الأمن النفسي
أحمد المقبل
خطبة (الأمن النفسي) ١٩/٢/١٤٤٦
الحمد لله السلام ، الذي سَلِم من كل نقصٍ وآفةٍ وعيب ، في ذاته وفي صفاته وفي أسمائهِ وأفعاله ، وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له ، سلّم أولياءَه من مخاوف الدنيا والآخرة ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أكملُ المؤمنين إيماناً وأهنأهم عيشا ، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما .
أما بعد : (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
أيها الإخوة في الله : إن الأمن في الأوطان نعمةٌ عظيمة لايقْدُرها حق قدرها إلا مَن عرف أو عاش خلافَها ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ) فالحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ، ونسأل الله أن يديمها علينا، وأن يعمّ بها بلاد المسلمين ،وأن يرزقنا شكر نِعمِه .
ولكنْ ثَمّ نعمةٌ أخرى مشابهةٌ لها لاتقلُّ عنها أهمية ، ألا وهي الأمنُ النفسي .
والمراد منها أن تكون النفوسُ آمنةً مطمئنة عند وقوعِ البلاء، أو توقّعه، بحيث لا يظهر عليها قلقٌ معيب، أو جزعٌ كثير، ولا اضطرابٌ في الأحوال، أو تركٌ للأعمال، أو التهويلُ من شأن المصائب.
أيها المؤمنون: مَن تأمل حال الناسِ اليوم يرى القلقَ يستبدّ بالبعض، والخوفَ من مجهولٍ قادم يكاد يعصف بهم، فتجد أحدَهم مكتئباً غير راضٍ بحاله، رغم صحتِه و غناه، وأمنِ الوطنِ الذي يعيشُ فيه ، والعجيب أن أرقي البلادِ الغربيةِ حضارةً مادية، مازال القوم قاصرين عن تحقيق الأمنِ النفسي والاطمئنانِ القلبي، ولا أدل على ذلك من كثرةِ الانتحار، رغم رغدِ العيش وتوفرِ أسباب الرفاه، وحسب الاحصائياتِ الغربية ، فالأعلى في نسبة الانتحارِ عالميا ، أكثرُها رفاهاً وتقدما .
قال تعالى ﴿وَمَن أَعرَضَ عَن ذِكري فَإِنَّ لَهُ مَعيشَةً ضَنكًا وَنَحشُرُهُ يَومَ القِيامَةِ أَعمى﴾ وبيّن تعالى أن أكملَ الناس إيماناً أعظمُهم شعوراً بالأمن ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) والظلم المقصود هنا هو الشرك، فمن برئ من الشرك قليلِه وكثيرِه تحقق له الأمنُ المنشود ، فالإيمانُ العميقُ باللهِ تعالى ومعيتِهِ لعبيدهِ المؤمنين وتثبيتِه لهم في الشدائد وإعانتِه إياهم في النوائب ، والتوكلُ عليه يكسب المؤمنين أماناً واطمئناناً عجيبين ، إذ شعورهم بأنهم موصولون بالقوةِ العظمى في الكون شعورٌ رائع يملأ جوانحهم بالرضى والتسليمِ و الطُمأنينة ، ( أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار و المشركون حوله ، قال أبو بكر رضي الله عنه: لو نظر أحدهم إلى قدمه لأبصرنا ، فقال له : يا أبا بكر ما ظنك باثنين اللهُ ثالثهما ، ( إِذ يَقولُ لِصاحِبِهِ لا تَحزَن إِنَّ اللَّهَ مَعَنا ). وما جرى للنبي صلى الله عليه وسلم ومَن معه يوم الخندق وهو يومٌ عصيب، وصفه الله تعالى بأعظمِ وصف وأشدِّه هولاً ، قال تعالى ( إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا) ومع ذلك قال المؤمنون : (هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا).
والتوكلُ على الله تعالى ، طريقةُ المؤمنين وطريقُ الصالحين وهو صلةٌ عظمى بالله ربِّ العالمين ، لا غنى لعبدٍ عنه إن أراد تكميل إيمانِه وتحقيقَ أمنِ نفسِه ، والابتعادَ عن كل ما يشوش فكرَه ، ودينُ الاسلام يتميز عن كل الأديانِ والمذاهب بهذه العبادةِ الرائعة، والخصلةِ العظيمة التي لا يعرفها الناسُ اليوم إلا المسلمون . لكنك ترى أكثرَهم نسوا هذا المعنى الرائع والعبادةَ الجليلة وحلّ محلَّها التكالبُ الغريبُ على الدنيا ، والإخلادُ إليها وأصبح أكثرُ المسلمين متخوفين من المستقبل ، سريعي التأثر بما يجري عليهم من أقدارِ البلاء .
والتوكلُ على الله هو: اعتمادُ القلبِ على الله في جلبِ النفع ودفعِ الضر مع فعلِ الأسباب. وقد أخطأ في فهم هذه العبادةِ القلبيةِ المهمة الكثيرون ، حيث ذهبوا الى طرَفي نقيض ، إما الإفراط ، وإما التفريط ، إما الاعتمادُ على الأسباب، أو التفريطُ فيها ، وأخطأوا التوسط الذي هو سمةُ هذه الأمةِ المباركة ، والذي هو الأخذُ بالأسباب مع اعتماد القلب على اللهِ تعالى في تحقيقِ المطلوب . والتوكُلُ مهمٌ جداً في بابِ الأمنِ النفسي ؛ لأن العبد إذا قدّم كل ما يقدر عليه وبذل الأسبابَ التي يستطيعها ، فإنه لا يبقى له إلا أن يفزعَ إلى مولاه ، ويلقي بنفسه بين يديه ، ويطمئنَ إليه ويثقَ تمام الوثوق بأن الله تعالى حافظُهُ ومانعه.
قال ابن عباس رضي الله عنهما في بيانِ أهميةِ التوكل : حسبنا الله ونعم الوكيل قالها ابراهيمُ حين ألقي في النار ، وقالها محمدٌ صلى الله عليه وسلم حين قالوا : ﴿ إِنَّ النّاسَ قَد جَمَعوا لَكُم فَاخشَوهُم فَزادَهُم إيمانًا وَقالوا حَسبُنَا اللَّهُ وَنِعمَ الوَكيلُ﴾.
و إبراهيم -عليه السلام – عندما أمِر أن يترك زوجَه هاجر وابنَها إسماعيل عند البيت قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا ، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ , فَقَالَتْ : يَا إِبْرَاهِيمُ ، أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الوَادِي ، الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ ، وَلاَ شَيْءٌ ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا ، وَجَعَلَ لاَ يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا ، فَقَالَتْ لَهُ : آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَتْ : إِذَنْ لاَ يُضَيِّعُنَا ) رواه البخاري ، وعدم التفاتِه ، حتى لا يتأثرُ بالعاطفة ويحنُّ عليهما ، وينسى أمرَ ربِّه، إنه الإيمانُ والتوكلُ على الله !! يحققُ الأمنَ النفسي، ويعالجُ القلقَ و الاضطرابات ، فهو يزرع في النفوس عقيدةً راسخة تعالج أهمَّ القضايا التي يعاني منها الفرد، قضيةَ الخوفِ على فواتِ الرزق، وقضيةَ الخوفِ من المستقبلِ المجهول، فجاء الإيمان ، ليبين لكلِ فردٍ أن الرزقَ بيدِ الله، وأنه لن تموتَ نفسٌ حتى تستوفيَ رزقَها وأجلَها ، وأنه لا يستطيعُ أحدٌ مهما بلغت قوتُه وقدرتُه و أسلحتُه أن يسلُبَكَ شيئاً من رزقِك ، ولو كان شيئاً يسيراً ، ولا يقدِّمُ أجلَكَ ، أو يؤخرُه ثانيةً واحدة .. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) ، وقال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: "إن نفساً لن تموت حتى تستكملَ رزقَها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب" رواه ابن ماجة . وفي الحديث الصحيح ( لو أنكم توكلتم على الله حق توكلِه لرزقكم كما يرزق الطير ؛ تغدو خِماصاً وتروح بِطانا )
عباد الله : إن من أركان الإيمان ، الإيمانُ بالقضاءِ والقدر ، والإيمانُ به عقيدةٌ تنفثُ في رُوعِ المسلمِ وخَلدِه أنّ كلَ شيء في هذا الكونِ بيدِ الله، وأنه لن يحدثَ أمرٌ من خيرٍ أو شر إلا بقدرِ الله، وأن ما قدَّرهُ اللهُ وقضاه واقعٌ لا محالة ، قال الله تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) وقال تعالى (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ)
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبيِ -صلى الله عليه وسلم- يومًا، فقال: "يا غلام! إني أُعلمُك كلمات؛ احفظ اللهَ يحفظْك، احفظ الله تجِدْه تُجاهك، إذا سأَلت فاسأَل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأُمة لو اجتمعت على أَن ينفعـوك بشيء، لم ينفعوكَ إلا بشيءٍ قد كتبه اللهُ لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه اللهُ عليك، رُفعت الأقلامُ وجفت الصحف"(رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح)...
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿إن الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نزلاً من غفورٍ رحيم ﴾ بارك الله لي ولكم .
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خير المرسلين .
عبـاد الله: إنّ تقوى الله بفعلِ أوامرِه واجتنابِ نواهيه من الأسباب المهمة للشعور بالأمنِ النفسي ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) أي كافيه .
والعملُ الصالح سبب لزيادة الإيمانِ والحياةِ الطيبة وعلاجٌ للهمومِ والقلق ، قال تعالى: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ) ، ومن ذلك المحافظة على الطاعات والعبادات.. من صلاةٍ وصيام، وصدقةٍ وقراءةٍ للقرآن، وغيرِها، مع كثرة ذكرِ الله تعالى و الاستغفار والدعاء واللجوءِ إلى الله، وعدمِ الإصرار على الذنوب ، قال ابن القيم رحمه الله : ومن عقوباتها – أي : المعاصي والذنوب - : ما يلقيه الله سبحانه من الرعبِ والخوف في قلب العاصي ، فلا تراه إلا خائفاً مرعوباً ، فإن الطاعة حصنُ الله الأعظم ، الذي من دخله كان من الآمنينَ من عقوباتِ الدنيا والآخرة ، ومن خرج عنه : أحاطت به المخاوفُ من كل جانب ، فمن أطاع الله : انقلبت المخاوفُ في حقه أماناً ، ومن عصاه : انقلبت مآمنُه مخاوف ، فلا تجد العاصي إلا وقلبه كأنه بين جناحي طائر ، إن حرّكت الريحُ البابَ قال : جاء الطلب ، وإن سمع وقْع قدمٍ خاف أن يكون نذيراً بالعطَب ، يحسَب كلَ صيحةٍ عليه ، وكلَ مكروهٍ قاصد إليه ، فمن خاف الله : آمنه من كل شيء ، ومن لم يخف الله : أخافه من كل شيء "
أيها المسلمون: وتعالج المخاوف أيضا بالتحصّنِ من الشيطان ﴿الشَّيطانُ يَعِدُكُمُ الفَقرَ وَيَأمُرُكُم بِالفَحشاءِ ﴾ويكون بالعملِ الجاد ، وإشغالِ النفسِ بما ينفع ، والبعدِ عن الفراغ، فإن النفسَ إن لم تشغلْها بما ينفع أشغلتْك بما يضر ، وأكثرُ الناس عملاً وإنتاجاً.. أهنأهم عيشا .
وعلى المسلم أن يتذكرَ الآخرة ؛ ليصبرَ على الطاعة، ويثبتَ على الحق، ويرضى بما قدَّر الله، ويدركَ جيداً أن الأمنَ الحقيقيَ للنفوس، هو الفوزُ برضوانِ الله وجنتِه، فتطمئنَ نفسُه (أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)
اللهم املأ قلوبنا إيمانا بك وتوكلا عليك وآمنّا في الدنيا ويومِ الفزعِ الأكبر .
المرفقات
1724306983_خطبة الأمن النفسي (1) (1).docx