ مِنهُ في مُؤَسَّسَاتِ العِلمِ وَمَيَادِينِ العَمَلِ وَأسوَاقِ الصَّنَاعَةِ، لِيَصِلُوا بِهِ إِلى الإِنجَازِ وَيُحَقِّقُوا بِسَبَبِهِ النَّجَاحَ؟!
والإتقان من أهم أسس التربية الإسلامية؛ إذ لا يكفي الفرد أن يؤدي العمل فحسب، بل لا بد أن يكون صحيحًا ، ولا يمكن أن يكون صحيحًا إلا إذا كان متقنًا.
إِنَّ عَلَى المُسلِمِينَ وَقَد أَصبَحُوا يُمَجِّدُونَ مَا جَاءَ بِهِ غَيرُهُم مِمَّا يُسَمَّى بِالجَودَةِ النَّوعِيَّةِ أَوِ الجَودَةِ الشَّامِلَةِ أَوِ التَّمَيُّزِ، إِنَّ عَلَيهِم أَن يَعلَمُوا أَنَّ دِينَهُم قَد سَبَقَ العَالَمَ في هذا المَبدَأِ العَظِيمِ بِقُرُونٍ، بَل إِنَّهُ إِذَا كَانَ مِعيَارُ الجَودَةِ لَدَى أُولَئِكَ الكَفَرَةِ مَادِّيًّا صِرفًا، فَإِنَّهُ لَدَى المُسلِمِينَ ذُو مُنطَلَقَينِ دُنيَوِيٍّ وَأُخرَوِيٍّ.
وَقَد قَالَ تعالى{إِنَّا جَعَلنَا مَا عَلَى الأَرضِ زِينَةً لَهَا لِنَبلُوَهُم أَيُّهُم أَحسَنُ عَمَلاً(7) { [الكهف].
وَقَالَ تعالي }الَّذِي خَلَقَ المَوتَ وَالحَيَاةَ لِيَبلُوَكُم أَيُّكُم أَحسَنُ عَمَلاً(2)}]الملك[ .
وأمر سبحانه وتعالى عباده بالإتقان في جميع الأعمال، قال تعالى:}وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105){ [التوبة].
ولقد تميز الإسلام عقيدة وشريعة، وأخلاقاً وتصوراً للكون والإنسان بالجودة والإتقان، فقال تعالى}الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً(3) { [المائدة:].
وإِنَّهُ لَضَعفٌ في الدِّيَانَةِ وَخِيَانَةٌ لِلأَمَانَةِ، وَإِخَلافٌ لِلوَعدِ وَنَقضٌ لِلعَهدِ، أَن يَتَوَلىَّ الفَردُ عَمَلاً يَعلَمُ يَقِينًا بما يَجِبُ عَلَيهِ فِيهِ وَلا يَجهَلُهُ، ثم يَتَبَاطَأَ في إِنجَازِهِ أَو يُخِلَّ بِهِ، أَو يَتَجَاهَلَ مَسؤُولِيَّتَهُ وَيُقَصِّرَ، وَكَأَنَّهُ لم يَقرَأْ قَولَ رَبِّهِ سبحانه: {وَأَوفُوا بِالعَهدِ إِنَّ العَهدَ كَانَ مَسؤُولاً (34) وَأَوفُوا الكَيلَ إِذَا كِلتُم وَزِنُوا بِالقِسطَاسِ المُستَقِيمِ ذَلِكَ خَيرٌ
وَأَحسَنُ تَأوِيلاً(35)} [الإسراء].
وَقَولَهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوفُوا بِالعُقُودِ(1)} [المائدة]
وليعلم أن إِنَّ الأَمَانَةَ ثَقِيلَةٌ وَالمَسؤُولِيَّةَ عَظِيمَةٌ{إِنَّا عَرَضنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَالجِبَالِ فَأَبَينَ أَن يَحمِلنَهَا وَأَشفَقنَ مِنهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً(72) لِيُعَذِّبَ اللهُ المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقَاتِ وَالمُشرِكِينَ وَالمُشرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى المُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا(73)} [الأحزاب].
العنصر الثالث : مجالات الإتقان :
1ـ الاتقان في الأمور التعبدية
مجالات الإتقان كثيرة، نحن نراها في العبادات بأنواعها... فمثلاً في الوضوء ،عن عثمانَ بن عفانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّهِ (ﷺ): }منْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الوضوءَ، خَرَجَت خَطَايَاهُ مِنْ جسَدِهِ حتَّى تَخْرُجَ مِنْ تحتِ أَظفارِهِ ]{رواه مسلم[.
وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال : رسول الله (ﷺ)} لَا يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَومَ الجُمُعَةِ، ويَتَطَهَّرُ ما اسْتَطَاعَ مِن طُهْرٍ، ويَدَّهِنُ مِن دُهْنِهِ، أوْ يَمَسُّ مِن طِيبِ بَيْتِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ فلا يُفَرِّقُ بيْنَ اثْنَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي ما كُتِبَ له، ثُمَّ يُنْصِتُ إذَا تَكَلَّمَ الإمَامُ، إلَّا غُفِرَ له ما بيْنَهُ وبيْنَ الجُمُعَةِ الأُخْرَى{.]صحيح البخاري[
وقال تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ (43)}]البقرة[.
وهذه الإقامة تتضمن الإتقان والإحسان والإتمام، وكذلك فإن هذا الإتقان يعود على صاحبه بالمنفعة العظيمة، ولقد رد النبي (ﷺ) هذا الرجل الذي لم يتقن الصلاة وقال له ارجع فصل فإنك لم تصلي ، ففي البخاري عن أبي هريرة: أن النبي (ﷺ) دخل المسجد، فدخل رجل، فصلى، ثم جاء، فسلم على النبي (ﷺ) فرد النبي (ﷺ) فقال: }ارجع فصل فإنك لم تصل»، فصلى، ثم جاء، فسلم على النبي (ﷺ) فقال: «ارجع فصل، فإنك لم تصل» ثلاثا، فقال: والذي بعثك بالحق، فما أحسن غيره، فعلمني، قال: «إذا قمت إلى الصلاة، فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها{.
2ـ الإتقان في العلم :
العلم لا بد فيه من الإتقان، بأي شيء، بمراجعة الحفظ، بالفهم والتدبر فيه، وبالنظر والمطالعة والمذاكرة، وبالعمل به، وبتدريسه والاستعانة بذلك على تثبيته، والإتقان في طلب العلم بالبدء بالأصول والقواعد، قال العلماء: من لم يتقن الأصول حُرم الوصول .
فعن أبي عبد الرحمن السّلمي أنه قال: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن، كعثمان بن عفان وعبد الله ابن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلّموا من النبيّ (ﷺ) عشر آياتٍ لم يجاوزوها حتى يتعلّموا ما فيها من العلم والعمل. قالوا: فتعلّمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً .
فالعلماء الربانيون يتميزون بالحفظ والإتقان .
وقضية الإتقان هذه وجدناها حتى في تعلم اللغات، وكان زيد بن ثابت رضي الله عنه رأساَ في هذا الباب، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ أَبَاهُ زَيْد بْن ثَابِت أَنَّ النَّبِي (ﷺ) قَالَ: }يَا زَيْدُ تَعَلَّمْ لِي كِتَابَ يَهُودَ، فَإِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابِي{.
قَالَ زَيْدٌ: فَتَعَلَّمْتُ كِتَابَهُمْ مَا مَرَّتْ بِي خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حَتَّى حَذَقْتُهُ[أَتْقَنْته وأحكمته].
هذا تعلم اللغة السرياينية، لغة اليهود . قال : فَكُنْتُ أَكْتُبُ لَهُ إِذَا كَتَبَ، وَأَقْرَأُ لَهُ إِذَا كُتِبَ إِلَيْهِ. ]رواه الترمذي وأبو داود وهو حديث صحيح[ .
تعلم زيد بن ثابت الفارسية من رسول كسرى في ثمانية عشر يوماً، وتعلم الحبشية والرومية والقبطية من خدام رسول الله (ﷺ).
وأمر بالإتقان في قراءة القرآن فقد قال عليه الصلاة والسلام : }الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ{ ]رواه البخاري ومسلم[ .
كذلك مطلوب من كل متعلم في مجال أن يتقن ويجود علمه اتقانا جيدا حتي يستطيع أن يخدم الدين والوطن .
3ـ الإتقان في الأعمال الدنيوية :
إن الإتقان في المفهوم الإسلامي ليس هدفاً سلوكياً فحسب، بل هو ظاهرة حضارية تؤدي إلى الرقي والتطور، وعليه تقوم الحضارات، ويعمر الكون، وتثرى الحياة.
فالموظف والتاجر، والمعلم والطبيب، والعامل والمدير، والقاضي ورجل الأمن، والمسؤول والسائق، والنجار وعامل النظافة، والمهندس؛ يجب يتقنوا أعمالهم.
فلا غش ولا خداع، ولا إهمال ولا تقصير؛ لأن العمل في الإسلام عبادة، وهو إذاً أمانة، وقد حذر المولى سبحانه وتعالى من ذلك، فقال:}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ(27){ [لأنفال].
كتب وهب بن منبه، وكان على بيت مال المسلمين في اليمن إلى عمر بن العزيز رضي الله عنه، يقول له: "إني فقدت من بيت مال المسلمين ديناراً" فكتب إليه عمر: "إني لا أتهم دينك ولا أمانتك، ولكن أتهم تضييعك وتفريطك، وأنا حجيج المسلمين في أموالهم، ولِأدناهم عليك أن تحلف، والسلام".
لما كان الإتقان والحرص في الأعمال؛ حُفظت الأموال، وتطورت البلاد، وازدهرت حضارة المسلمين، وانتشر العلم، وعم الرخاء.
هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان الإتقان في عمله وإدارة شؤن الناس صفة ملازمة له ، طوال حياته.
تقول زوجته عاتكة بنت زيد: "قلت: يا أمير المؤمنين! لو نمت فإنك لا تنام في الليل ولا في النهار، قال: لو نمت في الليل ضاعت نفسي، ولو نمت في النهار ضاعت رعيتي" فمرّ هو وأسلم مولى له إلى خيمة، فوجد امرأة تسهر وصبيانها من الجوع -الشعب جائع، والأمة في برد ومرض، ولكن الخليفة يقف على الأبواب وإذا بِقِدرٍ فيه حصى، وتُلهيهم به حتى ينامون, ثم قالت: "أوآه يا عمر قتلت الأطفال".
لقد كانت قضية الإتقان عند المسلمين ليست خاصة بالشعائر التعبدية، ولا بالعلوم الشرعية ، وإنما أيضاً في الأعمال الدنيوية ، لأن الدين يُخدم بها.
وهذه بعض المجالات التي يظهر فيها أهمية الإتقان:
1ـ الإتقان في البناء والعمارة :
لقد قص الله علينا في كتابه الكريم إتقان ذي القرنين في البناء،قال تعالي{حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ بَيۡنَ ٱلسَّدَّيۡنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوۡمٗا لَّا يَكَادُونَ يَفۡقَهُونَ قَوۡلٗا (93) قَالُواْ يَٰذَا ٱلۡقَرۡنَيۡنِ إِنَّ يَأۡجُوجَ وَمَأۡجُوجَ مُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَهَلۡ نَجۡعَلُ لَكَ خَرۡجًا عَلَىٰٓ أَن تَجۡعَلَ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَهُمۡ سَدّٗا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيۡرٞ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجۡعَلۡ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُمۡ رَدۡمًا (95)} ]الكهف[
ما أخذ منهم مالاً {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ}. فأعينوني : استثارهم، نأتي للهدف والنتيجة وهي تحصل بماذا{أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً}.
وضع خطة العمل، وما أعطاهم كتالوج ضخم كبير، بل أعطاهم الخطة مفصلة على أجزاء، و مراحل ،فهذا الإتقان في الصنعة بهذه الطريقة العظيمة يدل عليها ذلك البنيان.
قال ابن كثير: وأما السد فقد بناه ذو القرنين من الحديد والنحاس وساوى به الجبال الصم الشامخات الطوال، فلا يعرف على وجه الأرض بناء أجل منه ولا أنفع للخلق منه في أمر دنياهم.
فلو قيل ما هو أنفع بنيان في العالم، فهو سد ذي القرنين، لأنه لو لم يكن موجوداً لخرجوا على الناس وأفسدوا الدنيا.
ومن أعظم مواقف الإتقان في السيرة النبوية ، موقف حفر الخندق :
كانت عملية حفر الخندق متقنة لدرجة أن قريش والعرب وغطفان وعشرة آلاف
مقاتل ما استطاعوا أن يقتحموا، لقد كانت المدينة ، ولا زالت محاطة بالحرتين من المشرق والمغرب ومن الجنوب البنيان والبساتين وكان المنفذ الوحيد الذي يمكن للجيش الغازي أن يدخل منه المدينة هو الجهة الشمالية، فحفر الخندق من الشمال، من طرف الحرة الشرقية إلى طرف الحرة الغربية، ووزع الحفر بين المسلمين، فأعطي لكل عشرة أربعين ذراعاً، وأتموا الحفر في مدة وجيزة، وكان طول الخندق خمسة آلاف ذراع، وعمقه لا يقل عن سبعة أذرع، وعرضه لا يقل عن تسعة، هذا الإتقان للعمل جعل كفار العرب يقفون حائرين عنده، لا يستطيعون اقتحام المدينة، فقال الله تعالي فيهم{ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا ۚ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)] {الأحزاب[.
2 ـ الإتقان في الصناعات :
الإتقان في الصناعات واضحة جداً، ولو أخذنا مثلاً في مسألة الصناعة، ما علّمه الله لنبيه داود عليه السلام، فقد علّمه صنعة الحديد، {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ} سابغ لكل الجسم { لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ } لتحصنكم من بأسكم وتقيكم ضربات المقاتلين{فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ}هذا الدروع تُلبس، {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ } أول من صنع الدروع وسردها والحلق هو سيدنا داود عليه السلام، وكانت من قبل صفائح، والدرع يجمع الخفة والحصانة، لتحرزهم من بأس العدو، وطعن السلاح، ومن فضل الله أنه ألان لداود الحديد، ليعملها سابغات، وعلّمه عز وجل وأمره أن يقدر في السرد، فيقدره حلقاً، ويدخل بعضها في بعض، وقال له {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ(11)}] سبأ[ .
تقي كل الجسد، ولا تضيق على لابسها،{وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} فالمسمار بحسب الحلقة، فلا تجعل المسامير دقاقاً فتفلت، ولا غلاظاً فتكسر الحلق، قدّر في السرد، اجعله على قدر الحاجة، هذه العملية الإتقانية في مسألة الصناعة اللازمة للجهاد، كانت من شأن داود عليه السلام ، وفي هذا درس عظيم لهذه الأمة .
3ـ الإتقان في الأعمال المهنية :
قال رسول الله (ﷺ)}مَنْ تَطَبَّبَ وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ طِبٌّ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ{ ]أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه ، وحسنه الألباني[.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: " وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الطَّبِيبَ إذَا لَمْ يَتَعَدَّ لَمْ يَضْمَنْ، بِأَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْحِذْقِ فِي صَنْعَتِهِ.
العنصر الرابع : العوامل المؤدية إلي الإتقان :
1- مراقبة الله عز وجل في جميع الأعمال والتصرفات:
إذ لا يُعقل من مسلم أن يدعي الإتقان في عمله دون أن يراقب فيه ربه سبحانه
وتعالى, والرسول (ﷺ) في حديث الإيمان يقول عن الإحسان الذي هو ثمرة الإتقان }أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك{
فالإيمان يربي الضمائر، ويهذب الأفعال، وينفث في روع المسلم وقلبه عقيدة الخوف من الله ومراقبته، فيعتقد أنه ما من عمل يقوم به إلا وهو محاسب عليه، أو مجزيٌ به عند الله الذي لا يعزب عن علمه وقدرته وسلطانه ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا يضيع عنده سبحانه عمل عامل مهما قل أو كثر، قال تعالى: }وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ(47){[الانبياء].
2- مراعاة الأولويات في العبادات والمعاملات، والتوازن في كل الأمور
فالإتقان يحتم على المسلم أن يرتب أفعاله وتصرفاته، فلا يقبل أن يتقن المسلم أمرا مستحبا أو سنة من السنن وهو مقصر في فريضة من الفرائض، والتوازن مطلوب في كل شيء، وديننا دين التوازن.
فعن أبي الدرداء رضي الله عنه الذي قال له الرسول (ﷺ) }إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، أَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، وَائْتِ أَهْلَكَ { ] أخرجه البخاري[ .
3- الإيجابية المستمرة :
فالمتقن لعمله يكون إيجابيا في كل زمان ومكان، وقد أشار تعريف الإتقان إلى بذل الجهد والفكر في تطوير العمل وتجويده، ولا يتم التطوير إلا ببذل الجهد والفكر، وهذا هو عين الإيجابية، فها هو الحباب بن المنذر يبذل الجهد والفكر في المكان الذي نزل به جيش المسلمين ببدر، ويشير على الرسول (ﷺ) بأدب جم: يا رَسُول اللَّهِ ، أمنزل أنزلكه اللَّه ليس لنا أن نتعداه، ولا نقصر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ ، فيجيبه الرسول (ﷺ) ( بل هو الرأي والحرب والمكيدة )...الحديث
4- الجد والاجتهاد في إيجاد فرصة عمل مناسبة :
فنجد الإسلام يحض على العمل، ويحثُّ على السعي والكسب، ففي الحديث الذي يرويه المقداد يقول النبي (ﷺ)}ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده{ ] رواه البخاري[.
وروي عن الزبير بن العوام رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ (ﷺ) قَالَ :}لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ {. ]رواه البخاري [
5- التوكل على الله مع الأخذ بالأسباب :
فالمسلم يحسن التوكل على الله في سعيه، مع أخذه بالأسباب وجده واجتهاده؛ وهو حق التوكل الذي أخبرنا عنه نبينا (ﷺ) بقوله: }لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله, لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا, وتروح بطانا{ ] أخرجه الترمذي وابن ماجة وأحمد[.
6ـ التخصص :
أمر الإسلام بوضع الموظف والعامل المناسب في المكان المناسب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما النبي في مجلس يحدث القوم، جاءه أعرابي، فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله (ﷺ) يحدث، فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره، وقال بعضهم: بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه ، قال: أين السائل عن الساعة ؟ قال: ها أنا يا رسول الله، قال: }إذا ضُيِّعَت الأمانة فانتظر الساعة"، قال: كيف إضاعتها ؟ قال: "إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة{ [صحيح البخاري].
وحتي لا يكون الأمر فوضى، لا بد من تحديد الواجبات وتوزيع المسؤوليات، كي لا تتبعثر الجهود وتتضارب الأعمال، فلكل فرد من أفراد المجتمع أوالمؤسسة دوره ؛ ومما يدل على هذا الأمر أعظم دلالة ما ثبت من تعدد تخصصات الملائكة الكرام، فجبريل عليه السلام موكل بإبلاغ الوحي من الله سبحانه وتعالى لأنبيائه عليهم السلام، وبإنزال العذاب بكثير من الأمم المكذبة التي حل بها عذاب الله وانتقامه، وميكائيل عليه السلام موكل بقطر السماء، وإسرافيل موكل بالصور، فهو قد التقمه ينتظر الإذن من الرب جل وعلا كي ينفخ فيه فيصعق من في السماوات والأرض إلا من شاء الله، وللأرواح ملك كريم موكل بقبضها، وللجبال ملك، وللسحاب ملك، ورضوان على باب الجنة، ومالك خازن النار، وملائكة للرحمة، وملائكة للعذاب، وملائكة للحسنات وملائكة للسيئات ، ومنكر ونكير لسؤال القبر، وهكذا.
ولقد اتبع ذلك رسول الله (ﷺ) حيث قَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: }يَؤُمُّ القَومَ أَقرَؤُهُم لِكِتَابِ اللهِ{. ]رَوَاهُ مُسلِمٌ [.
وَفي قِصَّةِ رُؤيَا عَبدِ اللهِ بنِ زَيدٍ لِلأَذَانِ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ (ﷺ)}فَقُمْ مَعَ بِلالٍ فَأَلْقِ عَلَيهِ مَا رَأَيتَ؛ فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ، فَإِنَّهُ أَندَى صَوتًا مِنكَ{. ]رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ[.
وفي الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي وغيره، قال النبي (ﷺ): }أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقرؤهم لكتاب
الله أبي بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ألا وإن لكل أمة أميناً، وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح{ ]سنن الترمذي[،
وكان بلال يؤْذِن رسول الله (ﷺ) بدخول الوقت ويؤَذِّن، وكان عبد الله بن مسعود يحمل له نعليه وطهوره ووساده، وكان رجال من أصحاب النبي (ﷺ) يحرسونه حتى نزلت: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ(67)} [المائدة]،وكان حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أمين سره الرسول (ﷺ)، ومما يدل على هذا قوله تعالى{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(43)} [النحل] ، فلكل تخصصه الذي يجيده، سواء ما تعلق بأمور الدين أوالدنيا، وبمثل هذا حاز المسلمون الأوائل قدم السبق في شتى المجالات، فعن ابن أبي أويس قال: }سمعت خالي مالك بن أنس يقول: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، لقد أدركت سبعين عند هذه الأساطين -وأشار إلى مسجد الرسول (ﷺ) يقولون: قال رسول الله (ﷺ)، فما أخذت عنهم شيئاً، وإن أحدهم لو ائتمن على بيت مال لكان به أميناً إلا أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن، ويقدم علينا محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب وهو شاب فنزدحم على بابه{ .
فجلالة المرء وديانته وأمانته شيء، وتخصصه في علم الحديث أو غيره من الأمور شيء آخر، وبهذا يعلم بطلان المبدأ الفاسد الذي سنه أهل الاستبداد من تقديم المقربين منهم وإن لم يكونوا أهلاً لما أوكل إليهم على أهل الخبرة من غير المقربين.
وكل إنسان متقن لصنعته وماهر فيها ويحب عمله يُكمل المنظومة كلها فتسعد الدنيا كلها .
سُئل عامل النظافة بوكالة ناسا الفضائية عن طبيعة عمله، فأجاب مفتخرا والممسحة في يده : أنا أساهم في إطلاق الصواريخ إلى الفضاء!!
عامل بسيط ينتمي إلى عمله أيا كانت طبيعته، يفخر به ولا يحتقره، لأنه يدرك بذكائه الفطري أن العمل ليس بدرجته ومسماه، وإنما بحقيقته ومعناه، فهو في النهاية يسهم بهذا العمل في تحقيق منجز عظيم وهو نهضة أمته وحماية وجودها وضمانة رقيها.
إن عنوانا ضخما نستطيع أن نقرأه من خلف تلك الإجابة العفوية يقول: إن أمة تحترم قيمة العمل، أمة تستحق الحياة!
العنصر الخامس : آثار عدم الإتقان :
لغياب الإتقان عن أعمال أفراد الأمة الإسلامية آثار عديدة، وعوافب وخيمة، على
مستوى المجالات كافة من أهمها:
1- الإساءة إلى الدين وتشويه صورته:
حيث لا يقف الأمر عند عدم جودة الأعمال، بل يمتد ذلك حتى ينسب التخلف إلى
أمة الإسلام جميعها، وربما وصل الأمر إلى أن ينسب التخلف للدين ذاته، مع أن الإسلام يحث بشدة على إتقان العمل وجودته، ويدفع أفراده إلى كل سلوك جيد.
2- تأخر النصر:
إذ كيف ننتظر النصر من أمة لا تحسن التدبير لمستقبلها، ولا تأخذ بأسباب النصر، حتى وصلنا إلى أن يكون الجزاء الذي نستحقه من جنس العمل، ولقد صدق رسول الله (ﷺ) حين قال: } إِنَّمَا النَّاسُ كَالْإِبِلِ الْمِائَةِ لَا تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً { ] رواه البخاري ومسلم[
3- ازدياد التخلف في المجتمعات الإسلامية عن ركب الحضارة والتقدم في شتى المجالات.
4- انتشار الصفات والعادات السلبية في المجتمع:
انتشار الصفات والعادات التي تُودي بمجتمعنا المسلم إلى الهاوية ؛ كالفوضى والتسيب وفقدان النظام وعدم المبالاة بقيمة الوقت واختفاء الإحساس الجمعي والإهمال والغش والخديعة..
5- تأخر المجتمعات المسلمة في أهم مجالات الحياة:
فكثير من أفراد الأمة يقلدون ما يقوم به غيرهم ويستخدمون ما يصنعه غيرهم، ويلبسون ما ينسجه غيرهم، ويأكلون ما يزرعه غيرهم، حتى سلاحهم مما يصنعه غيرهم.
العنصر السادس : ثمرة الإتقان وفائدته :
لإتقان العمل في الحياة آثار عديدة وفوائد جمة، فهو يكسب الفرد المسلم، بل والأمة المسلمة الإخلاص في العمل؛ لأنه يرتبط بالمراقبة لله، وكذلك يجعل المسلم بعيدا عن النفاق والرياء، فلا يكون لنا من نراقبه إلا ربنا تبارك وتعالى وحينئذ تستريح قلوبنا وضمائرنا، ومن أهم ثمرات الإتقان :
1ـ أن ينال المسلم رضا الله عز وجل ، فلا يستوي عند الله الجاد والكسول، ولا العامل والخامل.
2ـ إعمار الأرض، والاستفادة مما فيها من ثروات وخيرات، لا يصل إليها الإنسان إلا بالعلم والعمل الجاد.
3ـ رفعة شأن الأمة، وإظهار المجتمع المسلم بصورة حسنة، وانتشار العادات الحسنة...إلخ.
4ـ اعتماد الأمة علي نفسها في انتاج ما تحتاجة فيكون لها المنعة والقوة ويتحقق لها السيادة والريادة .
وأخيرا على كل فرد منا مسؤولية جسيمة تجاه ذلك، وعلى قدر استطاعته يكون عظم مسؤوليته، والله سائل كل راع عما استرعي، وليبدأ كل منا بنفسه من الآن فلا يخطو خطوة إلا وهو يخطط لإتقان خطوته، ولا يتصرف تصرفا كبر أم صغر إلا وهو يحسن التدبير له، ويحث من هم تحت ولايته على الإتقان ويغرس فيهم أن هذا دين لله تعالى، وأن الإتقان والإحسان تعبد لله عز وجل.
وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ}كُلُّكُم رَاعٍ وَمَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ في أَهلِهِ وَمَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ، وَالمَرأَةُ رَاعِيَةٌ في بَيتِ زَوجِهَا وَمَسؤُولَةٌ عَن رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ رَاعٍ في مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُم رَاعٍ وَمَسؤُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ{. ]رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ[.
العنصر السابع : صور تنافي الإتقان :
1ـ أن يذهب العامل إلى عمله متثاقل الخطى خامل النفس متأخرا عن الموعد المحدد وتجده يزاحم زملاءه ليوقع انصرافه فيخسر العمل ساعة في أوله وساعة في آخره
2- في أثناء فترة العمل المحددة تجده يخرج لقضاء مصالحه الشخصية ويعطل مصالح الناس ، يفطر ويشرب الشاي ويقرأ الصحف ويهاتف الأصحاب والبيت.
3ـ يعامل الناس بغلظة شديدة وبدل أن ييسر لهم مصالحهم ويسعى في إنجازها يضع العراقيل حتى ييأس الناس ويدركوا أنهم لا محالة سيرجعون خائبي الرجاء يفعل ذلك ليجبر الناس على البحث عن حلول ملتوية كالرشوة والوساطة وقد لعن رسول الله (ﷺ) }الراشي والمرتشي { كما في الحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجة عن عبد الله بن عمرو، إنه بهذا يرتكب جريمتين عظيمتين : الخيانة في العمل، وأكل أموال الناس بالباطل.
4ـ غش الصنعة ومداراة ذلك طمعا في الربح السريع، ألا يعلم ذلك المحتال أن فعلته الشنعاء تلك تخرجه من جماعة المسلمين لقوله (ﷺ): }من غشنا فليس منا {
] مجمع الزوائد [، ووجود مثل هذه الصور البغيضة التي لا تحتكم إلا إلى المنفعة الذاتية والمصلحة الشخصية الضيقة عقبة كأداء في نمو الحياة وتطورها بل إنها تفرز عللا وأمراضا تنخر في عظام المجتمع وتهد بنيانه .
وأخيرا .. علينا أن نؤدي عملنا بصدق وإخلاص ومراقبة لله تعالى ، وأن ننتظر المكافئة الكبرى من الله تعالى " هل جزاء الإحسان إلا الإحسان " نسأل الله تعالى أن يرزقنا الصدق في القول والإخلاص في العمل إنه ولي ذلك والقادر عليه إنه نعم المولى ونعم النصير .
تمت بفضل الله تعالى وتوفيقه