الأرزاق والآجال مكتوبة فاطمئنوا

عبدالعزيز أبو يوسف
1445/12/28 - 2024/07/04 15:12PM

الخطبة الأولى

   : الحمد لله المبدأ المعيد، الفعالُ لما يُريد ، خلق فسوى، وقدر فهدى ، أحمده وأشكره وأُثني عليه الخير كله هو رب كل شيء ومليكه، وأُصلي وأُسلم على رسوله ومصطفاه محمد ابن عبدالله وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد

    فاتقوا الله عباد الله وأطيعوه تفوزوا وتفلحوا في الدارين، ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يُصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يُطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً)

أيها المسلمون: من درر السنة النبوية وهداياتها ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله وهو الصادق المصدوق فقال: " إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً ، ثم تكون في ذلك علقة مثل ذلك ، ثم تكون في ذلك مضغة مثل ذلك ، ثم يُرسل الملك فينفخ فيه الروح (ويؤمر بأربع كلمات ، بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيـــدخلها)

 أيها المباركون: تضمن هذا الحديث العظيم عدداً من الهدايات والغيبيات
فقد أُخبِرُ فيه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ الجَنينَ في بَطنِ أُمِّه يَمُرُّ في تَكوينِه بأربَعةِ أطوارٍ؛ فيَكونُ في الطَّوْرِ الأوَّلِ لِمُدَّةِ أربَعينَ يَومًا حَيَوانًا مَنَويًّا يَجتَمِعُ ببُوَيْضةِ الأُنثى، فيُلَقِّحُها، وتَحمِلُ المَرأةُ بإذْنِ اللهِ تَعالى ، ثمَّ يَتَحوَّلُ في الطَّوْرِ الثَّاني إلى قِطعةِ دَمٍ جامِدةٍ تَعْلَقُ بالرَّحِمِ لِمُدَّةِ أربَعينَ يَومًا ، ثمَّ يَتحَوَّلُ في الطَّوْرِ الثَّالِثِ إلى قِطعةِ لَحمٍ صَغيرةٍ بقَدْرِ ما يَمضُغُ الإنسانُ في الفَمِ، لِمُدَّةِ أربَعينَ يَومًا،  ثمَّ في الطَّورِ الرَّابِعِ يَبدَأُ تَشكيلُه وتَصويرُه، ويَكونُ قد أكمَلَ أربَعةَ أشهُرٍ، فيُرسِلُ اللهُ تعالى إليه المَلَكَ المُوَكَّلَ بالأرحامِ؛ فيَكتُبُ أعمالَه التي يَفعَلُها طِيلَةَ حَياتِه خَيرًا أو شَرًّا، ورِزقَه وأجَلَه، ويَكتُبُ خاتِمَتَه ومَصيرَه الذي يَنتَهي إليه إنْ كانَ مِن أهلِ الشَّقاوةِ أو مِن أهلِ السَّعادةِ، وتَقَعُ الأعمالُ وَفْقَ ما كُتِبَ

أيها المؤمنون : ومما تضمنه الحديث أن الإيجاد والخلق إنما هو من الله تعالى والوالدان ليسا إلا أسباباً لا يملكون ذلك بمحض قوتهم وإرادتهم ، فما شاء سبحانه كان ، وما لم يشأ لم يكن ولو اجتمعت الأسباب كلها، فهو القائل سبحانه : ( وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا  بعلمه ) ، وهو عز وجل القائل : ( أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون )، وفي هذا همسة في أُذن كل من يفخر ويتكبر على غيره بكثرة ولده بأنه لا حول لك ولا قوة فلا تفخر وتتكبر على عباد الله بأمر ليس لك فيه حيلة أو قوة، وما هو إلا من فعل الجاهلية

.كما  تضمن هذا الحديث أن الله عز وجل كَتَبَ اللهُ  أقدارَ الخَلائِقِ في اللَّوحِ المَحفوظِ، وهي واقِعةٌ وَفْقَ ما قَضَى سبحانه وقَدَّرَ

    فإذا كانت الأرزاق مقسومة مكتوبة ، والآجال محسومة مؤقته فلم القلق على الرزق وتحميل النفس ما لا تطيق من الهم والخوف بسببه ، فما على العبد إلا فعل السبب من غير أن يعتمد عليه أو يعتقد أنه كافٍ لحصول ما يطلب من الرزق ، بل يجزم أنه سبب فحسب والمسبب والآذن بالرزق هو الله تعالى الذي قدر الرزق لكل مخلوق وهو في بطن أمه، وليلتمس الرزق مما أباحه الله تعالى وليحذر أن يطلبه مما حرمه جل وعلا، قال رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :" إنّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ في رُوعِي أنّ نَفْساً لنْ تَمُوتَ حَتّى تَسْتَكْمِلَ أجَلَها وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَها، فاتّقُوا الله وأجْمِلُوا في الطَّلبِ، ولا يَحْمِلنَّ أحَدَكُمُ اسْتِبْطاءُ الرِّزْقِ أنْ يَطْلُبَهُ بِمَعْصِيَةِ الله، فإنّ الله تعالى لا يُنالُ ما عِنْدَهُ إلاّ بِطاعَتِهِ". رواه أبو نعيم  وصححه الألباني

    ومما يجدر بالتنبيه عليه أن الرزق ليس بابًا واحدًا وهو المال؛  فإن فاتك التوسعة في الرزق بالمال ، فانظر إلى ما منحك الله تعالى من أرزاق أخرى ، فالصحة والعافية رزق قد يُرزَقها الفقير ويُحرَمها الغني، وكذلك الستر رزق، ومحبة الناس رزق، والزوجة الصالحة رزق، والأبناء البررة رزق، والجار الصالح رزق، والتوفيق من الله رزق، والعلم النافع ، والعقل الراجح رزق، وأعظم الأرزاق على الإطلاق هو رزقُ الإيمانِ والاستقامة والعمل الصالح، ولننظر لحال الراحلين عن الدنيا: هل تساوي كنوز الأرض طاعة لله واحدة والاتيان للآخرة بما يُرضي الله تعالى

قيل لحاتم الأصم رحمه الله: على ما بنيت أمرك في التوكل على الله؟ قال: "على خصال أربعة: علمت أن رزقي لا يأكله غيري فاطمأنت نفسي، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتي بغتة فأنا أبادره، وعلمت أني لا أخلو من عين الله فأنا مستحي منه"، ورحم الله الشافعي إذ 

                                 توكلتُ فِي رزقي على الله خالقي          وأيقنتُ أن الله لا شك رازقي                                                                                                                 

                      وما يك من رزقي فليس يفوتني         ولو كان في قاع البحار العوامقِ                                                                                                                 

سيأتي به الله العظيم بفضله                ولو لم يكن مني اللسان بناطقِ                                                                                                                   

                          ففي أي شيء تذهب النفس حسرة          وقد قسَّم الرحمن رزق الخلائ                                                                                                                   


أيها الفضلاء: تضمن الحديث بيان أن الأجل مكتوب ومقدر والجنين في بطن أمه ، فلم الخوف المذموم من الموت والتوجس منه وكثرة التفكير فيه حتى يُقعِد عن كثير من عمل الدنيا وواجباتها من طلب الرزق وغيره ، وربما جلب كثيراً من الأمراض النفسية والعضوية مع قلة العمل للآخرة وحُسن الاستعداد لها، أما الخوف المحمود من الموت فهو الداعي لحُسن الاستعداد له بالمجاهدة للنفس وأطرها على بذل الخير والالتزام بما أمر الله تعالى ، والتزود للآخرة بالأعمال الصالحة، وقِصر الأمل الدافع للقناعة بما قسم الله تعالى وأعطى وغير ذلك من المحاسن دون أن يُقصِر العبد فيما له من الدنيا وعليه فيها ، وعدم التطلع لما في أيدي الآخرين مع قلة العمل وحُسن الاستعداد له .

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ( فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى  ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها ) ، قال الإمام النووي رحمه الله : " إنه من لطف الله تعالى وسعة رحمته انقلاب الناس من الشر إلى الخير في كثرة ، وأما انقلابهم من الخير إلى الشر ففي غاية الندرة ، ونهاية القلة ، وهو نحو قوله تعالى : " إن رحمتي سبقت غضبي " ويدخل في هذا من انقلب عمل النار بكفر أو معصية لكن يختلفان في التخليد وعدمه ، فالكافر يخلد في النار ، والعاصي الذي مات موحداً لا يخلد فيها 

ومن أوجه ذلك ما ورد ُفي حَديثُ سَهلِ بنِ سَعدٍ السَّاعِديِّ رَضيَ اللهُ عنه في الصَّحيحينِ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الرَّجُلَ لَيَعمَلُ عَمَلَ أهلِ الجَنَّةِ فيما يَبْدو لِلنَّاسِ وهو مِن أهلِ النَّارِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَعمَلُ عَمَلَ أهلِ النَّارِ فيما يَبْدو لِلنَّاسِ وهو مِن أهلِ الجَنَّةِ»؛ فالظَّاهرُ للنَّاسِ غيرُ الباطنِ الذي يَعلَمُه اللهُ سُبحانه.     ولا شك أن النفاق محبط للعمل نسأل الله تعالى السلامة، ولهذا ينبغي لكل مسلم أن يُكثر من دعاء الله تعالى بالثبات حتى الممات ، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: " كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يُكثرُ أن يقولَ : يا مقلِّبَ القلوبِ ثَبِّتْ قلبِي على دينِك فقلت يا نبيَّ اللهِ آمنَّا بك وبما جئتَ به فهل تخافُ علينا؟ قال: نعم إن القلوبَ  بينَ إصبعينِ من أصابعِ اللهِ يُقلِّبُها كيفَ يشاءُ" رواه الترمذي. فلا ينبغي الاغترار بالعمل وما عليه العبد من الإيمان فالعبرة بالخاتمة

وفي الحَديثِ: الإيمانُ بالقَدَرِ، سَواءٌ تَعلَّقَ بالأعمالِ أو بالأرزاقِ والآجالِ

وفي الحديث: أنَّ الأعمالَ مِنَ الحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ أمَاراتٌ لا مُوجِباتٌ، وأنَّ مَصيرَ الأمْرِ في العاقِبةِ إلى ما سَبَقَ به القَضاءُ وجَرَى به التَّقديرُ.

     

اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم

 


  

الخطبة الثانية

:الحمد لله عدد خلقه ، ورضا نفسه ، وزنة عرشه ، ومداد كلماته ، أما بعد

عباد الله: صلوا وسلموا على من أمرنا المولى بالصلاة والسلام عليه فقال عز من قائل   عليماً: ( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً) ، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر وأرض اللهم عن خلفائه الراشدين والأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وعن سائر الصحب والآل ومن تبعهم بإحسان إلى يوم التناد، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين

اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعدائك أعداء الدين ، وانصر عبادك الموحدين ، اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، اللهم وفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين وولي عهده لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال، ومدهما بعونك وتوفيقك ، اللهم احفظ جنودنا المرابطين على حدودنا، وأدم الأمن والإيمان ورغد العيش على بلادنا وبلاد المسلمين،  اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا ، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا ، وحرم على النار أجسادنا ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

.سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين

المشاهدات 674 | التعليقات 0