الأدعية الخمسة

شايع بن محمد الغبيشي
1445/02/23 - 2023/09/08 02:41AM

الأدعية الخمسة

إنّ الحمدَ لله نَحْمَدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُه ونعوذ بالله من شرور أنفسينا وسيئات أعمالنا، من يهدِ اللهُ فلا مضل له ومن يضلل فلا هاديَ له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبدُهُ ورسُولُهُ ــ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا.

أما بعدُ : فاتقوا الله عبادَ الله حق التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}

عباد الله حديثنا اليوم عن مرض خطير وداء عضال يصيب القلب من ابتلي به أصابه العطب وقل أن يعافى منه، كم ضل به أناس كانوا على البر والتقوى فلما أصابهم حل بهم العمى فلا للحق يبصرون ولا بالحوادث يعتبرون هذا رجل يدعى عبدة بن عبد الرحيم ذكر ابن الجوزي أنه كان من المجاهدين كثيراً في بلاد الروم، فلما كان في بعض الغزوات والمسلمون محاصروا بلدة من بلاد الروم إذ نظر إلى امرأة من نساء الروم في ذلك الحصن فهويها فراسلها، ما السبيل إلى الوصول إليك؟ فقالت: أن تتنصر وتصعد إلي، فأجابها إلى ذلك فما راع المسلمين إلا وهو عندها، فاغتم المسلمون بسبب ذلك غماً شديداً، وشق عليهم مشقة عظيمة فلما كان بعد مدة مروا عليه وهو مع تلك المرأة في ذلك الحصن فقالوا: يلا فلان! ما فعل قرآنك؟ ما فعل علمك؟ ما فعل صيامك؟ ما فعل جهادك؟ ما فعلت صلاتك؟ فقال: اعلموا أني أنسيت القرآن كله إلا قوله: رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ* ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. وقد صار لي فيهم مال وولد. انتهى.

ما هو ذلك الداء؟ إنه داء زيغ القلب عن الحق أجارنا الله من ذلك {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} ([1])  

إن الزيغ داء جد خطير، إذ به يرتكس القلب، ويحور بعد كوره، وتزل الأقدام بعد ثبوتها، وينقض الغزل من بعد القوة أنكاثاً. وأشد ما يكون الزيغ خطراً إن زاغ العالِم ومن يُقتدى به من أهل الخير والصلاح؛ لكثرة من يتبعهم، قال زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ: قَالَ لِي عُمَرُ هَلْ تَعْرِفُ مَا يَهْدِمُ الْإِسْلَامَ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَال:  »يَهْدِمُهُ زَلَّةُ الْعَالِمِ، وَجِدَالُ الْمُنَافِقِ بِالْكِتَابِ، وَحُكْمُ الْأَئِمَّةِ الْمُضِلِّينَ«  رواه الدارمي وصححه الألباني.

 ولداء الزيغ أعراضٌ وأسباب وعلامات، ينبغي معرفتها؛ لنجتنبها ونحذر منها، ومعالجة القلب عند وجودها، ومن تلك الأسباب والعلامات:

أولاً: اتباع المتشابه من نصوص الوحي وترك الواضح البين الذي لا اشتباه فيه، كما قال الله تعالى: { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ } ([2])  قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "فإذا رأيت الذين يتبعون ‌ما ‌تشابه ‌منه، ‌فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم" رواه البخاري.

ثانياً: من علامات زيغ القلب وأسبابه: الشك في ثوابت الدين ومحكماته، كمن شكك في تكفير اليهود والنصارى بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم:{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}([3])، أو شكك في تحريم الربا أو شك في حرمة خلوة الرجال بالنساء؛ فقد فسر ترجمان القران ابن عباس رضي الله عنهما قول الله تعالى: { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } بأنهم أهل الشك.

ثالثاً: من علامات زيغ القلب وأسبابه: تبدل الآراء الشرعية اتباعاً لهو النفس وبمعزل عن الأدلة الشرعية المعتبرة، يقول حذيفة رضي الله عنه: "مَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَعْلَمَ أَصَابَتْهُ الْفِتْنَةُ أَمْ لَا فَلْيَنْظُرْ فَإِنْ كَانَ يَرَى حَرَامًا مَا كَانَ يَرَاهُ حَلَالًا، أَوْ يَرَى حَلَالًا مَا كَانَ يَرَاهُ حَرَامًا، فَقَدْ أَصَابَتْهُ الْفِتْنَةُ" رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.

رابعاً: من علامات زيغ القلب وأسبابه الولوغ في الشهوات المحرمة والانغماس فيها وأن يطلق العبد لسمعه وبصره وجوارحه العنان ويتعرض للفتن، فتتكاثر على قلبه فيزيغ عن حُذَيْفَةُ: سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"‌تُعْرَضُ ‌الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا. فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ. وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا. فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ. وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا، كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا. إِلَّا مَا أشرب من هواه" رواه مسلم

خامساً: من علامات زيغ القلب وأسبابه: الانهماك في الدنيا ونسيان الآخرة وضعف الإيمان بها: كما قال الله تعالى {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ } ([4])  قال ابن عباس رضي الله عنهما: ولتزيغ إليه قلوبهم. ونسيان الآخرة أعظم سبب للطغيان والغفلة والبعد عن الله قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } ([5])  

 سادساً: من علامات زيغ القلب وأسبابه: الاسترسال مع وساوس الشيطان وعدم قطعها، ولذا كان من علامة يقظة القلب سرعة تبصره عند وقوع زيغ فيه كما قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ }([6]) أي إذا مسهم زيغ يعرفون أنهم في غي وحينئذ يستغفرون الله تعالى ويذكرونه جل وعلا، فيخنس الشيطان ويذل ويصغر فيسلمون من وسوسته.

الخطبة الثانية:

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

أما بعد: عباد الله من علامات زيغ القلب وأسبابه:

سابعاً: مصاحبة الزائغين من المبتدعة والمفتونين وأرباب الشهوات والاستئناس بهم والدخول في مواقعهم والنظر إلى برامجهم وقراءة كتبهم، يقول عمرو بن قيس: "لا تجالس صاحب زيغ فيزيغَ قلبُك"، فالقلوب ضعيفة، والشبه خطافة، والمعصوم من عصمه الله.

ثامناً: من أسباب الزيغ وعلاماته: ترك شئ من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ }([7]) يقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه: " ‌لَسْتُ ‌تَارِكًا ‌شَيْئًا ‌كَانَ ‌رَسُولُ ‌اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْمَلُ بِهِ إِلَّا عَمِلْتُ بِهِ. إِنِّي أَخْشَى إِنْ تَرَكْتُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ أَنْ أَزِيغَ " رواه مسلم

عباد الله، زيغ القلوب داء بدايته من العبد، عندما تلبس بأسباب الزيغ أزاغ الله قلبه، ولا يظلم ربك أحداً، { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } ([8]) وهناك أدعية خمسة من لازمها ولهج بها بصدق سلم بإذن الله من الضلال والزيغ وهي:

 أولاً: دعاء الراسخين في العلم: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} ([9])  

ثانياً: عن شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ، قَالَ: قُلْتُ لِأُمِّ سَلَمَةَ: يَا أُمَّ المُؤْمِنِينَ مَا كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ عِنْدَكِ؟ قَالَتْ: كَانَ أَكْثَرُ دُعَائِهِ: يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ " رواه الترمذي وصححه الألباني.

ثالثاً: عبد الله بن عمرو بن العاص، يقول: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد، يصرفه حيث يشاء» ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك» رواه مسلم

رابعاً: عن أنس رضي الله عنه قال كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يا ولي الإسلام وأهله ثبتني حتى ألقاك" رواه الطبراني وصححه الألباني.

خامساً: عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ الْأَنْصَارِيِّ، رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " يَا شَدَّادُ بْنَ أَوْسٍ إِذَا كَنَزَ النَّاسُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ فَاكْنِزْ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ ‌الثَّبَاتَ ‌فِي ‌الْأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ الْغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ، وَالسَّلَامَةَ مِنْ كُلِّ إِثْمٍ، وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا وَلِسَانًا صَادِقًا، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ، إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ" رواه الطبراني وصححه الألباني، فلنحرص عباد الله هذه الأدعية ونحذر كل الحذر من أسباب زيغ القلوب وفسادها،" رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ" ([10])  

 



([1]) ـ [الصف: 5]
([2]) ـ [آل عمران: 7]،
([3]) ـ [التوبة: 30] 
([4]) ـ [الأنعام: 113]
([5]) ـ [يونس: 7، 8]

 
([6]) ـ [الأعراف: 201]
([7]) ـ [النور: 63]
([8]) ـ [الصف: 5]،
([9]) ـ [آل عمران: 8]
([10]) ـ تم الاستفادة من خطبة في موقع الألوكة بعنوان "زيغ القلب " لـ د. محمد السحيم

المرفقات

1694130091_الأدعية الخمسة.pdf

المشاهدات 984 | التعليقات 0