الأُمَّة العَظِيمة: أهلُ السُّنةِ والجَماعَة

د. محمود بن أحمد الدوسري
1443/09/19 - 2022/04/20 16:23PM

الأُمَّة العَظِيمة: أهلُ السُّنةِ والجَماعَة

د. محمود بن أحمد الدوسري

       الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على مَنْ لا نبيَّ بعده: نشأ مُصْطَلَحُ "أهل السنة والجماعة" بعد ظهور البِدَعِ والفِرَق, استناداً إلى الأحاديث والآثارِ الداعية إلى الارتباطِ بالجماعة, والتَّمسُّكِ بالسُّنة, والتَّحذِيرِ من الفُرقَةِ والاختلافِ في الدِّين, والابتداعِ فيه, ومن ذلك:

       قوله صلى الله عليه وسلم: (فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ إِلاَّ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً) رواه البخاري ومسلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: (عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي, وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ؛ تَمَسَّكُوا بِهَا, وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ, وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ, وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ) صحيح – رواه الترمذي. وقوله صلى الله عليه وسلم: (تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا: كِتَابَ اللهِ, وَسُنَّتِي, وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الحَوْضَ) صحيح - رواه الدارمي.

أيها الأحبة الكرام .. فإنْ سألَ سائِلٌ: ما تعريفُ أهلِ السُّنة؟

فيقال له: السُّنة يُقصد بها سُنَّته صلى الله عليه وسلم, وهديُه في كافَّة أحواله المباركة؛ التعبدية منها وغير التعبدية, كما يُقصد بها سُنَّةُ الخلفاءِ الراشدين ومَنْ تَبِعَهم في هديهم, ويَخْرُجُ منها كُلُّ سُنَّةٍ أو طريقةٍ أُخرى مُغايِرَةٍ أو مُخالِفَة. ومن ثَمَّ فإنَّ أهل السنة, هم أهلُ السُّنة النبوية خاصَّة, وأصحابُها المتمسِّكون بها.

ولماذا سمُّوا بأهل الجماعة؟

       قال ابن تيمية – رحمه الله: (وسُمُّوا أهلَ الجماعة؛ لأنَّ الجماعة هي الاجتماع, وضِدُّها الفُرقة). ويُقصد بالجماعة: المُجتمِعة على الحق. ومعنى (الجماعة) الوارد في مصطلح (أهل السُّنة والجماعة): هم: الصحابةُ الكرام – رضي الله عنهم, والتابِعُون لهم بإحسانٍ من العلماء المجتهدين السائرين على منهج الكتاب والسُّنة, ومَنْ تَبِعَهم في ذلك إلى يوم الدِّين, وإنْ كانْ لهم إمامٌ مُسْلِمٌ فواجِبٌ عليهم طاعَتُه, والاجْتِماعُ حولَه, وإلاَّ فليكن المُسْلِمُ مع الحقِّ أينما كان, وأينما وُجِد.

قال نعيم بن حماد – رحمه الله: (إذا فسدت الجماعةُ؛ فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أنْ تفسد, وإنْ كنتَ وحدك, فإنك أنتَ الجماعةُ حينئذٍ). وقال أبو شامة المقدسي – رحمه الله: (وحيث جاء الأمرُ بلزوم الجماعة, فالمراد به: لزومُ الحقِّ واتِّباعُه, وإنْ كان المُتمسِّكُ بالحق قليلاً, والمخالِفُ كثيراً؛ لأنَّ الحقَّ هو الذي كانت عليه الجماعةُ الأُولى من النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه رضي الله عنهم, ولا يُنظر إلى كثرة أهل الباطل بَعْدَهم).

إذاً نقول في تعريف (أهل السُّنة والجماعة): أنهم هم المُتمسِّكون بكتاب الله, وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما اتَّفق عليه السَّابقون الأوَّلون؛ من المهاجرين والأنصار, والذين اتَّبعوهم بإحسان. 

وإنْ سألَ سائِلٌ: هل توجد أسماء ألقابٌ أُخرى لأهل السُّنة يُعْرَفُون بها؟ نقول له: هناك ألقابٌ وأسماءٌ مشهورةٌ لأهل السنة, منها:

       أنهم أهل الجماعة: وأصل هذا المُسمَّى وَرَدَ في قول النبي صلى الله عليه وسلم - وهو يَصِفُ الفِرْقَةَ النَّاجِيَة: (إِنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ, إِلاَّ وَاحِدَةً وَهِي: الْجَمَاعَةُ) صحيح - رواه ابن ماجه. وقوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ إِلاَّ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً) رواه البخاري ومسلم.

ومِنْ ألقابِ أهلِ السُّنة: السلف الصالح: والسلف: جَمْعُ سالِفٍ, وهو لفظٌ يدل على السَّبق والتَّقدم. قال ابن الأثير – رحمه الله: (وسلف الإنسان: مَنْ تقدَّمه بالموت من آبائه وذوي قرابته؛ ولهذا سُمِّيَ الصدر الأوَّل من التابعين السلف الصالح).

       و(السَّلَفُ) في الاصطلاح: هم الصحابة, والتابعون, وتابعو التابعين, وهو قول جمهور العلماء. ويدلُّ عليه: قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي, ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ, ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) رواه البخاري ومسلم.

       قال النووي – رحمه الله: (الصحيح: أنَّ قَرْنَه صلى الله عليه وسلم الصحابة, والثاني التابعون, والثالث تابعوهم). وهكذا نجد أنَّ كلَّ لقبٍ من ألقاب أهل السُّنة له أصلٌ في سنة النبي صلى الله عليه وسلم يدل عليه, فَهُمْ حتى في ألقابِهم مُتابِعون سُنَّةَ نبيِّهم.

       ومِنْ ألقابِ أهلِ السُّنة: أهل الحديث: والحديث لغة: ضدُّ القديم, والحديث: الجديد. و(الحديث) في الاصطلاح: ما أُضِيفَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم من قولٍ, أو فِعْلٍ, أو تقريرٍ, أو وَصْفٍ خُلُقِيٍّ أو خَلْقِيٍّ. و(أهل الحديث) في الاصطلاح: هم العامِلُون بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, المُتَّبعون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً, عِلماً وعَمَلاً.

ومِنْ ألقابِ أهلِ السُّنة: أهل الأثر: ويُطلق الأَثَرُ في اللغة على بقِيَّةِ الشَّيْءِ وعلامتِه, وجمعُه آثارٌ. ولَقَبُ "أهلِ الأثر" مُرادِفٌ لِلَقَبِ "أهل الحديث"؛ يقول السفاريني - رحمه الله - في وصف أهل الأثر بأنهم: (الذين يأخذون عقيدتَهم من المأثور عن الله - جل شأنه - في كتابه، أو في سُنَّةِ النبي صلى الله عليه وسلم, أو ما ثَبَتَ وصَحَّ عن السلف الصالح من الصحابة الكرام، والتابعين لهم الفِخَام).

ومِنْ ألقابِ أهلِ السُّنة: الفِرْقَة النَّاجِيَة: وأصل اللَّقَب مأخوذٌ من حديث الافتراق؛ كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ! لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً, وَاحِدَةٌ في الْجَنَّةِ وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ في النَّارِ). قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ هُمْ؟ قال: (الْجَمَاعَةُ) صحيح - رواه ابن ماجه. والمقصود: بأنَّ فِرْقَةً واحِدَةً هي التي تنجو من عذاب النار, وتدخل الجنةَ, وهي الجماعة.

       وقد سُئِلَ الإمامُ أحمدُ - رحمه الله - عن الفِرقَةِ الناجية في حديث الافتراق, فقال: (إنْ لم يكونوا أصحابَ الحديث؛ فلا أدري مَنْ هم؟!).

الخطبة الثانية

       الحمد لله ... عباد الله .. ومن ألقاب أهل السُّنة: الطائفة المَنْصُورَة: وأصل اللقب مأخوذ من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي مَنْصُورِينَ, لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ, حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ) صحيح – رواه الترمذي.

وجاء وصف الطائفة المنصورة أيضاً في قوله صلى الله عليه وسلم: (لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ, لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ, حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ) رواه البخاري ومسلم. قال يزيد بن هارون – رحمه الله - في التعليق على هذا الحديث: (إنْ لم يكونوا أصحابَ الحديث؛ فلا أدري مَنْ هم؟!). وقال القاضي عياض – رحمه الله: (إنما أراد أهلَ السُّنةِ والجماعة, ومَنْ يَعْتَقِدُ مذهبَ أهلِ الحديث).

       وقال النووي – رحمه الله: (هذه الطائفة مُفَرَّقَةٌ بين أنواع المؤمنين؛ منهم شُجعان مُقاتِلون, ومنهم فقهاء, ومنهم مُحدِّثون, ومنهم زُهَّاد, وآمِرُون بالمعروف وناهون عن المنكر, ومنهم أهلُ أنواعٍ أخرى من الخير, ولا يلزم أنْ يكونوا مُجتمعين, بل قد يكونون مُتفَرِّقين في أقطار الأرض, وفي هذا الحديث مُعجزةٌ ظاهرة؛ فإنَّ هذا الوَصْف ما زال - بحمد الله تعالى - من زمَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى الآن, ولا يزال حتى يأتيَ أمرُ اللهِ المذكورِ في الحديث).

معشر الفُضَلاء.. ويُمكن الجَمْعُ بين هذه الألقاب المتنوعة, تنوع اختلاف لا تضاد؛ بأنَّ أهل السُّنة تميَّزوا عن غيرهم بهذه الألقاب, وكل مَنْ أَمْعَنَ النَّظَرَ في هذه الألقاب يلحظ أنها ألقابٌ دالَّةٌ على الإسلام الصَّحيح الخالِصِ من الشَّوائِبِ والبِدَعِ والمُحْدَثات والأباطيل, فبعضُ هذه الألقابِ ثابِتٌ بنصِّ كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم, وبعضُها لُقِّبوا به؛ بسبب اتِّباعهم, وتحقيقهم للإسلام الصَّحيحِ ظاهراً وباطناً.

       وجميعُ هذه الألقابِ تُطْلَقُ على السَّلف الصَّالح, وهؤلاء السلف الصالح: هم أهل السُّنة؛ لاتِّباعهم سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهم الجماعةُ؛ لاجتماعهم على الحق. وهم أهلُ الحديثِ والأثر؛ لاتِّباعِهِمْ حديثَ رسول الله, وتطبيقَه ظاهراً وباطناً. وهم الفِرقة الناجيةُ والطائفة المنصورة, الذين استثناهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من فِرَقِ أهل النار الهالكة, وهذا الوَصْفُ الوارِدُ في النصوص لا ينطبق إلاَّ عليهم, وعلى مَن اتَّبع مَنْهَجَهم, واقتفى أثرَهم.

عباد الله .. ولا يُشْتَرَطُ أنْ يكونَ كلُّ مَن انتسبَ إلى أهل السُّنة والجماعة أن يكون من العلماء أو طلبة العلم الشرعي, ومع ذلك فَهُمْ داخِلُون في تلك الزُّمرة المباركة, ولهم فَضْلُهُم وشَرَفُهُم ومَكَانَتُهُم, فَهُمْ مُوَحِّدون مُحِبُّون لِسَلَفِهم, مُتَّبِعون لأئِمَّتهم؛ بل مسانِدُون وداعِمُون لمنهج أهل السُّنة بأموالهم, وأوقاتهم, ودعائهم, وفي الوقت ذاته هم مُقتدون بهدي نبيِّهم الكريم صلى الله عليه وسلم؛ لذا فَهُمْ جزءٌ أصيلٌ من أهل السُّنة والجماعة, وكلُّ وَصْفٍ يَلْحَقُ بأهل السُّنة يَلحق بهم, {وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 96].

        

 

المرفقات

1650471821_الأمة العظيمة أهل السنة والجماعة.doc

المشاهدات 366 | التعليقات 0