الإبل في الإسلام – دروس وأحكام- (9) (عجوز بني اسرائيل)

محمد بن إبراهيم النعيم
1442/06/12 - 2021/01/25 04:35AM

 

في أحد أسفار النبي وجد النبيُ خيمةً لأعرابي، فنزل في ضيافته، فأكرم ذلك الأعرابيُ رسول الله ، فأراد النبيُ أن يردَّ الجميل كعادته، كيف لا، وهو القائل: (مَن صَنَع إليكم معروفًا فكافئوه، فإنْ لم تَجِدوا ما تكافئونه، فادْعُوا له حتى تَرَوْا أنَّكم قدْ كافأتموه)، فطلب النبيُ من الأعرابي أن يأتيه ليكرمه، فلما جاءه، قال له النبي (سَلْ حَاجَتَكَ)، أي اطلب ما تشاء.

فماذا تتوقعون أن يطلب هذا الأعرابي وهو أمام نبي وحاكم، بل أمام أفضل الأنبياء والمرسلين عند الله عز وجل، أمام نبيٍّ لو سأل الله عز وجل لأحد شيئاً من أمر الدنيا أو الآخرة لا يُرد طلبه، ولكن ذلك الأعرابي لم يغتنم الفرصة، نعم إنها فرصة العمر، التي قد لا تعود إليه، فلم يسأل الدرجة العالية من الجنة، ولم يسأل مرافقة النبي في الجنة، بل ولم يسأل أن يكون غنياً في الدنيا، لعله أن يستفيد من هذا المال بالتقرب إلى الله عز وجل بإكثار الصدقات ومساعدة المحتاجين، وإنما سأل النبيَ ناقةً ليركبها، فقال رسول الله لذلك الأعرابي ولبقية الصحابة الحاضرين: (أَعَجَزْتُمْ أَنْ تَكُونُوا مِثْلَ عَجُوزِ بَنِي إِسْرَائِيلَ)؟؟؟؟    فما قصة عجوز بني اسرائيل؟ 

أيها الأخوة في الله

كنا في سلسلة من الخطب تحت موضوع الإبل في الإسلام دروس وأحكام، ومع الخطبة التاسعة من هذه السلسلة؛ لنتحدث عن حال كثير من الناس، ممن اغتروا بهذه الحياة، فجعلوا الدنيا أكبر همهم، فحرصوا على متاعها فقط، وتغافلوا عن آخرتهم التي إليها معادهم، وما ذلك إلا لضعف إيمانهم ويقينهم بالآخرة.

فعن أبي موسى الأشعري قال: نزل رسولُ الله بأعرابي فأكرمه، فقال له رسول الله : (تعهدنا ائتنا) فأتاه الأعرابي، فقال له رسول الله : (سَلْ حَاجَتَكَ)، فقال: ناقةً برحلها وأعنزاً يحلبها أهلي، فقال رسول الله : (أَعَجَزْتُمْ أَنْ تَكُونُوا مِثْلَ عَجُوزِ بَنِي إِسْرَائِيلَ)؟ فقال أصحابه: يا رسول الله وما عجوز بني إسرائيل؟ قال: إن موسى، لَمَّا سَارَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ من مصر، ضلوا الطَّرِيق، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ عُلَمَاؤُهُمْ : إن يوسف، لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ ، أَخَذَ عَلَيْنَا مَوْثِقًا من الله تعالى أن لا نَخْرُجَ مِنْ مِصْرَ ، حَتَّى نَنْقُلُ عِظَامَهُ مَعَنَا ، قَالَ : فَمَنْ يَعْلَمُ موضع قبره ؟ قالوا: ما ندري أين قبر يوسف إلا عجوز من بني إسرائيل، فَبَعَثَ إِلَيْهَا فَأَتَتْهُ ، فقال دلوني على قبر يوسف، قالت: لا والله لا أفعل حتى تعطيني حكمي، قال: وما حكمك؟ قالت: أَكُونَ مَعَكَ فِي الْجَنَّةِ ، فكره أَنْ يُعْطِيَهَا ذَلِكَ ، فأوحى الله تعالى إِلَيْهِ : أَنْ أَعْطِهَا حُكْمَهَا، فَانْطَلَقَتْ بِهِمْ إِلَى بُحَيْرَةٍ (مَوْضِعِ) مُسْتَنْقَعِ مَاءٍ ، فَقَالَتْ : أَنْضِبُوا هَذَا الْمَاءَ ، فأنضبوا، قالت احفروا وَاسْتَخْرَجُوا عظام يوسف ، فَلَمَّا أَقَلُّوهَا إلى الأرض ، إذ الطريق مثل ضوء النهار، رواه الحاكم وأبو يعلى وصححه الألباني .

هذا الحديث لا يتعارض مع قول النبي : (إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)؛ لأن المقصود بالعظام هنا بالبدن، وقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما، أَنَّ النَّبِيَّ لَمَّا بَدَّنَ قَالَ لَهُ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ: أَلا أَتَّخِذُ لَكَ مِنْبَرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَجْمَعُ أَوْ يَحْمِلُ عِظَامَكَ؟ قَالَ: (بَلَى)، فَاتَّخَذَ لَهُ مِنْبَرًا مِرْقَاتَيْنِ – أي له درجتين- رواه أبو داود، فهم يطلقون "العظام"، ويريدون البدن كله، من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل. 

أيها الأخوة في الله

لقد تعجب النبي من طلب الأعرابي، فإنه لم يطلب من أمور الآخرة شيئاً، فلم يقل كما قال ذلك الصحابي الذي خدم النبي وقدَّم له الوضوء ثم قال له: يا رسول الله! حاجتي، قال: (وَمَا حَاجَتُكَ)؟ قَالَ: حَاجَتِي أَنْ تَشْفَعَ لِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ: (وَمَنْ دَلَّكَ عَلَى هَذَا)؟ قَالَ: رَبِّي، قَالَ: (إِمَّا لا، فَأَعِنِّي بِكَثْرَةِ السُّجُودِ)، فاستغل هذا الرجل هذه الفرصة العظيمة، حينما قال له النبي : (أَلَكَ حَاجَةٌ)؟ واستغلها صحابة آخرون ومنهم عُكَّاشة حينما ذكر النبيُُ بأنه سيدخل الجنة من أمته سبعون ألفاً الجنة بلا حساب ولا عذاب، فَقَالَ عُكَّاشة: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: (اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ)، فاغتنمَ هذه الفرصة فأصبح أسعد رجل في العالم؛ لأنه ضمن دخول الجنة بلا حساب. 

ولكن هذا الأعرابي لم تكن همته عالية، فلم يسأل عن أمور الآخرة، وهو في حضرة النبي ، بل ولم يسأل من أمور الدنيا الشيء الكبير والعظيم، وإنما سأل أن يمنح بعيراً وغنيمات، يمكنه أن يطلب ذلك كله من أي تاجر، فقال النبي لأصحابه (أَعَجَزْتُمْ أَنْ تَكُونُوا مِثْلَ عَجُوزِ بَنِي إِسْرَائِيلَ)؟ لأنها كانت امرأة ذكية، لم تسأل موسى عليه السلام عرضاٌ من أعراض الدنيا زائلاً

فالشاهد من هذه القصة، أن المسلم في هذه الحياة، عليه أن يغتنم الفرص التي تمر عليه وقد لا تتكرر. ولكن هل هناك نبي من الأنبياء في عصرنا الحاضر يمكنُ أن نذهبَ إليه فنقولُ له: ادع الله لنا؟ أو أن نغتنم الفرصة عنده، فنعرض عليه حاجاتنا؟ 

الحقيقة أنه لا يوجد نبي بعد وفاة نبينا ؛ فهو القائل أنه لا نبي بعدي، فبابُ النبي قد أغلق بوفاته، فلا يشرع لأحد الآن أن يتوجه إليه ليسأله أو يطلب الدعاء منه، حتى الصحابة رضوان الله عليهم لم يفعلوا ذلك. 

لما خرج عمرُ بن الخطاب بالناس يستسقي، لم يتوجه إلى قبر النبي ليتوسل به، وإنما توجه إلى العباس عمِ النبيِ ؛ لما رواه البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ إِذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا، قَالَ: فَيُسْقَوْنَ، فلم يتوجه عمر إلى قبر النبي ؛ ليطلب منه الحاجات؛ فكذلك حالنا فلا يشرع لنا التوجه إلى قبر نبينا ، ولا إلى قبر أي رجل صالح، فنعرض عليه حاجاتنا، أو أن نقولَ له ادع الله لنا. 

فإذا كان باب النبي قد أغلق بوفاته ، فهناك باب عظيم لم يغلق، وهو باب الله جل وعلا، قال تعالى وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ،  والذي قال عنه نبيه (إِنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا)، إن هذا الباب العظيم قد ضيعه وفرط فيه كثير من الناس، (تفتح أبواب السماء نصف الليل، فينادي مناد: هل من داع فيستجاب له؟ هل من سائل فيعطى؟ هل من مكروب فيفرج عنه؟) ونحن نائمون، بل قد نكون مستيقظين، فنصف الليل في دول الخليج العربي يبدأ الساعة الحادية عشر والنصف في غالب أيام السنة، ومعظم الناس مستيقظين في هذا الوقت، ولكنهم ينشغلون عنه، فكم ضيعنا من فرص عظيمة لنسأل حاجاتنا ونعرضها على الجواد الكريم، ولا يخفى على الجميع فضل الدعاء، وأن الداعي لن يخسر بدعائه شيئاً، فإما أن يستجيب الله له ولو بعد حين، أو يدخره له يوم القيامة، أو يصرف عنه من السوء.

كما أن هناك أوقاتا أخرى يستجاب فيها الدعاء فتسأل فيها حاجتك، فعند السجود تكون أقرب إلى ربك، وقد أمرنا النبي بالإكثار من الدعاء أثناء السجود فقمن أن يستجاب لنا، وكذلك بعد كل أذان، فإذا أذن المؤذن فتحت أبواب السماء واستجيب الدعاء. فلا تكونوا مثل ذلك الأعرابي، وكونوا كعجوز بني اسرائيل، التي أهمها أمر الآخرة، فحقق الله مرادها.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب، ومجيب دعوة العبد، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه، صلى الله عليه وعلى آل بيته الطاهرين وعلى صحابته الغر الميامين، وعلى كل من سار على نهجه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

إن قصة الأعرابي وقصة عجوز بني اسرائيل التي بدأنا بها الخطبة تمدنا بفوائد ودروس عديدة أجملها في فائدتين:

أولها: ينبغي عليك إذا سألت الله عز وجل أن لا تسأله عن أمور الدنيا فقط، وتنسى أمر الآخرة، ولذلك جاء قوله تعالى )فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ(، في معرض تصحيح مفاهيم وأخطاء، كان أهل الجاهلية يرتكبونها أثناء حجهم؛ أنهم كانوا يسألون الله عز وجل لأمور دنياهم ومعاشهم فحسب، ويغفلون عن أمر آخرتهم.

 

فالمسلم ينبغي أن يكون دعاءه يشمل خيري الدنيا والآخرة، فقال الله مؤدبا )وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(، فبعض الناس تراه يسألُ اللهَ عن أمور معاشه وتفريج مشاكله فقط، ولا يسأله مغفرة أو رفعة درجات في الجنة أو اللطف من كربات يوم القيامة، وإن سأل عن ذلك لم يكثر، فأنت تسأل غني كريم عنده أمر الدنيا والآخرة. 

 

والأمر الثاني: اطلب الدنيا على قدر بقاءك فيها، واطلب الآخرة على قدر بقاءك فيها، لذلك لا تعلق قلبك بالدنيا الفانية فتشغله عن الآخرة وهي الباقية، فذلك الأعرابي لما تعلق قلبه بالإبل كثيراً سأل عنها، وغفل عما هو أهم منها، وقد حدث لأعرابي آخر قيل أنه منافق، أشغله بحثه عن جملهِ عن الفوز بالمغفرة. فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : (مَنْ يَصْعَدُ الثَّنِيَّةَ، ثَنِيَّةَ الْمُرَارِ، فَإِنَّهُ يُحَطُّ عَنْهُ مَا حُطَّ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ)، - وثَنِيَّةَ الْمُرَارِ طريقُ بين جبلين عند الحديبية - قَالَ: فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ صَعِدَهَا خَيْلُنَا خَيْلُ بَنِي الْخَزْرَجِ، ثُمَّ تَتَامَّ النَّاسُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (وَكُلُّكُمْ مَغْفُورٌ لَهُ إِلاَّ صَاحِبَ الْجَمَلِ الأَحْمَرِ) فَأَتَيْنَاهُ – أي أتوا إلى صاحب الجمل الأحمر- فَقُلْنَا لَهُ: تَعَالَ يَسْتَغْفِرْ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لأَنْ أَجِدَ ضَالَّتِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِي صَاحِبُكُمْ، قَالَ: وَكَانَ رَجُلٌ يَنْشُدُ ضَالَّةً لَهُ) رواه مسلم.

 

ولذلك حذرنا قائلاً (مَنْ كَانَتْ الآخِرَةُ هَمَّهُ، جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ، جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا قُدِّرَ لَهُ) رواه الترمذي وابن ماجه.

 

وأعلم يا أُخي، أن أعظم الفرص لتغتنمها: هي حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك.

 

اللهم جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، ===اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت=== اللهم أحينا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا === اللهم ارزقنا الثبات حتى الممات، اللهم أصلح لنا ديننا === اللهم احفظ علينا أمننا واستقرارنا، وأصلح ولاة أمرنا....

 

المشاهدات 623 | التعليقات 0