الأسرة المطمئنة

أنشر تؤجر
1446/03/23 - 2024/09/26 16:53PM

الحَمدُ لله ، خَلَقَ وبرَا، وأنْشَأَ وذَرَى :( خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا )، وأشهَدُ أنْ لا إلهَ إلا الله وحدَهُ لا شَريك له ، نحمَدُه ونَشكُره ، نِعَمُهُ علينا تَتْرَا ، وأشهَدُ أنَّ محمدًا عَبدُه ورَسولُه ، أَشْرَفُ البَشرِيَّةِ وأعلَاهُمْ ذِكْرا ، صلَّى اللهُ وسلَّم وباركَ عليه ، وعلَى آلهِ وصَحْبِه ، والتابعين ، ومَن تبِعَهُم بإحسَانٍ إلى يَومِ الدِّين.

أمَّا بعد : فأُوصِي نَفْسِي وإيَّاكُم بتقوَى اللهِ عزَّ وجَل ، اتقوا اللهَ تعالى وأَطِيعُوه ، وعَظِّمُوا أَمْرَهُ ولا تَعصُوه :( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ).

أيها المسلمون : لقد رسم الإسلامُ للمسلمين منهجَ حياتِهم ، رَسَمَ مَنْهَجَ الحياةِ : للفردِ والأسرةِ والمجتمعِ .

والأسرةُ كِيَانٌ في قَلْبِ المُجْتَمَعِ ، وَلَبِنَةٌ من لبناته .

وَطُمَأْنِيْنَةُ الأسْرةِ وَسَكِيْنَتُها مَطْلَبٌ مَنْشُوْدٌ ، وغَايَةٌ مَرْجُوّة ، فحينما  تعصفُ بالمرء متاعبُ الحياة ، وتُؤرِقُه أعباؤها ، يأوِي إلى بيتٍ يَطْلُبُ الراحةَ والسَّكِيْنَةَ فيه ؛ والأسرةُ الصالحةُ طمأنينةٌ وسكينةُ ومأمن . 

لما نَزَلَ جِبْرِيْلُ على رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالوحيِ أَوَلَ ما نَزَلْ ، فَزِعَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مما رأى ، فرَجَعَ مِنَ الغارِ إلى بَيْتِهِ بيتِ السكينةِ تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ ، ودَخَلَ عَلَى زوجته خَدِيجَةَ رضي الله عنها ــ يَنْشُدُ الأمانَ ، وَيَسْتَدْفِعُ الرَّوْع ـــ  دخلَ عليها فقال :( زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي )، ثُمَّ قَالَ لِخَدِيجَةَ :( أَيْ خَدِيجَةُ! مَا لِي ) وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ ، قَالَ :( لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي ) ــ وهنا تُضْفِي الأسرةُ الصالحةُ على المفزوعِ سَكِينَتَها ــ ( قَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ - رضي الله عنها -: كَلاَّ ، أَبْشِرْ ؛ فَوَ اللّهِ لاَ يُخْزِيكَ الله أَبَدا ، وَاللّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقّ..) رواه البخاري ومسلم .

عباد الله : إذا اضطربت الأسرةُ ، تَشَتَّتَ أَفْرَادُها ، وتَحَلَّلَتْ رَوَابِطُهَا ؛ وَأَوْثَقُ العُرى لبناءِ أُسْرَةٍ مُطْمَئِنَّةٍ ، تأَسِيْسُها على تَقْوى مِنَ اللهِ ورِضْوَان ، فيتربى على ذلك الصغيرُ والكبيرُ والذكرُ والأنثى ، وعلى هذا المبدأ يُنَشَّؤون ويسيرون ؛ فيُقيم أفرادُها صلاتَهُم ، ويُحَافِظُوْنَ عَلَيْهَا أَعْظَمَ مِنْ مُحافَظَتِهِم على الطعام والشراب ؛ إِذْ أن الصَّلاةُ صِلَةٌ باللهِ ، وما خابت أسرةٌ يتصلُ أفرادها بالله ،{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا  نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ}. 

وَأَنَّى لِأُسْرَةٍ أَنْ تَطْمَئِنَّ ، وأفرادُها عن صَلاتِهِمْ سَاهُوْن ، ولها مُضَيِّعُون .

وتكون الأسرةٌ مطمئنةً ، حين يَعْرِف الولدَ حقَّ والديه ، بِراً وعَطْفَاً وَتَلَطُّفاً وإِحْسَاناً ؛ وَتَعْرِفُ الزَّوْجَةُ حَقَّ زَوْجِهَا ، طاعةً لَهُ بالمعروفِ وانقياداً لَه بالأمرِ ، واعتِرافاً لَهُ بالقِوامَة ، حُكْمُ الله لا مَحيدَ عَنه ؛ وَيَعْرِفُ الزَّوْجُ حقَّ زوجته ، رعايةً وصيانَةً وإكراماً وحِماية ،{ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }.

وتكون الأسرةُ مطمئنةً ، حين يكون العدل والرفقُ في التعاملِ سائداً ، فلا غلظةَ ولا قسوةَ ولا جفاء ، وتُعَالَجُ الأخطاءُ فيها بحكمة ، وَيُتَغافَلُ عَن بعضِ الهفواتِ ، ولا يُسْتَقصى في تَتَبُّعِ الزلاتِ ؛ مع السعيِ الحثيثِ في إصلاح الخللِ ، وتقويمِ العَوَجِ ، وتَدَارُكِ الزلل ، قال تعالى :{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }.

وبحُسْنِ العِشْرةِ وطِيْبِ المودَّة ؛ تُبَدَّدُ الهُموم ، ويَحْصُلُ الاطمئنان ، قال الله تعالى :( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ) [النساء:19].

من حسن العشرة كتمانُ السر ، وسترُ العيوب ، ونشرُ ما يَسُرُّ من ثناء ، وحسنُ الإصغاء ، والدعوةُ بأحب الأسماء ، والشكرُ على الإنجاز وحسنِ الصنيع ، والسكوتُ عما يسوء ، وتركُ الجدال ، والنصحُ بلطف ، وسلوكُ مسلك التعريض  وليس التصريح ، والدعاءُ في ظهر الغيب ، وإظهارُ الفرح بما يَسُر ، والحزنُ بما يضر ، والجامعُ لذلك كلِّه أن يُعامِلَ كلُّ منهما الآخر بما يُحِب أن يُعاَملَ به .

ومن حسن العشرة الرفق في التعامل ، فالرفق ما كان في شيء إلا زانه ، وما نزع من شيء إلا شانه .

اللَّهُمَّ أَصْلِحْ قُلُوبَنَا وَأَعْمَالَنَا وَأَحْوَالَنَا، وَاجْعَلْنَا مِنَ الصَّالِحِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.

أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ :

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

عباد الله : في طمأنينةِ الأُسْرَةِ تُرَفْرِفُ السَّعَادَةُ وَتُجَلْجِلُ رَاياتُها ؛ ومن أسباب طمئنينة الأسرة أن يتربى أفرادها على القناعة ، وعلى استشعار نعم الله التي أنعم عليهم بها فيشكروه عليها ، ويسألوا الله المزيد من فضله ؛ فإن القنوع يعيشُ أبد الدهرِ شاكراً مسروراً ، وفي توجيهٍ نبويٍ عظيم ، قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم :( انْظُرُوا إِلَى مَنْ هو أَسفَل مِنْكُمْ وَلا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوقَكُم ؛ فهُوَ أَجْدَرُ أَن لا تَزْدَرُوا نعمةَ اللَّه عَلَيْكُمْ ) متفقٌ عَلَيْهِ . 

واعلموا - رحمكم الله – أن الكمال عزيز ، وأن الاختلاف من طبيعة البشر ، لذا فقد تَهُبُ عواصِفُ الخلافِ على بعضِ الأُسر ، وقد يختلف الزوجان ؛ ولم يسلم بيتٌ من ذلك ، حتى بيتُ النبوةِ على صاحبها أفضل الصلاة والسلام ، فهذه سنة الله في الحياة ، لكن البيتَ الصالحَ والذي عرف فيه كلا الزوجان ما لهما وما عليهما ، فإنه لا يتأثر بأي خلاف بل يزيده تماسكا وثباتا ، ويكسبهُ وعيا وإدراك ، فيصلح الخطأ وتسد أبواب الشر ؛ ومن القواعد المهمة في الحياة الزوجية ، التي ينبغي أن يتذكرها كلا الزوجان ؛ قول النبي صلى الله عليه وسلم :" لا يفرك مؤمن مؤمنة ، إن كره منها خلقا ، رضي منها خلقا آخر ". 

ألاَ فاتقوا الله رحمكم الله ، واستعينوا بهِ سبحانه على صَلاحِ بُيوتِكم ، وهِدَايةِ أولادِكم ، وعاشِروا زَوجاتِكم بالمعروف ، واستوصوا بهنَّ خيرا ، واسألوا اللهَ تعالى من فضله .

هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وَقَالَ- ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رواه مسلم].

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبيك محمد ، وعلى آل بيته ، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين ، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين ، وعن الصحابة أجمعين ، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين .

اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، واحم حوزة الدين ، وانصر عبادك المؤمنين .

اللهم آمنا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، اللهم وفق إمامنا وولي أمرنا بتوفيقك ، اللهم وفّقه وولي عهده ، وأعزّهم بطاعتك، وأعل بهم كلمتك ، وانصر بهم دينك .

للهم إنّا نعوذ بك من الغلاء والوباء ، والربا والزنا ، والزلازل والمحن ، ما ظهر منها وما بطن..

( رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا )

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201]، (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23].

سبحان ربك رب العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين .

 

المرفقات

1727358815_الأسرة المطمئنة.docx

المشاهدات 560 | التعليقات 0