الأمانة عند المسلمين ثقافةٌ أصيلة و منظومة متكاملة

رشيد بن ابراهيم بوعافية
1434/07/10 - 2013/05/20 20:04PM
[FONT="] الأمانة عند المسلمين ثقافةٌ أصيلة و منظومة متكاملة . [/FONT][FONT="][/FONT]
أيها القرّاء الأعزّاء : تحدّثنا في مقالٍ سابِقٍ عن الطهارة باعتبارِها مُفردَةً من مفرداتِ ثقافتنا الأصيلة ، ولكنّها للأسفِ على مستوى التصوّرات والممارسة معطّلةٌ في جوانبَ كثيرة ، اليوم بإذن الله نتحدّثُ عن مفردةٍ أخرى من مفردات ثقافتنا الإسلاميّة الأصيلة و التي جاء الإسلام ليصبِغ بها حياتَنا ، ويبني بها تصوُّراتنا وممارساتِنا في واقع الحياة ، إنَّها مفردةُ " الأمانة " . . وما أدراكَ ما الأمانة !
كلمَةٌ اتسع مدلولُها في الإسلامِ فصارت منهجًا كاملا ينظم جميع مجالات الحياة ، وهي كغيرها من المفردات العظيمة أُفرغَت من مدلولها الشامل في الحسّ والممارسة حتّى صارت لا تعني أكثر من شيءٍ يوضعُ عندك وديعةً و يوصيكَ صاحبُهُ عليه ! .
الأمانة - معشر المؤمنين- حقيقة ثقيلة في دين الله تعالى ، وهي تتعدى أمرَ حفظ ورعاية الودائع من التفريط والإهمال ، إلى حفظ ورعاية جميع الحقوق والتبعات التي تتعلق بذمة العبد ومسؤوليته ؛ من حقوق الله تعالى وحقوق العباد ، سواء كانت هذه الحقوق مادية مالية أو أدبية معنوية ، فقد أمر الله تعالى المؤمن بحفظها من التفريط والتضييع والخيانة ، فقال سبحانه:﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون﴾(الأنفال:27).وقال:﴿ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ﴾(النساء:58).
ومن شدة أمر الأمانة في الإسلام جعلها النبي صلى الله عليه وسلم علامَةً على كمالِ دين العبد وإيمانه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا إيمان لمن لا أمانة له،ولا دين لمن لا عهد له" ( صحيح الجامع :7179 ) .
أيها القرّاء الأعزّاء : انظروا إلى ثقافتنا الإسلاميّة الأصيلة في موضوع الأمانات : [FONT="][/FONT]
الأمانة تتنزل أو ما تتنزل على حقوق الله تعالى التي ائتمن العبد عليها ، وأمره بحفظها ورعايتها، فللّه عليك في بصرِكَ أمانة ، وفي سمعك أمانة، وفي فرجِكَ أمانة ، وفي بطنكَ أمانة، ولكلِّ جارحَةٍ فيكَ أماناتٌ أمركَ الله بحفظها وأدائها كما يحب ويرضى . . !
ولهذا كان موسى عليه السلام قويا أمينا رغم الغربة والخوف والاحتياج ، كما قال الله تعالى :﴿ قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين ﴾(القصص:26) لأنه كان حافظا لحدود الله تعالى عفيفا شريفا . .
ومن هذا المنطلق فالصلاة أمانة في عنق العبد ، والطهارة أمانة ، والصيام أمانة، وما أوجبه الله تعالى على العبد في ماله أمانة يسأله عنها يوم القيامة . وهكذا كل ما أوجبه الله على العبد أو حرمه عليه ، وما أحسن ما قاله عبدُ الله بنُ عمر-رضي الله عنهما-:" من تضييع الأمانة النظر في الدُور والحُجُر"[1]. فإنَّ عِرض كلِّ أحدٍ أمانة في عنق كل أحد ، والذي لا يغض طرفه عن عورات الناس ودُورهم ، ويتطلع من نافذته في نوافذهم وأبوابهم ، ويتحسس أسرارهم ،قد خان الأمانة التي أوجبها الله عليه في بصره فسوف يسأله الله تعالى عن هذه الأمانة . . !
أحبّتي في الله :
و من أعظم صورِ الأمانة أمانةُ المسؤوليّةِ و الولايَة على الناس والضعفاء : ففي صحيح مسلم عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله استعملني ، قال : فضرب بيده على منكبي ثم قال : يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها ". ولذلك حرّم الإسلامُ الاحتجابَ عن الضعفاءِ و منعهم حقوقهم وتأخيرَها عنهم ، لأنَّ ذلكَ من خيانة الأمانة : ففي سنن أبي داود (2948 – صحيح ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"من ولاه الله شيئا من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخُلتهم وفقرهم احتجب الله عنه دون حاجته وخُلته وفقره " .
و انظر أخي القارئ في شمول تطبيق الأمانة عند من ولاّه الله أمرًا من أمور المسلمين وتحذيرهم من خيانتها : قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في المتفق عليه : "ما من عبد يسترعيه الله رعية،يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته،إلا حرم الله عليه الجنة" . هذا النص - أحبابي - ينطبق على الجميع : فالتلاميذ مثلاً أمانة في عنق المعلم ، والمدرسة أمانة في عنق المدير والمعلمين، والتعليم أمانة في عنق الأسرة التربوية جميعا ، والمستشفيات أمانة في عنق الأطباء والمساعدين والعمال جميعا ، وكل مؤسسة من مؤسسات الأمة أمانة في عنق أصحابها ، وسوف يسأل الله تعالى كل راع عما استرعاه حفظ ذلك أم ضيع ، قال صلى الله عليه وسلم :"إن الله سائل كل راع عما استرعاه،أحفظ ذلك أم ضيع؟ "[2]. ولكم أن تتصوروا بعد هذا – أيها الأحباب - الحالَ الحضارِيَّ للأمةِ حين يلتزم جميع أفرادها بهذه القيم والمفاهيم . . !
أيها القرّاء الأعزّاء :
ومن الأمانة في ثقافتنا الإسلاميّة المحافظة على الممتلكات العامّة من الإسراف والتبذير ، فلا اختلاس و لا سرقة و لا غصب : كتب عمر بن عبد العزيز إلى كاتبه أبي بكر بن حزم : " أدق قلمك ، وقارب بين أسطرك ، فإني أكره أن أخرج من أموال المسلمين ما لا ينتفعون به " [3] .
و انظر إلى ثقافتنا الشرعيّة كيف ربّت المسلمَ الموظّفَ على أدقّ الأمور في خُلُقِ الأمانة ، حتّى القلم أو الورقة في المؤسّسة هو أمانة ، نصف ساعة في التأخّر والتهرّب من العمل هو من خيانة الأمانة . . ! ، فما أجلّ وأعظمَ هذا الدّين .. ! :
عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعيا،ثم قال: " انطلق أبا مسعود، ولا ألفينك يوم القيامة تجيء على ظهرك بعير من إبل الصدقة له رغاء قد غَلَلته ". قال : إذن لا أنطلق ، قال : "إذن لا أُكْرِهُك " [4]. وفي صحيح مسلم عن عدي بن عميرة رضي الله عنه قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطا فما فوق كان غلولا يأتي به يوم القيامة ". [FONT="][/FONT]
ولكم أن تتصوروا بعد هذا – أحبابي - الحالَ الحضارِيَّ للأمةِ حين يلتزم جميع أفرادها بهذه القيم والمفاهيم .. ! .
أفبعدَ هذا معشر المؤمنين يتعجّبُ الناسُ من الغرب ومن اليابان ولا يتعجّبون من روعةِ الإسلام ! ، واللهِ لو جازَ لنا التعجّبُ لحقّ لنا أن نتعجّب من أنفسِنا التي نطقت بالشهادةِ ولم تعمل بمقتضياتها في واقع الحياة . . !
[FONT="] يا للأسف . . عندنا أعظمُ ثقافةٍ في الأمانة .. ولكنّها للأسف الشديد معطّلة ! [/FONT]

[FONT="][FONT="][1][/FONT][/FONT][FONT="] - رواه الإمام البيهقي في"شعب الإيمان"(5289).[/FONT]

[FONT="][FONT="][2][/FONT][/FONT][FONT="] - الصحيحة:(1636).[/FONT]

[FONT="][3][/FONT] - سير أعلام النبلاء(5/132).

[FONT="][4][/FONT] - حسن: سنن أبي داود(2947).
المشاهدات 2400 | التعليقات 0