الأضحيةُ وعرفةُ-8-12-1445هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري

محمد محمد
1445/12/07 - 2024/06/13 11:28AM

الأضحيةُ وعرفةُ-8-12-1445هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري

الحمدُ للَّهِ حمدًا كثيرًا طيِّبًا مبارَكًا فيهِ مبارَكًا عليْهِ كما يحبُّ ربُّنا ويرضى.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ-صلى اللهُ وَسَلَّمَ وبَارَكَ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ-.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَـمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، أَمَّا بَعْدُ: فيا إخواني الكرامُ:

فقد (اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا)، والخُلَّةُ هِي َأَعْلَى أَنْوَاعِ المَحَبَّةِ ولا تَكُونُ إلا لِشَخصٍ وَاحدٍ فَقَط، وإِنَّمَا سُمِّيَ الْخَلِيلُ خَلِيلًا لِأَنَّ مَحَبَّتَهُ تَتَخَلَّلُ الْقَلْبَ فَلَا تَدَعُ فِيهِ خَلَلًا إِلَّا مَلَأَتْهُ.

دعا الخليلُ إبراهيمُ-عليه السَّلامُ-ربَّه-عزَّ وجلَّ-أنْ يَهِبَه ولدًا ينفعُه في حياتِه وبعدَ مماتِه، فقالَ: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ)، فاستجابَ اللهُ-تعالى-له، وجاءَتهُ البُشارةُ بإسماعيلَ-عليه السَّلامُ-(فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ)، فما أجملَها من بِشارةٍ بغلامٍ ذكرٍ، جَاءَهُ عَلى كِبَرٍ، حليمٍ ذي خُلُقٍ وصَبرٍ، وعندما وُلدَ الغُلامُ، وأحبَّه أبوهُ محبةً شديدةً، كانَ لا بُدَّ من الاختبارِ لإبراهيمَ: هل محبةُ الولدِ زاحَمتْ محبةَ اللهِ تعالى في قلبِ الخليلِ؟

فجاءَ الاختبارُ الأولُ: أُمرَ إبراهيمُ بتركِ ابنِه وزوجتِه هاجرَ في مكانٍ مُقْفِرٍ، فَوَضَعَهُمَا بِمَكَّةَ وَلَيْسَ بِها يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا تَمْرًا ومَاءً، ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ هاجرُ-عليها السلامُ-تُكَرّرُ كلامَها تقولُ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ؟ وهو لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا، ثُمَّ رَجَعَتْ.

ما أعظمَ هذا التَّسليمَ، شَيخٌ كَبيرٌ، مَقطوعٌ من الأهلِ والقَرابةِ، مُهاجرٌ إلى اللهِ، جاءَه غلامٌ حليمٌ، بعدَ طُولِ عُمرِ، وإلحاحٍ في الدُعاءِ، يضعُ ابنَه وزوجتَه في مكانٍ ليسَ فيه إنسٌ ولا ماءٌ، ليسَ بينَهم وبينَ الموتِ إلا أنْ ينفدَ التمرُ والماءُ، لا لشيءٍ إلا لأنَّ اللهَ أمرَه بذلكَ، ثُمَّ ماذا كانتْ النَّتيجةُ؟ فجَّرَ اللهُ-تعالى-من تحتِ قَدميِ الغُلامِ عَينَ زَمزَمَ المُباركةَ إلى يومِ القيامةِ، وكانَ هو وأَبوهُ من بنى الكعبةَ بيتَ اللهِ-تعالى-الذي تهوي إليه أفئدةُ المسلمينَ، وجَعلَ اللهُ سعيَ هاجرَ من مناسكِ الحجِّ والعمرةِ تخليدًا لِذِكْرِها إلى يومِ القيامةِ، وبعثَ اللهُ-تعالى-في هذا الوادي من نسلِه خاتمَ الرُّسلِ وخيرَهم محمدًا-عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-.

ثُمَّ لما كَبُرَ الغلامُ، جاءَ الاختبارُ الثَّاني: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ)، وبَلغَ سِنًّا يَكونُ غالبًا أَحبَّ ما يَكونُ لوالديهِ، قد ذَهبتْ مَشقتُه، وأَقبلتْ منفعتُه، وعادةُ قُلوبِ الآباءِ أنْ تتعلَّقَ بأبنائِهم في مِثلِ هذه السِّنِ، فكيفَ بقلبِ الأبِّ الرحيمِ، بابنِه الوحيدِ الحليمِ، فأرادَ اللهُ أن يختبرَ قلبَ خليلِه برؤيا في المنامِ، ورؤيا الأنبياءِ حقٌ.

(قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ)، رأى الرُّؤيا فما ناقشَ في أمرِ اللهِ العليمِ الخبيرِ، ولم يسألْ عن الحكمةِ من ذَبحِ ولدِه الصَّغيرِ، ولم يعترضْ: لماذا يجبُ أن يذبحَه بيدِه وهو الأبُّ الكسيرُ! ولا قالَ كيفَ سيكونُ حالُ أمِّه صاحبةِ القلبِ الكبيرِ! وحُقَّ لمثلِه أن يكونَ خليلَ اللهِ-تعالى-السَّميعِ البصيرِ.

(فَانظُرْ مَاذَا تَرَى)، أخبرَه ليتهيأَ لأمرِ اللهِ-تعالى-، فماذا كانَ جوابُ الابنِ؟ ما هو جوابُ الشَّابِ الصَّغيرِ الذي يُحبُ الحياةَ؟ ما هو موقفُ غُلامٍ صَغيرٍ وهو يُخبرُ أنَّه سيُذبحُ بيدِ أبيه؟

(قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ)، لم يقل: افعل ما تُريدُ، أو افعل ما تُحبُّ، بل قالَ: يا أبتِ هذا أمرٌ من اللهِ-تعالى-، ليسَ لي ولا لكَ فيه نظرٌ، وإنما هو المبادرةُ واحتسابُ الأجرِ، (سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)، فلن أزيدَ حُزنَك بالجزعِ والبُكاءِ، والتَّوسلِ بعدمِ الذَّبحِ والدُّعاءِ، ولأنَّ الأمرَ أمرٌ عصيبٌ، قالَ: (إِن شَاءَ اللَّهُ)، لأنَّه لا ثباتَ في مِثلِ هذه المواقفِ إلا بتثبيتِ اللهِ-تعالى-.

(فَلَمَّا أَسْلَمَا) بالرِّضا والطَّاعةِ والثِّقةِ والطُمأنينةِ والانقيادِ، (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) أضجعَه على وجهِه لِئَلَّا ينظرَ إليه وقتَ الذَّبحِ، وحتى لا تأخذه رأفةُ الأُبوَّةِ، فوضَعَ السِّكينَ لِيَذْبَحَهُ، فإذا بالنِّداءِ يأتي من العزيزِ الرَّحيمِ (وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ*قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)، قَدْ حَصَلَ المقصودُ من هذا الاختبارِ، وظهرَ صِدقُ تسليمِكَ للعزيزِ الجبَّارِ، وكانَ هذا من أعظمِ اختباراتِ العَالَمينَ، قالَ-سُبحَانَهُ-: (إِنَّ هذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ).

ثُمَّ قالَ: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ)، ففدى اللهُ-تعالى-إِسْمَاعِيلَ-عَلِيْهِ السَّلامُ-بِكَبْشٍ عظيمٍ بدلًا منه لِيُذْبَحَ عنهُ، وأصبحَ سُنَّةً وقُربةً إلى يومِ القيامةِ، (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ)، فهيَ سُنةُ الأضحيةِ في عيدِ الأَضْحَى، ويتقرَّبُ بها المسلمونَ إلى ربِّهم-تعالى-إلى يوم القِيَامَةِ، وَيَتَذكَّرونَ قصةَ الاستسلامِ العظيمةِ، الذي كانتْ خلفَ هذه الشَّعيرةِ الكريمةِ.

أستغفرُ اللهَ لي ولكم وللمسلمينَ...

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ كما يحبُ ربُنا ويرضى، أَمَّا بَعْدُ:

فَقَدْ جَاءَ رَجُلٌ مِنَ اليَهُودِ إِلَى عُمَرَ-رَضيَ اللهُ عَنهُ-فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ آيَةٌ تَقْرَؤُونَهَا فِي كِتَابِكُمْ، لَوْ نَزَلَتْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، لاتّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا، قَالَ: وَأَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: (الْيَومَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيْتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا) فَقَالَ عُمَرُ: إِنّي لأَعْلَمُ الْيَومَ الّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، وَالْمَكَانَ الّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، نَزَلَتْ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ، وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ-صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-بِعَرَفَة، سبحانَ اللهِ! اليهودُ عَلِموا فَضلَ يومِ عرفةَ!، فهو من الأيامِ العَظيمةِ المَشهودةِ، وَيُعتقُ اللهُ-تعالى فيه كثيرينَ من النارِ، قَالَ الرَسُولُ-عَلَيْهِ الصلاةُ والسلامُ-: "مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ المَلاَئِكَةَ فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلاَءِ؟! اشْهَدُوا مَلاَئِكَتِي أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ".

كانَ حكيمُ بنُ حزامٍ-رَضِيَ اللهُ عنهُ-يقفُ بعرفةَ ومعه مِئَةُ عبدٍ مِنْ عَبيدِهِ فَيُعْتِقُهُمْ، فيضجُ الناسُ بالبُكاءِ والدعاءِ يقولونَ: ربَنَا هذا عَبْدُكَ قَدْ أَعْتَقَ عَبِيدَهُ، وَنَحْنُ عَبِيدُكَ فَأَعْتِقْنَا، فمَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ وَلَا أَدْحَرُ وَلَا أَحْقَرُ وَلَا أَغْيَظُ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا رَأَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ، وَتَجَاوُزِ اللَّهِ عَنْ الذُّنُوبِ العَظِيمَةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ"، صيامُ يومٍ، وتكفيرُ سنتينِ، معادلةٌ تعجَزُ عنها القَوانينُ، ولا تكونُ إلا في موازينِ أرحمِ الراحمينَ، فيا مَنْ لم يقفْ بيومِ عرفةَ الموقفَ العظيمَ، لَا يَفُتْكَ مَقَامُ الصَائِمِينَ الكريمُ، فمَنْ صامَ هذا اليومَ للهِ-تعالى-، وجَلَسَ بَعدَ العَصرِ، رافعًا يديه، خاشعًا، تائبًا، خائفًا، راجيًا، خافِتَ صَوْتَهُ يناجي رَبًّا يُجيبُ الدُّعاءَ، ويُجزِلُ العَطَاءَ، اسْتُجِيبَ له، فَخَيرُ الدُّعاءِ دُعاءُ عَرفةَ.

اللَّهمَّ إنِّا نسألُكَ بأنَّ لَكَ الحمدُ، وأَنَّا نَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ، لا إلَهَ إلَّا أنتَ، الْأَحَدُ، الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، المنَّانُ، بديعُ السَّمواتِ والأرضِ، ياذا الجلالِ والإِكرامِ، يا حيُّ يا قيُّومُ.

اللَّهُمَّ أصلحْ وُلاةَ أُمورِنا وأُمورِ المسلمينِ وبطانتَهم، ووفقهمْ لرضاكَ، ونَصرِ دِينِكَ، وإعلاءِ كَلمتِكَ.

اللَّهُمَّ الطفْ بنا وبإخوانِنِا المستضعفينَ في غزةَ وبلادِ الشامِ، وغيرِها من بلادِ المسلمينَ، الطفْ بنا وبهم على كلِ حالٍ، وبَلِّغْنا وإياهُم من الخيرِ والفرجِ والنصرِ منتهى الآمالِ.

اللَّهُمَّ يا شافي اِشْفِنا وأهلَنا والمسلمينَ والمسالِمين.

اللَّهُمَّ ولي الإسلامِ وأهلِه ثبتْنا والمسلمينَ به حتى نلقاكَ.

اللَّهُمَّ آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرةِ حسنةً، وقِنا عذابَ النارِ.

اللَّهُمَّ أصلحْ لنا وللمسلمينَ الدِّينَ والدُنيا والآخرةَ، واجعلِ الحياةَ زيادةً في كلِّ خيرٍ، والموتَ راحةً منْ كلِّ شرٍ.

اللَّهُمَّ اهدنا والمسلمينَ لأحسنِ الأخلاقِ والأعمالِ، واصرفْ عنا وعنهم سيِئها.

اللَّهُمَّ إنَّا نسألك لنا ولوالدِينا وأهلِنا والمسلمينَ من كلِّ خيرٍ، ونعوذُ ونعيذُهم بك من كلِّ شرٍ، ونسْأَلُكَ لنا ولهم العفوَ والْعَافِيَةَ في كلِّ شيءٍ.

اللَّهُمَّ يسِّر للحُجَّاجِ، واجْعَلْ حجَّهم مبرورًا، وسعيَهم مشكورًا، وذنبَهم مغفورًا، وأحسِن مُنقلبَهم، وأعِدهم إلى ديارِهم سالمينَ غانمينَ.

اللَّهُمَّ صلِ وسلمْ وباركْ على نبيِنا محمدٍ، والحمدُ للهِ ربِ العالمينَ.

المرفقات

1718267356_الأضحيةُ وعرفةُ-8-12-1445هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري.docx

1718267356_الأضحيةُ وعرفةُ-8-12-1445هـ-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري.pdf

المشاهدات 845 | التعليقات 0