الأسرة بين الرسوخ والانهيار

راكان المغربي
1445/05/09 - 2023/11/23 16:45PM

 

الخطبة الأولى

أما بعد:

الحضنُ الدافئ الذي آواك، والمنشأُ الأول الذي به ترعرعت في صِباك..

مصدرُ الدعم الدائم الذي أسندك وكفاك، والغيثُ المنهمرُ الذي طالما أعطاك..

إننا نتحدث -معاشر المسلمين- عن الأسرة، نتحدث عن الأم الحنون، والأب المعطاء، والزوج الباذل، والزوجة المضحية. حديثنا اليوم عن الابن البار، والابنة المبهِجَة، والأخ الداعم، والأخت الباذلة، وسائر الأهل والأرحام..

إننا نتكلم عن أعظم مؤسسة، وأجل منظومة، وأهم كيان يحفظ الفرد والمجتمع..

وكيف لا يكون شأنُ الأسرة عظيما وقد تكاثرت فيها نصوص الوحي من القرآن والسنة؟!

افتح فهرس المصحف، وتأمل في أسماء سور القرآن. ستجد سورةً سميت باسم أسرة، وهي سورةُ آل عمران، وسورةً نزلت لحل مشكلة أسرة، وهي سورةُ المجادلة، وسورةً نزلت تعليقا على حادثة في أسرة، وهي سورةُ التحريم، وسورةً نزلت لتوضيح أحكام الأسرة، وهي سورةُ الطلاق، وسورةً نزلت لتقرير كثير من الحقوق الأسرية المسلوبة، وهي سورةُ النساء. فإذا خضتَّ في مضامين هذه السورِ وغيرها من السور، سيتبين لك عِظَمَ مكانةِ هذه المنظومةِ في الوحي أكثرَ وأكثر.

عباد الله

الأسرة منبع الفضائل، من حافظ عليها نال من الأجور منتهاها، ومن الدرجات أعلاها..

بالأسرة يمكن أن يكونَ المرء من خيارُ الأمة كما قال صلى الله عليه وسلم: (خَيرُكم خَيرُكم لأهلِه). وفي محضن الأسرة يمارس المسلم أفضل الأعمال، فحين سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ العَمَلِ أحَبُّ إلى اللَّهِ؟ قالَ: (الصَّلاةُ علَى وقْتِها)، قيل: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: (ثُمَّ برُّ الوالِدَيْنِ). وبأداء حق الله في الأسرة ينال المرء رفقة النبي صلى الله عليه وسلم كما قال: (من عالَ جارِيَتَيْنِ حتَّى تَبْلُغا، جاءَ يَومَ القِيامَةِ أنا وهو) وضَمَّ أصابِعَهُ. وبالأسرة يجري عمل المسلم في حياته وبعد موته، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له). وكما يكون صلاحُ الدين بالأسرة، فكذلك يكون صلاحُ الدنيا، قال صلى الله عليه وسلم: (مَن أحَبَّ أنْ يُبْسَطَ له في رِزْقِهِ، ويُنْسَأَ له في أثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)، وقال صلى الله عليه وسلم: (الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا المَرْأَةُ الصَّالِحَةُ).

معاشر المسلمين

لقد اعتنى الإسلامُ بالأسرة أيما اعتناء، فأرسى قواعد الأسرة الراسخة، وحصن بناءها بالتشريعات الحامية.

فمن أول لحظة في بناء الأسرة جاء الإسلام بالتوجيهات التي تبني الأسرة على شريعة الله، فتكون -بإذن الله- أسعدَ الأسر وأنجحَها.

فمن قواعد بناء الأسرة أن تقوم على العبودية، والنية الصادقة، واحتساب الأجر من الله..

بناء الأسرة عبادةٌ من العبادات، فحينما يقدم الإنسان على الزواج يستحضر أنه يقتدي بالأنبياء والمرسلين  عليهم الصلاة والسلام، وسيدِهم الذي قال: (وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي)، ويستحضر أنه يَعفُّ نفسَه عن الحرام تطبيقا للإرشاد النبوي الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: (مَنِ اسْتَطَاعَ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فإنَّه أغَضُّ لِلْبَصَرِ، وأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ)، ويستحضر أنه بذلك يُكثّرُ سواد أمة محمد صلى الله عليه وسلم بإخراج أنفس تعبد اللهَ وتنصر الإسلام، قال صلى الله عليه وسلم: (تزوَّجوا الوَدودَ الولودَ فإنِّي مُكاثرٌ بِكُمُ الأُممَ).

فإذا استحضر الراغب في الزواج هذه الأمور، فقد علمنا الإسلام أن أعظمَ ما يعين على تحقيقها، هو الزوج الدين الخلوق، والزوجة الصالحة، الذين يعينون على الخير ويدلون عليه. قال صلى الله عليه وسلم: (إذا جاءكُم مَن تَرضَون دينَه وخُلُقَه فأنكِحوهُ)، وقال صلى الله عليه وسلم: (فاظْفَرْ بذاتِ الدِّينِ، تَرِبَتْ يَداكَ).

وكما وضع الإسلام الأسس، فقد شرع الشرائعَ التي تحفظ هذا الكيان، فبيّن الإسلامُ الحقوقَ والواجباتِ لكل فرد من أفراد الأسرة، فالوالدان يُعَاملان بالبرِّ وخفضِ جناح الذل، والزوجان بينهما الإحسانُ والعشرةُ بالمعروف، وتربيةُ الأبناءِ أمانةٌ في حق والديهم يحاسبون عليها يوم الدين، وصلةُ ذوي الأرحام واجبةٌ لازمةٌ. والكل راع والكل مسئول عن رعيته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كُلُّكُمْ راعٍ وكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ، فالإِمامُ راعٍ وهو مَسْئُولٌ، والرَّجُلُ راعٍ علَى أهْلِهِ وهو مَسْئُولٌ، والمَرْأَةُ راعِيَةٌ علَى بَيْتِ زَوْجِها وهي مَسْئُولَةٌ، والعَبْدُ راعٍ علَى مالِ سَيِّدِهِ وهو مَسْئُولٌ، ألا فَكُلُّكُمْ راعٍ وكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ).

كما جاءت العديد من التشريعات التي تحمي الكيانَ الأسري من التشققِّ والتصدع، فقد حرم الله العقوقَ وجعله النبيُّ صلى الله عليه وسلم من أكبر الكبائر كما قال: (أَكْبَرُ الكَبائِرِ: الإشْراكُ باللَّهِ، وعُقُوقُ الوالِدَيْنِ، وشَهادَةُ الزُّورِ)، وشدد النبي صلى الله عليه وسلم في النهيِ عن قطع الرحم، وتوعّدَ فاعله بالحرمان من الجنة فقال: (لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ قاطِعٌ)، وتبرأ رسول الله  صلى الله عليه وسلم ممن يحاول تخريبَ الأسرة، قال صلى الله عليه وسلم: (ليسَ منَّا من خبَّبَ امرأةً علَى زوجِها أو عبدًا علَى سيِّدِه). وبين لنا أن من أعظم غايات الشيطان هدم كيان الأسرة والتفريق بين رؤوسها، قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ إبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ علَى الماءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَراياهُ، فأدْناهُمْ منه مَنْزِلَةً أعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أحَدُهُمْ فيَقولُ: فَعَلْتُ كَذا وكَذا، فيَقولُ: ما صَنَعْتَ شيئًا، قالَ ثُمَّ يَجِيءُ أحَدُهُمْ فيَقولُ: ما تَرَكْتُهُ حتَّى فَرَّقْتُ بيْنَهُ وبيْنَ امْرَأَتِهِ، قالَ: فيُدْنِيهِ منه ويقولُ: نِعْمَ أنْتَ).

كل ذلك دلالةٌ على عظمِ شأن الأسرة، وضخامةِ دورها في إصلاح الفرد والمجتمع، وأن فسادَها يعني فسادَ الدنيا والدين، واتباعَ سبيل الشياطين.

بارك الله لي ولكم..

 

الخطبة الثانية

أما بعد:

عباد الله

إن الكيانَ الأسريَّ يواجهُ اليومَ تهديداتٍ خطيرة، وتنازعاتٍ شديدة، فمن دعوات الفردانية التي تنادي بالأنانية وتقديس الذات، إلى دعواتِ النِّسْوية التي تتمرد على قِوامةِ الرجلِ وطاعتِه، إلى دعوات الذكورية التي تُحقّرُ شأنَ المرأة وتهمشُ دورَها، إلى غير ذلك من الدعوات الفاسدة، التي غالبا ما وفدت إلينا من الثقافة الغربية المنحطة، التي حجمت دور الأسرة، وأهملت الحفاظ عليها، فتفككت عامة أسرهم، وصار الأخ لا يكلم أخاه بالسنين، والأم لا ترى ابنها إلا مرة في العام، والزوج لا ينفق على زوجته، والزوجة لا ترى له عليها طاعة، وأما الأعمام والأخوال فمثلهم مثل الأغرابِ البُعَدَاءِ ليس بينهم وبين المرء أي وصال. ولذلك فلا تستغربْ مما ينتشر عندهم من دور المسنين التي يُلقَى فيها الآباءُ والأجداد، الذين عجزوا عن رعاية أنفسهم، ولم يلتفت لهم أولادُهم وفلذةُ أكبادهم، فلجؤوا إلى تلك الدور. ولا تستغربْ ممن يعيش وحيدا في بيته حتى يموتَ في تلك الشققِ المغلقةِ فلا يدري عنه أحدٌ إلا بعد أن تعمَّ رائحةُ جيفته، وتصلَ إلى الجيران؟

إن ذلك التفككَ والانهيارَ الأسري ما حصلَ إلا بسبب انتكاسةِ الفطرة، والبعدِ عن منهج الله الحكيم العليم، الذي اعتنى بالأسرة وأولاها كل الاهتمام لكي تكون قوية متماسكة. فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله..

والواجب علينا جميعا أن نحفظَ أسرنا بتطبيق شرع ربنا وأداء حقوق أسرنا، وبالبعد والتحذير عما ينقضُ كيانَها من العلاقاتِ المحرمةِ التي يُستبدلُ فيها العفافُ بالفجور، والطهرُ بالنجاسة.

 والواجب أن نربيَ أبناءَنا وبناتِنا على تحمّل المسؤولية، وندربَهم من صِغَرِهم على المهام الأسرية، حتى يكونوا عند كِبَرِهم أهلا لقيادةٍ رشيدة لأسرٍ سعيدة. وكم من آباء وأمهات اليوم من غايةُ دوره مع أولاده توفيرُ أكلِهم وشربِهم ولُعبِهم دون أن يحملَهم على الجدِّ والتكاليف، حتى إذا كَبُرَ وتحملَ مسؤولية الزواجَ تفاجأ بما يواجههُ في الأسرة من الصعاب والمشاق، فيحمله ذلك على الضجرِ والضعف، وربما يطولُ به الحال كذلك فيرفعُ رايةَ الاستسلام والتخلي عن المسؤولية الملقاةِ على عاتقه، فتتفككَ الأسرة ويهدمَ الكيان.

فاتقوا الله في أولادكم وبناتكم، ربوهم على المعالي، واحملوهم على الجد، فبذلك يسعدون، وبذلك يرتفعون.

اللهم أصلح شأننا، وألف بين قلوبنا..

اللهم وفقنا لطاعتك، وجنبنا معصيتك..

اللهم وفقنا لتربية أبنائنا على كتابك وسنة نبيك، وجنبهم الفتن ما ظهر منها وما بطن..

المرفقات

1700747145_الأسرة بين الرسوخ والانهيار.docx

1700747146_الأسرة بين الرسوخ والانهيار.pdf

المشاهدات 1301 | التعليقات 0