الأمن من مكر الله
هلال الهاجري
الحمدُ للهِ، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شُرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسـولُه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) .. أما بعد:
فإنَّ أحسنَ الحديثِ كلامُ اللهِ تعالى، وخيرَ الهدي هديُ مُحمدٍ صَلى اللهُ عليهِ وسلمَ، وشرَّ الأمورِ مُحْدثاتُها، وكُلَّ مُحْدَثةٍ بِدْعَةٌ، وكُلَّ بِدْعَةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضَلالةٍ في النَّارِ.
للأسف أنَّ هناكَ من يقولُ: إننا في أيامٍ لا يعيشُ فيها إلا من يكسرُ حاجزَ الحرامِ، ويمشي مع مَوجةِ الحياةِ على ما تقتضيهِ الأيامِ، ويُطأطِئُ رأسَه قليلاً حتى لا تُصيبَه السِّهامُ، وليسَ شَرطاً أن تُرضيَ ضميرَك الشَّريفَ على الدَّوامِ.
ويضربُ الأمثلةَ ويقولُ: هل رأيتَ ذلكَ الرَّاشيَ كيفَ تسيرُ مُعاملاتُه، وكيفَ تفوزُ مناقصاتُه، وهل رأيتَ ذلكَ المُرابيَ كيفَ تضخَّمتْ أموالُه، وكيفَ زانتْ أحوالُه، وهل رأيتَ ذلكَ الغَشَّاشَ كيفَ أصبحتْ تجارتُه، وكيفَ تضاعفتْ ثروتُه، وهل رأيتَ ذلكَ الكذَّابَ كيفَ بلغَ قِمَّةَ الشُّهرةِ، وأصبحَ نجمَ السَّهرةِ، وهل رأيتَ ذلكَ السَّخيفَ كيفَ أصبحَ محبوبَ المُشاهدينَ، ومُتابعيهَ بالملايينَ، وهل رأيتَ ذلكَ وذلكَ وذلكَ من الأمثلةِ الكثيرةِ، وأنتَ لا تزالُ تحتفظُ بمبادئكَ القَديرةِ.
فسبحانَ اللهِ .. هل ينبغي أن يكونَ تفكيرُنا سَطحيٌّ في النَّظرِ إلى حقائقِ الأمورِ، بعيداً عن أقدارِ وحكمةِ العزيزِ الغفورِ، اسمعوا معي إلى حديثِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ: (إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ)، ثُمَّ تَلَا: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ)، فالعطاءُ الدُّنيويُّ من اللهِ سبحانَه ليسَ دليلاً للمحبَّةِ، إلا إذا كانَ مع عبادةٍ وشُكرٍ كما قالَ تعالى: (لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ).
هناكَ شيءٌ يُدعى (الأمنُ من مكرِ اللهِ تعالى)، وهو بِبساطةٍ أن يكونَ العبدُ أو القومُ في نِعمِ اللهِ تعالى مُنغمسونَ، وهم على مَعصيتِه مُقيمونَ، فلا هم يُطيعونَ، ولا هُم يشكرونَ، وقد قالَ سبحانَه في أمثالِ هؤلاءِ: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ* أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ).
فلا ينبغي لمن رضيَ باللهِ ربَّاً وبالإسلامِ ديناً وبمحمدٍ صلى اللهُ عليه وسلمَ نبيَّاً أن يعيشَ لحظتَه فقط على أيِّ حالٍ كانَت، ولا يُبالي بِما أخذَ واكتسبَ، أمِن حلالٍ هو أو حرامٍ، ولا ينظرُ إلى عملِه، أهو في نورٍ أو في ظَلامٍ، ودونَ أن يَنظرَ إلى عواقبِ الأمورِ والمآلاتِ، وبينَ أيدينا كتابُ اللهِ يُخبرنا بالنَّتائجِ والنِّهاياتِ، واسمع لمن أرادَ العاجلةَ بأيِّ طريقةٍ، وبأيِّ وسيلةٍ، (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ، أقولُ قَولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المؤمنينَ من كلِّ ذَنبٍ، فاستغفروه حقًّا، وتوبوا إليه صِدقًا، إنه هو الغَفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشُّكرُ له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، صلى اللهُ عليه وآلِه وصَحْبِه، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا .. أما بعد:
لقد أخبرنا اللهُ تعالى في كتابِه عن كثيرٍ من الأقوامِ والأفرادِ المشاهيرِ، الذينَ أنعمَ اللهُ تعالى عليهم ولكنْ كانَ منهم الفسادُ الكثيرُ، وماذا كانَ جزاءُ مَن أمِنَ مكرَ اللهِ العزيزِ القديرِ، فَهَذا مَنْ اغترَّ بمُلكِه ومَنصبِه، فَماذا كانَ جزاءُ عِصيانِه وكَذبِه، (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى)، وأخبرنا عزَّ وجلَّ عمَّنْ أطغاهُ مالُه وغِناهُ، ونَسيَ من تفضَّلَ عليه وأغناهُ، (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ)، وأَخبرَنا عن جزاءِ من أُوتيَ عِلماً كثيراً، فاشترى به ثمناً من الدُّنيا حَقيراً، (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا).
وأخبرَ عن عقابِه العامِ الذي ينتظرُ أهلَ المعاصي والسيِّئاتِ، الذينَ أمنوا مكرَ ربِّ الأرضِ والسمواتِ، (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ* أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ)، وهكذا تَتَابعُ في القرآنِ القَصصُ الكثيرةُ والأمثالُ، عِبرةً وعِظةً للنَّاسِ من جحدِ نِعمةِ الكبيرِ المُتعالِ.
فَكَمْ قَدْ رَأَيْنَا ظَالِماً مُتَمَرِّداً *** يَرَى النَّجْمَ تِيهاً تحْتَ ظِلِّ رِكابِهِ
فَعَمَّا قليلٍ وَهْوَ في غَفَلاتِهِ *** أَنَاخَتْ صُروفُ الحادِثَاتِ بِبابِهِ
فَأَصْبَحَ لا مَالٌ وَلاَ جاهٌ يُرْتَجَى *** وَلا حَسَناتٌ تَلْتَقي فِي كتَابِهِ
وجُوزيَ بالأَمرِ الذي كَانَ فَاعلاً *** وصَبَّ عليهِ اللهُ سَوطَ عَذابِهِ
اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تَحُولُ بِهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغْنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ اليَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا، اللَّهُمَّ مَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّاتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا، وَاجْعَلْهُ الوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا، وَلا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا وَلا تَجْعَلْ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا، وَلا مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لا يَرْحَمْنَا، يا أكرمَ الأكرمينَ.
المرفقات
1670384980_الأمن من مكر الله.docx
1670384985_الأمن من مكر الله.pdf