الأَشْهُر الْحُرُم، وأَدَاءُ فَرِيضَةِ الْحَجِّ.
أ.د عبدالله الطيار
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ عَلى النِّعَمِ والْهِبَاتِ، وأشْكُرُهُ عَلى مَا أَوْدَعَ في الأيامِ مِنَ البَرَكَاتِ، وجَعَل في الشُّهورِ مِنَ الْخَيْرِ والنَّفَحَاتِ، وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ ربُّ الأَرْضِ والسَّمَاوَاتِ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، خَتَمَ بِهِ الرِّسَالاتِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ: فاتّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ حَقَّ التَّقْوَى، واسْتَمْسِكُوا مِنَ الإِسْلَامِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) البقرة: [197].
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: لَقَد اخْتَارَ اللهُ مِنْ بَيْنِ شُهُورِ الْعَامِ أَرْبَعَةً، مَيَّزَهُنَّ بِمَزِيدِ أَجْرٍ وَفَضْلٍ وَخَصَّهُنَّ بِجَزِيلِ مَكَانَةٍ وَقَدْرٍ، نَدَبَ فِيهِنَّ إلى الاجْتِهَادِ، وَوَعَدَ بِالْقَبُولِ وَمُضَاعَفَةِ الأُجُورِ، وَأَوْدَعَ فِيهِنَّ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالأَسْرَارِ وَالْخَيْرَاتِ وَالأَقْدَارِ:(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ) القصص: [68].
عِبَادَ اللهِ: وَالأَشْهُر الْحُرُم مَوَاسِمَ بِرٍّ وَخَيْرٍ، قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) التوبة: [36] وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ هَذِهِ الأَرْبَعَةَ الْحُرُم بِقَوْلِهِ: (ثلاثٌ متوالياتٌ: ذو القَعدةِ وذو الحجَّةِ والمُحرَّمُ ورجَبُ مُضَرَ الَّذي بيْنَ جُمادى وشَعبانَ) أخرجه ابن حبان (5974).
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: وَالأَشْهُرُ الْحُرُمُ تَطْبِيقٌ عَمَلِيٌّ لِرِسَالَةِ الإِسْلامِ في التَّسَامُحِ وَالصَّفْحِ وَالإِحْسَانِ وَالْعَفْوِ، قَالَ تَعَالَى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) البقرة: [217] فَجَعَلَهَا اللهُ عزَّ وجلَّ مَوَاسِمَ لِلرَّحْمَةِ، وَمَوَاطِنَ لِلطَّاعَةِ، وَضَاعَفَ فِيهَا الأُجُور، وأَجْزَلَ فِيهَا الْعَطَايَا، وَحَرَّمَ فِيهَا الذُّنُوب وَالْخَطَايَا، قَالَ سُبْحَانَهُ:(فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) التوبة: [36] قَالَ قَتَادَة: (الْعَمَلُ الصَّالِحُ أَعْظَمُ أَجْرًا في الأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَالظُّلْمُ فِيهِنَّ أَعْظَمُ مِنَ الظُّلْمِ فِيمَا سِوَاهُنَّ، وَإِنْ كَانَ الظُّلمُ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَظِيمًا) تفسير البغوي (2/ 345).
عِبَادَ اللهِ: وَمِنْ فَضَائِلِ الأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَغَنَائِمِها، فَرِيضَةُ الْحَجِّ، الَّتِي فَرَضَهَا اللهُ عزَّ وجلَّ عَلَى عِبَادِهِ بِقَوْلِهِ: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) وَجَعَلَ الأَشْهُرَ الْحُرُم مِيقَاتًا للإِحْرَامِ بِالْحَجِّ، والتَّلَبُّسِ بِنُسُكِهِ، قَالَ سُبْحَانَهُ: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ).
أَيُّهَا المؤْمِنُونَ: والوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ المُبَادَرَةُ إِلَى أَدَاءِ فَرِيضَةِ الْحَجِّ، مَتَى تَحَقَّقَتْ شُرُوطُهُ، وَتَوَفَّرَتْ أَسْبَابُهُ، قَالَ ﷺ: (أيُّها النَّاسُ، قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُم الْحَجَّ، فَحُجُّوا) رواه مسلم (1337) وَقد حَجَّ نَبِيُّنَا ﷺ بالمسلمينَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ وَعَلَّمَ أُمَّتَهُ مَنَاسِكَ الْحَجِّ وَشُرُوطَهِ وَوَاجِبَاتِهِ وَمَحْظُورَاتِهِ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، ثُمَّ قَالَ: (لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ) أخرجه مسلم (1297).
عِبَادَ اللهِ: والحَجُّ مِنْ أَفضلِ الطَّاعَاتِ، سُئِلَ ﷺ: أيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قالَ: إِيمَانٌ بِاللهِ وَرَسُولِهِ قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللهِ قيل: ثمَّ ماذا؟ قال: حَجٌّ مبرورٌ) رواه البخاري (26) ومسلم (83) وَالْحَجُّ لِلْعَبْدِ مِيلادٌ جَدِيدٌ، يُنَقِّيهِ مِنَ الذُّنُوبِ كَمَّا تُنَقِّي النَّارُ خَبَثَ الْحَدِيدِ، قالَ ﷺ لِعَمْرِو بنِ العَاصِ رضيَ اللهُ عَنْهُ: (أَمَا عَلِمْتَ أنَّ الإسْلامَ يَهْدِمُ ما كانَ قَبْلَهُ؟ وأنَّ الهِجْرَةَ تَهْدِمُ ما كانَ قَبْلَها؟ وأنَّ الحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟) أخرجه مسلم (121) وَقال أيضًا: (الحَجُّ المَبْرُورُ ليسَ له جَزاءٌ إلّا الجَنَّةُ) أخرجه البخاري (1773) ومسلم (1349) فَنِعْمَتْ الْعِبَادَةُ، وَنِعْمَ الْجَزَاء.
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: وَمِنَ الأُمُورِ الْهَامَّةِ وَالمُنَظِّمَةِ لِشَعِيرَةِ الْحَجِّ، تَصَارِيحُ الْحَجِّ، وَالَّتِي وُضِعَتْ لِتَنْظِيمِ هَذِهِ الشَّعِيرَةِ، وَتَيْسِيرِ أَدَائِهَا، وَالتَّسْهِيلِ عَلَى الْحُجَّاجِ وَخِدْمَتِهِمْ، وَالْقِيَامِ عَلَى رِعَايَتِهِمْ، وَيَكُونُ الْحُصُولُ عَلَى هَذَا التَّصْرِيحِ عَبْرَ الْقَنَوَاتِ الرَّسْمِيَّةِ المعْتَمَدَةِ، وَالْحَذَرَ مِنَ المُحْتَالِينَ وَالمُضَلِّلِينَ، وَالمدَّعِينَ وَالمُخَالِفِينَ، الَّذِينَ يُرَوِّجُونَ لِلْفَوْضَى، وَيَسْتَغِلُّونَ الْجُهَلاء.
عِبَادَ اللهِ: وَالْحَجُّ بِلا تَصْرِيحٍ، خَرْقٌ لِلأَنْظِمَةِ، وَإِضْرَارٌ بِالْحُجَّاجِ، وَمُخَالَفَةٌ لِوَلِيِّ الأَمْرِ الَّذِي مَا وَضَعَ هَذِهِ الأَنْظِمَةَ إلا تَحْقِيقًا لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَن عُمُومِ الْحُجَّاجِ، وَتَنْظِيمًا لِهَذِهِ الشَّعِيرَة، وَإِظْهَارِهَا بِصُورَةٍ تَعْكِسُ تَعَالِيمَ الإِسْلامِ في النِّظَامِ وَالالْتِزَامِ به. أَعُوذُ باللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) النساء: [59].
بَارَكَ اللهُ لَي ولكم فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِمَا مِنَ الْآَيَاتِ وَالْحِكْمَةِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَة:
الْحَمْدُ للهِ ربِّ الْعَالمِينَ، هَدَانَا بِفَضْلِهِ إلى دِينِهِ الْقَوِيمِ، فَبَيَّنَ لنَا السُّبُلَ، وشَرَّفَنَا بِخَيْرِ الرُّسُلِ، ورَفَعَنَا بِالقُرْآنِ إلى أَعْلَى المُثُل، وَأَشْهَدُ أَلّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ إلى يومِ الدِّينِ، أمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ: وَمِمَّا يَجْدُرُ الإِشَادَةُ بِهِ، والإِشَارَةُ إِلَيْهِ، تَوْجِيهُ صَاحِبِ السُّمُوِّ الملكيِّ، وَلِيِّ الْعَهْدِ محمدِ بنِ سلمانَ -حفظه اللهُ وأَيَّدَهُ- بعدمِ إقامةِ مبارياتِ كرةِ القدمِ في أوقاتِ الصَّلاةِ، وهذا التوجيهُ يأتي استنادًا إلى المرجعيةِ الشَّرعيَّةِ لبلادِنَا وتأكيدًا على مكانَةِ الصَّلاةِ في الإسلامِ، قال تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا موقوتا) النساء: [103].
وإِنِّي في هذا المقامِ أَتَوَجَّهُ بِالتَّحِيَّةِ والتَّقْدِيرِ، والثَّنَاءِ والدُّعَاءِ، لِوَلِيِّ عَهْدِنَا-حَفِظَهُ اللهُ وَأَمَدَّهُ بِعَوْنِهِ وَتَوْفِيقِهِ- على هذا التوجيهِ المبارَكِ، الذي يُؤَكِّدُ دورَ بِلادِنَا في حِرَاسَةِ التَّوْحيدِ وغرسِ الفضيلةِ وإبرازِ الشَّعِيرَةِ؛ لِتَعْزِيزِ دَوْرها كَمَهْبَطٍ لِلْوَحْيِ، وَقِبْلَةٍ لِلمُسْلِمِينَ.
أَسْأَلُ اللهَ عزَّ وجلّ أَنْ يَجْزِيَ وَلِيَّ أَمْرِنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ خَيْرَ الْجَزَاءِ وَأَنْ يَجْعَلَ مَا يُقَدِّمُونَ للإِسْلامِ والمسلمينَ والحُجَّاجِ والمعْتَمِرِينَ في مِيزَانِ حَسَنَاتِهِمْ وَرِفْعَةً لَهُمْ في الدُّنْيَا والآَخِرَةِ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ وَالمُسْلِمِينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالمشْرِكِينَ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ المُوَحِّدِينَ.
اللَّهُمَّ أمِّنا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللهم وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا خَادِمَ الْحَرَمَينِ الشَّرِيفَيْنِ سلمانَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وخُذْ بِنَاصِيَتِهِ إِلَى اَلْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَأَلْبِسْهُ لِبَاسَ الْعَافِيَةِ اللَّهُمَّ وَفِّقْهُ لِهُدَاكَ وَاجْعَلْ عَمَلَهُ فِي رِضَاكَ، وَأَتِمَّ عَلَيْهِ الشِّفَاءَ عَاجِلًا يَا رَبَّ الْعَالمِينَ.
اللَّهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ عَهْدِهِ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَاحْفَظْهُ مِنْ كُلِّ وَشَرٍّ، واجْعَلْهُ مُبَارَكًا أَيْنَمَا حَلَّ.
اللَّهُمَّ احْفَظْ رِجَالَ الأَمْنِ، والمُرَابِطِينَ عَلَى الثُّغُورِ.
اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ، وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ، وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ في الجناتِ، واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، واجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا وَأَزْوَاجَنَا وجِيرَانَنَا ومشايخَنَا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
الجمعة 1445/11/16هـ