الأرملة ما لها وما عليها

أيمن عرفان
1436/09/04 - 2015/06/21 12:37PM
نعيش اليوم في رحاب آية من سورة البقرة يقول الله عز وجل فيها : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة 234]. "والذين" أي والرجال الذين يموتون منكم. "ويذرون أزواجا" أي يتركون أزواجا، أي ولهم زوجات؛ فالزوجات "يتربصن"؛ التربص: التأني والتصبر عن النكاح، وترك الخروج عن مسكن النكاح وذلك بألا تفارقه ليلا. قوله تعالى: "أربعة أشهر وعشرا" أي أربعة أشهر وعشرة أيام بلياليهم على الأرجح، قوله تعالى: "فلا جناح عليكم" خطاب لجميع الناس، والتلبس بهذا الحكم هو للحكام والأولياء. "فيما فعلن" يريد به التزوج فما دونه من التزين واطراح الإحداد. "بالمعروف" أي بما أذن فيه الشرع من اختيار أعيان الأزواج وتقدير الصداق دون مباشرة العقد؛ لأنه حق للأولياء كما تقدم.
هذه الآية تحتوي على العديد من الأحكام التي تتعلق بالمرأة إذا مات عنها زوجها، واخترنا هذه الآية لسببين، السبب الأول حتى نرى عظمة التشريع الإسلامي وكيف أنه أعطى للمرأة حقوقا لم ولن تحظ بها في أي مجتمع آخر غير المجتمع المسلم، السبب الثاني كي نتذاكر سويا بعض الأحكام التي تتعلق بالأرملة والتي ربما تكون قد طغت عليها العادات والتقاليد.
(1) أول حكم يستوقفنا في هذه الآية هو واجب من الواجبات التي تكون على الأرملة ألا وهو "العدة" وبينت الآية أن عدة الأرملة أربعة أشهر وعشرا سواء كانت صغيرة أو كبيرة تحيض أو لا تحيض، ويستثنى من ذلك الحامل فعدة الحامل المتوفى عنها زوجها وضع حملها عند جمهور العلماء. روى الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ: (أَنَّ سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّةَ نُفِسَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا ، بِلَيَالٍ فَجَاءَتِ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتَأْذَنَتْهُ أَنْ تَنْكِحَ ، فَأَذِنَ لَهَا ، فَنَكَحَتْ).
(2) ومن الواجب على الأرملة الإحداد فترة العدة، وهو الامتناع عن الزينة ولبس المصبوغ الجميل والطيب ونحوه، وهذا قول جمهور العلماء. روى الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: (كُنَّا نُنْهَى أَنْ نُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَلَا نَكْتَحِلَ وَلَا نَطَّيَّبَ وَلَا نَلْبَسَ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ). وهو نوع معين من الملابس كان يأتي من اليمن يصبغ قبل أن ينسج.
(3) وإذا كان على الأرملة واجبات فقد أعطاها الإسلام حقوق، من هذه الحقوق أن فترة التربص هذه تقضيها في بيت الزوجية، فالإسلام منحها حق السكنى لانقضاء فترة العدة، فإذا لم يكن لدى زوجها المتوفى مسكن، فيتم اقتطاع جزء من ماله لتوفير السكن لها، روى الترمذي بإسناد صحيح أَنَّ الْفُرَيْعَةَ بِنْتَ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ بعد أن قتل زوجها جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْأَلُهُ ، قَالَتْ: (فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي فَإِنَّ زَوْجِي لَمْ يَتْرُكْ لِي مَسْكَنًا يَمْلِكُهُ وَلَا نَفَقَةً. قَالَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ. قَالَتْ: فَانْصَرَفْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي الْحُجْرَةِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ نَادَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَمَرَ بِي فَنُودِيتُ لَهُ فَقَالَ: كَيْفَ قُلْتِ؟ قَالَتْ: فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ الَّتِي ذَكَرْتُ لَهُ مِنْ شَأْنِ زَوْجِي. قَالَ: امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ. قَالَتْ: فَاعْتَدَدْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا). ويجوز لها أن تخرج في حوائجها من وقت انتشار الناس بكرة إلى وقت هدوئهم بعد العتمة، ولا تبيت إلا في ذلك المنزل.
(4) ومن الحقوق التي أعطاها الإسلام للأرملة حق الإرث، فلها الحق في الإرث من ماله ولا يجوز الأخذ منه إلا برضاها، وقد حدد الشرع الحنيف إرث الأرملة بالربع إذا لم يكن لدى المتوفى وارثاً، وإذا كان لديه وارثاً مثل الأبناء فلها الثمن، حين قال جل شأنه في القرآن الكريم: {ولَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12]. فالإسلام يريد أن يوفر للأرملة حياة كريمة كي لا تحتاج إلى أحد بعد موت زوجها، ، فإذا لم يترك الزوج مالاً يكفي لسد حاجتها وحاجة أولادها هنا تصبح القضية قضية مجتمع، فعلى المجتمع مساعدتها، وتصبح الصدقة لها واجبة، من هنا جاء الحث من النبي صلى الله عليه وسلم على الإنفاق على هذه الأرملة، بل أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الإنفاق عليها كالجهاد في سبيل الله، روى الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « السَّاعِى عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ - وَأَحْسِبُهُ قَالَ - كَالْقَائِمِ لاَ يَفْتُرُ ، وَكَالصَّائِمِ لاَ يُفْطِرُ» .
(5) أمر آخر يستوقفنا في هذه الآية، وهي أنه بانتهاء العدة يجوز للأرملة أن تتزوج، وهذا أمر غير موجود في العديد من المجتمعات غير المسلمة، فنجد في هذه المجتمعات أنه بانتهاء حياة الزوج، تنتهي الحياة الزوجية لهذه المرأة، فلا يجوز لها أن تتزوج بعد زوجها، هذا التشريع في الإسلام يبين عظمة الإسلام في التشريع، وأنه منهج سماوي دقيق يراعي كل ظروف الإنسان، ففي كثير من الأحيان لا تكون مشكلة الأرملة مالية، لكنها في أحيان كثيرة تكون معاناة نفسية، جراء فقدانها الزوج الذي هو الأنيس والسند، وهوالأب لأولادها، فعليها أن تتحمل هي مشوار تربية الأبناء والقيام بمسؤوليات الأب والأم معاً. ولذلك نجد أن الآيات لم تأت فقط لتبيح وتجيز للأرملة أن تتزوج بعد انقضاء العدة، بل جاءت الآيات لتحث على ذلك، يقول الله عز وجل: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور 32]. هذه المخاطبة تدخل في باب الستر والصلاح؛ وهذا أمر من الله عز وجل أي زوجوا من لا زوج له منكم من الرجال والنساء فإنه طريق التعفف؛ والخطاب للأولياء. وقوله تعالى: "إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله" أي لا تمتنعوا عن التزويج بسبب فقر الرجل والمرأة؛ "إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله". وهذا وعد بالغنى للمتزوجين طلب رضا الله واعتصاما من معاصيه. وقال عمر رضي الله عنه: عجبي ممن لا يطلب الغني في النكاح، وقد قال الله تعالى: "إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله".
وهذا من عظمة التشريع الإسلامي، أن يسمح ويحث الأرملة على أن تكمل حياتها، يوفر لها حياة كريمة تحت رعاية زوج صالح بديلا عن الزوج الذي فقدته، وفي الوقت نفسه يوفر لها أب بديل يعينها على تربية هؤلاء الأيتام، ولذلك المتأمل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم يجد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حرصا كل الحرص على أن يسد هذه الثغرة في المجتمع وهي ثغرة الأرامل ، فلم يكن يترك أرملة إلا ووفر لها الحياة الأسرية بعد موت زوجها، تخيل في ذلك الوقت الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم مشغول كل الشغل، الوحي ينزل ويعلم الصحابة، ويؤسس المجتمع المسلم، ويواجه الأعداء الخارجيين والأعداء الداخليين في المدينة من اليهود والمنافقين، ومع ذلك كله نجد ماذا: (أ) الصحابي الجليل السكران بن عمرو من مهاجرة الحبشة هاجر إليها ومات هناك فتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم من أرملته سودة بنت زمعها ليعفها ويحميها من الفتنة بعد موت زوجها. (ب) عبيدة بن الحارث صحابي جليل سقط يوم بدر شهيدا فتزوج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت خزيمة أرملته بعد أن قتل زوجها. (جـ) عبد الله بن عبد الأسد أبي سلمة كان أول من هاجر إلى الحبشة وكان أخو النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، لما توفي من أثر جرح أصابه يوم أحد تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بأرملته أم سلمة. (د) وحين استشهد ابن عم النبي - جعفر بن أبي طالب - وكان عند جعفر أطفال، رسول الله لم يترك أرملة جعفر، ولكنه بنفسه زوج أرملة جعفر من أبي بكر الصديق، وما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك إلا لعلمه التام بما تحتاج إليه الأرملة وما يصلح لها، وليعلم الأمة أن من المروءة ومن إصلاح المجتمع ومن الإسلام ألا تترك الأرملة دون زوج يعفها ويراعي مصالحها، هذا هو المجتمع المسلم الذي وصفه النبي بأنه كالبنيان يشد بعضه بعضا، ولذلك تعلم الصحابة الدرس، حتى أن الواحد منهم كان إذا ترملت ابنته يسعى بنفسه لتزويجها، روى البخاري في صحيحه: (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنْ خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِىِّ - وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَتُوُفِّىَ بِالْمَدِينَةِ - فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَتَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَفْصَةَ فَقَالَ سَأَنْظُرُ فِى أَمْرِى . فَلَبِثْتُ لَيَالِىَ ثُمَّ لَقِيَنِى فَقَالَ قَدْ بَدَا لِى أَنْ لاَ أَتَزَوَّجَ يَوْمِى هَذَا . قَالَ عُمَرُ فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ فَقُلْتُ إِنْ شِئْتَ زَوَّجْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ . فَصَمَتَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَىَّ شَيْئًا ، وَكُنْتُ أَوْجَدَ عَلَيْهِ مِنِّى عَلَى عُثْمَانَ ، فَلَبِثْتُ لَيَالِىَ ثُمَّ خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ ، فَلَقِيَنِى أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ لَعَلَّكَ وَجَدْتَ عَلَىَّ حِينَ عَرَضْتَ عَلَىَّ حَفْصَةَ فَلَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكَ شَيْئًا . قَالَ عُمَرُ قُلْتُ نَعَمْ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِى أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ فِيمَا عَرَضْتَ عَلَىَّ إِلاَّ أَنِّى كُنْتُ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ ذَكَرَهَا ، فَلَمْ أَكُنْ لأُفْشِىَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَوْ تَرَكَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم – قَبِلْتُهَا).
روى الإمام مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كَافِلُ الْيَتِيمِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ) وَأَشَارَ مَالِكٌ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى. هذا الحديث يبين أن المرأة إذا حبست نفسها على رعاية أيتامها فلها أجر كافل اليتيم، ولكن ينبغي أن يكون ذلك منها طواعية مع أمن الفتنة. بمعنى أن ألا يكون هذا قاعدة عامة تطبق على جميع الأرامل، بل الأمر يختلف من حالة إلى أخرى، ف قد يكون في عدم تزويج المرأة ضرر بالأبناء، فالمرأة بطبيعتها ضعيفة، مهما كانت شدتها في التربية لن تكون كشدة الرجل، هناك امرأة تستطيع أن تقوم بهذه المهمة وتكون أما وأبا في نفس الوقت، وهناك امرأة بطبيعتها لا تستطيع ويكون في تربيتها للأبناء ضرر بالأبناء، هناك امرأة تصبر على عدم وجود الزوج وامرأة لا تصبر، مثل هذه المرأة في عدم تزويجها ضرر ليس بالأبناء فقط بل بالمجتمع كله، في مثل هذه الحالة يكون زواجها ولكن بشرط من الرجل الصالح القادر على مساعدتها في تربية هؤلاء الأبناء أفضل لها وللأبناء، وهي بذلك تجمع بين فضيلتين، فضيلة رعاية الأيتام وفضيلة خدمة الزوج ، وتعطي هذا الزوج الفرصة لمشاركتها أجر كفالة هذا اليتيم. والله أعلم
المشاهدات 3256 | التعليقات 0