الأسباب الشرعيةلسعة الأرزاق 5 ـ صلة الرحم

جابر السيد الحناوي
1431/06/16 - 2010/05/30 21:17PM
بسـم الله الرحمـن الرحـيم



الأســـباب الشــرعية لســـعة


و يســـر الأرزاق



[glint]5 ـ صلة الرحم[/glint]


عرفنا في الخطبة السابقة إن الكثير من الناس تشغلهم أعباء الحياة ومستلزماتها ، وتسيطر عليهم هموم الانشغال بالرزق ،لدرجة أن هناك من يترك تنفيذ أوامر الله إذا ما تعارضت مع مصالحه الدنيوية ـ من وجهة نظره ـ بحجة تدبير المعاش ، وهذا في الواقع قصر نظر ، وسوء فهم للدين الحنيف ، بل سوء ظن بالله عز وجل والعياذ بالله ؛ إذ أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق العباد ويتركهم هملا ، بل تكفل بأرزاقهم وقدرها لهم وهم في بطون أمهاتهم قبل أن يخرجوا إلي هذه الحياة ، " وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا .. "( [1] ) بل إنه عز وجل من سـعة رحمته قد بين لعباده ، في كتابه العزيز ، وعلي لسان نبيه صلي الله عليه وسلمأن التمسك الحق بشرع الله الحنيف من أعظمالأسباب المؤدية إلى كثرة المال وزيادة الرزق في الدنيا ، وتكفَّل لمن أخذ به بالنجاة من كل محذور، والرزق من حيث لا يحتسب.
وقد تناولنا في الخطب الماضية بعضا من الأسباب الشرعيةلســـعة و يســـر الأرزاق، واليوم ـ إن شاء الله تعالي ـ مع صلة الأرحام وأثرها علي الأرزاق .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلميَقُولُ : " مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ"( [2] )وعَنْه رضي الله عنه أن النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلمقَالَ : " إِنَّ الرَّحِمَ شَجْنَةٌ مِنْ الرَّحْمَنِ ..." ( [3] )
وأصل الشجنة عروق الشجر المشتبكة ، والشَّجَن بالتحريك واحد الشجون وهي طرق الأودية ، ومنه قولهم : " الحديث ذو شجون " أي يدخل بعضه في بعض ، وقوله : " مِنْ الرَّحْمَنِ " أي أخذ اسمها من هذا الاسم كما في حديث عبد الرحمن بن عوف مرفوعا : " أَنَا اللَّهُ وَأَنَا الرَّحْمَنُ خَلَقْتُ الرَّحِمَ وَشَقَقْتُ لَهَا مِنْ اسْمِي " ( [4] ) والمعنى أنها أثر من آثار الرحمة مشتبكة بها ؛ فالقاطع لها منقطع من رحمة الله ، وقال الإسماعيلي : معنى الحديث أن الرحم اشتق اسمها من اسم الرحمن فلها به علقة ، وليس معناه أنها من ذات الله ( [5] ) تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
قال القرطبي : الرحم التي توصل عامة وخاصة ، فالعامة رحم الدين ، ويجب مواصلتها بملازمة الإيمان والمحبة لأهله ( أي أهل الإيمان ) ونصرتهم ، والنصيحة وترك مضارتهم والعدل بينهم ، والنصفة في معاملتهم والقيام بحقوقهم الواجبة ، كتمريض المرضى وحقوق الموتى من غسلهم والصلاة عليهم ودفنهم ، وغير ذلك من [ الحقوق ] المترتبة لهم . وأما الرحم الخاصة وهي رحم القرابة من طرفي الرجل أبيه وأمه ، فتجب لهم الحقوق الخاصة وزيادة ، كالنفقة وتفقد أحوالهم ، وترك التغافل عن تعاهدهم في أوقات ضروراتهم ، وتتأكد في حقهم حقوق الرحم العامة ، حتى إذا تزاحمت الحقوق بدئ بالأقرب فالأقرب. ( [6] )
وقال ابن أبي جمرة : تكون صلة الرحم بالمال ، وبالعون على الحاجة ، وبدفع الضرر ، وبطلاقة الوجه ، وبالدعاء ، والمعنى الجامع إيصال ما أمكن من الخير ، ودفع ما أمكن من الشر بحسب الطاقة ، وهذا إنما يستمر إذا كان أهل الرحم أهل استقامة ، فإن كانوا كفارا أو فجارا فمقاطعتهم في الله هي صلتهم ، بشرط بذل الجهد في وعظهم ، ثم إعلامهم إذا أصروا أن ذلك بسبب تخلفهم عن الحق ، ولا يسقط مع ذلك صلتهم بالدعاء لهم بظهر الغيب أن يعودوا إلى الطريق المثلى . ( [7] )
فصلة الرحم ـ التي ترتب زيادة الرزق ـ معناهتقديم الإحسان إلى ذوي الأرحام بكل أنواع الإحسان حسية ومعنوية ، وسواءً كانوا صغاراً أو كباراً نساءً أو رجالاً يسكنون في بلدك أو بعيدون عنك ، حسب حال الواصل والموصول ، فتارة تكون بالمال ، وتارة بالخدمة ، وتارة بالزيارة ، والسلام ، وغير ذلك. ( [8] )
وقد بوب البخاري رحمه الله في صحيحه: باب مَنْ بُسِطَ لَهُ فِي الرِّزْقِ بِصِلَةِ الرَّحِمِ ، أي لأجل صلة رحمه ، وذكر حديث أبي هريرةرضي الله عنهالذي بدأنا به الخطبة : " مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ " ثم حديث أنس رضي الله عنه: " مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ " ( [9] )
وفي فتح الباري ذكر ابن حجر ( [10] ) : وللترمذي من وجه آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه: " ... إِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ فِي الْأَهْلِ مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ مَنْسَأَةٌ فِي الْأَثَرِ "( [11] ) وعند أحمد بسند رجاله ثقات عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا :" ... صِلَةُ الرَّحِمِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ وَحُسْنُ الْجِوَارِ يَعْمُرَانِ الدِّيَارَ وَيَزِيدَانِ فِي الْأَعْمَارِ " ( [12] ) وأخرج ابن حجر في " الأدب المفرد " من حديث ابن عمر رضي الله عنه بلفظ : " مَنْ اِتَّقَى رَبّه وَوَصَلَ رَحِمه نُسِئَ لَهُ فِي عُمُره ، وَثَرِيَ مَاله ، وَأَحَبَّهُ أَهْله ".( [13] )
وهناك ظاهرة عجيبة في مسألة الأرزاق تأخذ بالألباب ألا وهي أن بعضالمسلمين ضعيفي النشاط قليلي الخبرة في التجارة وإدارة الأعمال،قياساً بغيره من أصحابرؤوس الأموال والخبرات ، تجده قد فتح الله له أبوابا تلو أبواب من الرزق ، ولكنك إذا فتشت عن حاله وجدته ممنيصل رحمه.
ولكن الظاهرة الأعجب من ذلك ،أن نري بعض العصاة والفساق ، بل وبعضالفجرة قد تنمو أموالهم بسبب صلة الرحم ، والحقيقة أنه لا عجب من ذلك كله ، فالسنة النبوية المشرفة تزيل الغموض وتكشف المستور ، فعن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلمأنه قال: " ما من ذنب أجدرأن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة له من قطعيةالرحم " ( [14] )وعلي العكس من ذلك فعنه أيضا أن النبي صلي الله عليه وسلمقال: " إن أعجل الطاعة ثوابا صلة الرحم، حتى إن أهل البيتليكونون فجارا تنمى أموالهم و يكثر عددهم إذا وصلوا أرحامهم"( [15] )
إن هذا الحديثيفسر لنا ظاهرة ربما كانت موضع استغراب عند الكثيرين: " إن اهلالبيت ليكونوا فجره، فتنمو أموالهم، ويكثر عددهم، إذا تواصلوا"
*** *** ***

صلة الرحم عبادة إذا ما قام بها العبد خالصة بها قلبه لله تعالي ، أنتجت آثارها الإيجابية العظيمة في الحياة الدنيا قبل الآخرة ، ومن أهميتها أمر الله بها عباده ملازمة لأمره لهم بالتوحيد فقال سبحانه وتعالى : " وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ..." ( [16] )
فبعد ما أمر سبحانه وتعالى بعبادته والقيام بحقه أمر بالقيام بحقوق العباد الأقرب فالأقرب ، فقال : " وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا " أي : أحسنوا إليهم بالقول الكريم والخطاب اللطيف والفعل الجميل بطاعة أمرهما واجتناب نهرهما والإنفاق عليهما وإكرام من له تعلق بهما ، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا بهما.
" وَبِذِي الْقُرْبَى " أيضا إحسانا ، ويشمل ذلك جميع الأقارب ، قربوا أو بعدوا ، بأن يحسن إليهم بالقول والفعل ، وأن لا يقطع رحمه بقوله أو فعله ( [17] ) ، ثم أتبع ذلك الأمر بالإحسان أيضا إلي بعض مفردات الرحم الإسلامية العامة .
وقد رأينا أن الأحاديث النبوية المشرفة تبين أن صلة الرحم يترتب عليها الخير العميم .. تبسط في الرزق وتفتح أبوابه وتنمي المال ، ومن آثارها أيضا أنها تطيل الأعمار وتبارك فيها ، واقرءوا ـ إن شئتم ـ الأحاديث مرة ثانية ، " مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ " فقوله : " وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ "أي يؤخر في أجله ، وسمي الأجل أثرا لأنه يتبع العمر ، قال زهير :
والمرء ما عاش ممدود له أمل لا *** ينقضي العمر حتى ينتهي الأثر
وأصله من أثر مشيه في الأرض ، فإن من مات لا يبقى له حركة فلا يبقى لقدمه في الأرض أثر ، قال ابن التين : ظاهر الحديث يعارض قوله سبحانه وتعالى :" فَإِذَا جَاءَ أَجَلهمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ " ( [18] )والجمع بينهما من وجهين :
أحدهما : أن هذه الزيادة كناية عن البركة في العمر بسبب التوفيق إلى الطاعة ، وعمارة وقته بما ينفعه في الآخرة ، وصيانته عن تضييعه في غير ذلك ، ومثل هذا ما جاء أن النبي صلي الله عليه وسلمتقاصر أعمارُ أمته بالنسبة لأعمار من مضى من الأمم فأعطاه الله ليلة القدر ، وحاصله أن صلة الرحم تكون سببا للتوفيق للطاعة والصيانة عن المعصية فيبقى بعده الذكر الجميل ، فكأنه لم يمت ، ومن جملة ما يحصل له من التوفيق العلم الذي ينتفع به من بعده ، والصدقة الجارية عليه ، والخلف الصالح .
ثانيهما :أن الزيادة على حقيقتها ، وذلك بالنسبة إلى علم الملك الموكل بالعمر ، وأما الأول الذي دلت عليه الآية فبالنسبة إلى علم الله تعالى ، كأن يقال للملك مثلا : إن عمر فلان مائة مثلا إن وصل رحمه ، وستون إن قطعها . وقد سبق في علم الله أنه يصل أو يقطع ، فالذي في علم الله لا يتقدم ولا يتأخر ، والذي في علم الملك هو الذي يمكن فيه الزيادة والنقص وإليه الإشارة بقوله سبحانه وتعالى : " يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب " ( [19] )
فالمحو والإثبات بالنسبة لما في علم الملك ، وما في أم الكتاب هو الذي في علم الله تعالى فلا محو فيه البتة ، ويقال له القضاء المبرم ، ويقال للآخر القضاء المعلق .
والوجه الأول أليق بلفظ حديث الباب ، و يكون المعنى أن الله عز وجليبقي أثر واصل الرحم في الدنيا طويلا فلا يضمحل سريعا كما يضمحل أثر قاطع الرحم .( [20] )
وصلى اللهم وسلم على نبينا محمد وعلي آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلي يوم الدين .
(جميع الحقوق متاحة لكافة المسلمين بمختلف الوسائل غير الربحية فإنها تحتاج إلي تصريح كتابي )

[1] هود : 6

[2] صحيح البخاري 18 / 385

[3]صحيح البخاري 18 / 389


[4] سنن الترمذي 7 / 137

[5] تحفة الأحوذي 5 / 148

[6] تفسير القرطبي 16 / 247

[7] فتح الباري لابن حجر 17 / 115

[8] القاموس الفقهي 1 / 145

[9] صحيح البخاري 18 / 384 - 386

[10] فتح الباري لابن حجر 17 / 112

[11] سنن الترمذي 7 / 249

[12] مسند أحمد 51 / 255 و السلسلة الصحيحة – مختصرة ـ الألباني 2 / 48

[13] الأدب المفرد للبخاري 1 / 89

[14] صحيح ابن حبان 2 / 401

[15]السلسلة الصحيحة 3 / 52

[16] النساء : 36

[17]تفسير السعدي 1 / 177


[18] الأعراف : 34

[19] الرعد : 39

[20]فتح الباري لابن حجر 17 / 112
المشاهدات 2971 | التعليقات 0