الأدب مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
أحمد السويلم
1436/05/01 - 2015/02/20 06:30AM
الأدب مع رسول الله ﷺ
1436-5-1
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا.. جعل أنبياءه ورسله على صراطه منارات وسُرُجَا.. وجعل الأدب معهم وطاعتهم إلى رضوانه سبيلا ودرجا.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الواحد الصمد الذي إليه الملتجى، والهادي إلى صراطه المستقيم، الجاعل لعباده فرجا، ومن يتق الله يجعل له مخرجا، وأشهد أن محمدًا عبدالله ورسوله، طاعته حق، والتأدب معه فرض، وما آمن به من وجد في حكمه حرجا.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وأطيعوه ربكم، وأتسوا بنبيكم صلى الله عليه وسلم ، فهو الأسوة الذي ارتضاه الله لكم( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا).
عباد الله . زينة المرء وكماله في خلقه وأدبه، والأدب مع الله تعالى هو الأدب الأتم، والخُلُق الأجلّ، والأدب مع رسول الله هو أعلى مراتب الأدب وأولاها حقا على المسلم بعد الأدب مع الله تعالى، فرسول الله أعظم الخلق حقًّا على الخلق .
ذلكم أن الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم هو أدب مع الله تعالى أولًا ، لأنه أدب مع مرسله عزوجل، كما أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم من طاعة الله تعالى ، قال الله تعالى (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً).
وليس الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم مجرد كلمات ومدائح خاليةً من الاتباع والعمل، بل الأدبُ مع النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا بمحبةٍ صادقةٍ تستوجبُ اتباعَهُ في كل ما أمر ، واجتنابَ كلِّ ما عنه نهى وزجر ، واتخاذَه قدوة في الظاهر والباطن ، في السمت والعمل ، في الخلق والمعاملة .
ولما كان الأدب سلوكًا يتعلق بأعمال الإنسان، والأعمال إما قلبية أو فعلية أو قولية ؛ كان الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم لابد وأن يكون أنواعًا ثلاثة :
أدب قلبي : وهو يتعلق بتصديقه والإيمان به وحبه وتعظيمه وتوقيره . –
وأدب فعلي : وهو يتعلق بحسن اتباعه فيما أمر ونهى، مع اتخاذه قدوة وأسوة .
وأدب قولي : وهو يتعلق بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، والذب عن سنته، ورعاية الأدب معه بالقول .
فأما الأدب القلبي فهو رأس الأدب معه صلى الله عليه وسلم، وأصله الإيمان به وتصديقه في كل ما جاء به عن الله تعالى ، ومطابقة ذلك باللسان بأن يشهد أن محمدًا رسول الله ، قال ابن تيمية : فلا يكون الرجل مؤمنًا حتى يقر بما جاء به النبي ، وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فمن شهد أنه رسول الله شهد أنه صادق فيما يخبر به عن الله تعالى ، فإن هذا حقيقة الشهادة بالرسالة .ا.هـ.
ومن الأدب القلبي معه اعتقاد تفضيله على كل أحد من الخلق ، فهو كما وصف نفسه متحدثًا بنعمة ربه فقال : «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ».
ومما ينتج عن اعتقاد تفضيله استشعارُ هيبته وجلالةِ قدره وعظيم شأنه، واستحضارُ محاسنه ومكانته ومنزلته، والمعاني الجالبة لحبه وإجلاله ، وكلِّ ما من شأنه أن يجعل القلب ذاكرًا لحقه من التوقير والتعزيز ، ومعترفًا به ومذعنًا له ؛ فالقلب ملك الأعضاء وهي جند له وتبع ، فمتى ما كان تعظيم النبي مستقرًا في القلب مسطورًا فيه على تعاقب الأحوال ، فإن آثار ذلك ستظهر على الجوارح حتمًا لا محالة ، وحينئذ سترى اللسان يجري بمدحه والثناء عليه وذكر محاسنه ؛ وترى الجوارح ممتثلة لما جاء به ومتبعة لشرعه وأوامره ومؤدية لما له من الحق والتكريم.
ومن الأدب القلبي مع النبي ﷺ محبته التامة، وإنما تظهر آثارها بالطاعة والاتباع ، فهذه هي العلامات التي تدل على ما في قلب العبد من محبة .
ومحبة النبي من الإيمان ، بل لا يتم الإيمان حقيقة إلا إذا كان النبي أحب إلى المرء من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين ، روى البخاري عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ هِشَامٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلا مِنْ نَفْسِي ، فَقَالَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام: «لا وَالَّذِي نَفْسـِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ» ؛ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : فَإِنَّهُ الآنَ وَاللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ الآنَ يَا عُمَرُ».
وفي الصحيحين عَنْ أَنَسِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ :«لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ».
قال ابن بطال : معنى الحديث أن من استكمل الإيمان علم أن حقه عليه آكد من حق أبيه وابنه والناس أجمعين ؛ لأنه استنقذنا من النار وهدانا من الضلال .
وقال ابن حجر - : ...فإذا تأمل النفع الحاصل له من جهة الرسول الذي أخرجه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان - إما بالمباشرة وإما بالسبب - علم أنه سبب بقاء نفسه البقاء الأبدي في النعيم السـرمدي ، وعلم أن نفعه بذلك أعظم من جميع وجوه الانتفاعات ، فاستحق لذلك أن يكون حظه من محبته أوفر من غيره؛ لأن النفع الذي يثير المحبة حاصل منه أكثر من غيره .
وقال ابن رجب - : فلا يكون المؤمن مؤمنًا حتى يقدم محبة الرسول على محبة جميع الخلق ، ومحبة الرسول تابعة لمحبة مرسله ، والمحبة الصحيحة تقتضي المتابعة والموافقة في حب المحبوبات وبغض المكروهات، قال تعالى (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ )
وقال تعالى (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) . وفي الصحيحين عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: "ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ».
فمن أحب الله ورسوله محبة صادقة من قلبه أوجب له ذلك أن يحب بقلبه ما يحبه الله ورسوله ، ويكره ما يكرهه الله ورسوله ، ويرضى ما يرضي الله ورسوله ، ويَسخطُ ما يسخط الله ورسوله ، وأن يعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض، ويقدم حبه على هوى نفسه .هذا محك الاختبار ، وبرهان الإسلام والإيمان .
هذه جملة من الأدب القلبي مع النبي ﷺ .
وأما الأدب العملي مع النبي فأن تنطلق الجوارح تبعًا لما جاء به ، فلا يتصور ممن يدعي حب رسول الله إلا أن تنبعث جوارحه بطاعته واتباعِه واتخاذِه قدوة وأسوة ، وإلا فما الدليل على هذه المحبة ؟!
إن من هداية الله لخلقه أن جعل طاعة رسوله واجبة ، فقال سبحانه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)
فبطاعته تحصل الهداية وتحُل الرحمة قال ربنا جل جلاله (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا
وقال وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) .
فهل في طاعة النبي ﷺ خيار بعد ذلك؟ إن مخالفة ذلك لمن أبين الضلال، قال الله تعالى (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا) .
جعلني الله وإياكم ممن وفق لطاعته، واتباع رسوله، والتمسك بسنته، والحشر في زمرته .
أقول ما تسمعون ..
الخطبة الثانية
الحمد لله.. أما بعد : فاتقوا الله تعالى أيها المؤمنون.
وأما الأدب القولي مع النبي ﷺ فأن يتأدب المؤمن في أقواله معه، فلا يتقدم بين يديه بأمر ولا نهي ولا إذن ولا تصرف ، حتى يأمر هو وينهى ويأذن ؛ كما قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) ، وهذا باق إلى يوم القيامة ولم ينسخ ، فالتقدم بين يدي سنته بعد وفاته كالتقدم بين يديه في حياته ، ولا فرق بينهما عند ذي إيمان صحيح وعقل سليم .
ومن الأدب معه أن لا ترفع الأصوات فوق صوته ، فإنه سبب لحبوط الأعمال ، فما الظن برفع الآراء والأفكار على سنته وما جاء به ، أيكون ذلك موجبًا لقبول الأعمال ورفع الصوت فوق صوته موجًبا لحبوطها؟!
ومن الأدب معه أن لا يجعل نداءه كنداء غيره ، قال ربنا تعالى (لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا) ، فلا يدعى باسمه كما يدعى غيره، بل يقال: رسول الله ، نبي الله .
ومن الأدب معه أن لا يستشكل قوله لرأي، بل تستشكل الآراء لقوله ، ولا يعارض نصه بعقل، بل تهدر العقول والأفكار وتلقى لنصوصه .
ولا يوقف قبول ما جاء به على موافقة أحد ، فكل هذا من سوء الأدب معه ، وهو من الجرأة المذمومة .
وقد روى أحمد وأهل السنن إلا النسائي عن أَبِي رَافِعٍ عَنِ النَّبِيِّ قَالَ : " لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ : لا نَدْرِي ! مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ " .
وروى أحمد والترمذي وابن ماجة عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ «أَلا هَلْ عَسـَى رَجُلٌ يَبْلُغُهُ الْحَدِيثُ عَنِّي وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ ، فَيَقُولُ : بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَلالا اسْتَحْلَلْنَاهُ ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَرَامًا حَرَّمْنَاهُ ؛ وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ ".
ألا فليدكر من يزعم أنه على الإسلام، وليحسن الأدب مع النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وليكن طوَّاعًا لأمره، مجتنبًا لنهيه ، مقتديًّا به .. ليدلل على صحة إيمانه، وصدق مُدَّعَاه .
هذا ومن الأدب القولي مع النبي ﷺ : الصلاة والسلام عليه، والإكثار منها لا سيما يوم الجمعة وليلته:
قال الله تعالى (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) .
قال ابن القيم: والمعنى أنه إذا كان الله وملائكته يصلون على رسوله ، فصلوا أنتم عليه ، فأنتم أحق بأن تصلوا عليه وتسلموا تسليمًا ، لما نالكم ببركة رسالته ويمن سفارته من شرف الدنيا والآخرة .
فاللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد.
1436-5-1
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا.. جعل أنبياءه ورسله على صراطه منارات وسُرُجَا.. وجعل الأدب معهم وطاعتهم إلى رضوانه سبيلا ودرجا.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الواحد الصمد الذي إليه الملتجى، والهادي إلى صراطه المستقيم، الجاعل لعباده فرجا، ومن يتق الله يجعل له مخرجا، وأشهد أن محمدًا عبدالله ورسوله، طاعته حق، والتأدب معه فرض، وما آمن به من وجد في حكمه حرجا.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وأطيعوه ربكم، وأتسوا بنبيكم صلى الله عليه وسلم ، فهو الأسوة الذي ارتضاه الله لكم( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا).
عباد الله . زينة المرء وكماله في خلقه وأدبه، والأدب مع الله تعالى هو الأدب الأتم، والخُلُق الأجلّ، والأدب مع رسول الله هو أعلى مراتب الأدب وأولاها حقا على المسلم بعد الأدب مع الله تعالى، فرسول الله أعظم الخلق حقًّا على الخلق .
ذلكم أن الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم هو أدب مع الله تعالى أولًا ، لأنه أدب مع مرسله عزوجل، كما أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم من طاعة الله تعالى ، قال الله تعالى (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً).
وليس الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم مجرد كلمات ومدائح خاليةً من الاتباع والعمل، بل الأدبُ مع النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا بمحبةٍ صادقةٍ تستوجبُ اتباعَهُ في كل ما أمر ، واجتنابَ كلِّ ما عنه نهى وزجر ، واتخاذَه قدوة في الظاهر والباطن ، في السمت والعمل ، في الخلق والمعاملة .
ولما كان الأدب سلوكًا يتعلق بأعمال الإنسان، والأعمال إما قلبية أو فعلية أو قولية ؛ كان الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم لابد وأن يكون أنواعًا ثلاثة :
أدب قلبي : وهو يتعلق بتصديقه والإيمان به وحبه وتعظيمه وتوقيره . –
وأدب فعلي : وهو يتعلق بحسن اتباعه فيما أمر ونهى، مع اتخاذه قدوة وأسوة .
وأدب قولي : وهو يتعلق بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، والذب عن سنته، ورعاية الأدب معه بالقول .
فأما الأدب القلبي فهو رأس الأدب معه صلى الله عليه وسلم، وأصله الإيمان به وتصديقه في كل ما جاء به عن الله تعالى ، ومطابقة ذلك باللسان بأن يشهد أن محمدًا رسول الله ، قال ابن تيمية : فلا يكون الرجل مؤمنًا حتى يقر بما جاء به النبي ، وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فمن شهد أنه رسول الله شهد أنه صادق فيما يخبر به عن الله تعالى ، فإن هذا حقيقة الشهادة بالرسالة .ا.هـ.
ومن الأدب القلبي معه اعتقاد تفضيله على كل أحد من الخلق ، فهو كما وصف نفسه متحدثًا بنعمة ربه فقال : «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ».
ومما ينتج عن اعتقاد تفضيله استشعارُ هيبته وجلالةِ قدره وعظيم شأنه، واستحضارُ محاسنه ومكانته ومنزلته، والمعاني الجالبة لحبه وإجلاله ، وكلِّ ما من شأنه أن يجعل القلب ذاكرًا لحقه من التوقير والتعزيز ، ومعترفًا به ومذعنًا له ؛ فالقلب ملك الأعضاء وهي جند له وتبع ، فمتى ما كان تعظيم النبي مستقرًا في القلب مسطورًا فيه على تعاقب الأحوال ، فإن آثار ذلك ستظهر على الجوارح حتمًا لا محالة ، وحينئذ سترى اللسان يجري بمدحه والثناء عليه وذكر محاسنه ؛ وترى الجوارح ممتثلة لما جاء به ومتبعة لشرعه وأوامره ومؤدية لما له من الحق والتكريم.
ومن الأدب القلبي مع النبي ﷺ محبته التامة، وإنما تظهر آثارها بالطاعة والاتباع ، فهذه هي العلامات التي تدل على ما في قلب العبد من محبة .
ومحبة النبي من الإيمان ، بل لا يتم الإيمان حقيقة إلا إذا كان النبي أحب إلى المرء من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين ، روى البخاري عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ هِشَامٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلا مِنْ نَفْسِي ، فَقَالَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام: «لا وَالَّذِي نَفْسـِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ» ؛ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : فَإِنَّهُ الآنَ وَاللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ الآنَ يَا عُمَرُ».
وفي الصحيحين عَنْ أَنَسِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ :«لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ».
قال ابن بطال : معنى الحديث أن من استكمل الإيمان علم أن حقه عليه آكد من حق أبيه وابنه والناس أجمعين ؛ لأنه استنقذنا من النار وهدانا من الضلال .
وقال ابن حجر - : ...فإذا تأمل النفع الحاصل له من جهة الرسول الذي أخرجه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان - إما بالمباشرة وإما بالسبب - علم أنه سبب بقاء نفسه البقاء الأبدي في النعيم السـرمدي ، وعلم أن نفعه بذلك أعظم من جميع وجوه الانتفاعات ، فاستحق لذلك أن يكون حظه من محبته أوفر من غيره؛ لأن النفع الذي يثير المحبة حاصل منه أكثر من غيره .
وقال ابن رجب - : فلا يكون المؤمن مؤمنًا حتى يقدم محبة الرسول على محبة جميع الخلق ، ومحبة الرسول تابعة لمحبة مرسله ، والمحبة الصحيحة تقتضي المتابعة والموافقة في حب المحبوبات وبغض المكروهات، قال تعالى (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ )
وقال تعالى (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) . وفي الصحيحين عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: "ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ».
فمن أحب الله ورسوله محبة صادقة من قلبه أوجب له ذلك أن يحب بقلبه ما يحبه الله ورسوله ، ويكره ما يكرهه الله ورسوله ، ويرضى ما يرضي الله ورسوله ، ويَسخطُ ما يسخط الله ورسوله ، وأن يعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض، ويقدم حبه على هوى نفسه .هذا محك الاختبار ، وبرهان الإسلام والإيمان .
هذه جملة من الأدب القلبي مع النبي ﷺ .
وأما الأدب العملي مع النبي فأن تنطلق الجوارح تبعًا لما جاء به ، فلا يتصور ممن يدعي حب رسول الله إلا أن تنبعث جوارحه بطاعته واتباعِه واتخاذِه قدوة وأسوة ، وإلا فما الدليل على هذه المحبة ؟!
إن من هداية الله لخلقه أن جعل طاعة رسوله واجبة ، فقال سبحانه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)
فبطاعته تحصل الهداية وتحُل الرحمة قال ربنا جل جلاله (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا
وقال وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) .
فهل في طاعة النبي ﷺ خيار بعد ذلك؟ إن مخالفة ذلك لمن أبين الضلال، قال الله تعالى (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا) .
جعلني الله وإياكم ممن وفق لطاعته، واتباع رسوله، والتمسك بسنته، والحشر في زمرته .
أقول ما تسمعون ..
الخطبة الثانية
الحمد لله.. أما بعد : فاتقوا الله تعالى أيها المؤمنون.
وأما الأدب القولي مع النبي ﷺ فأن يتأدب المؤمن في أقواله معه، فلا يتقدم بين يديه بأمر ولا نهي ولا إذن ولا تصرف ، حتى يأمر هو وينهى ويأذن ؛ كما قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) ، وهذا باق إلى يوم القيامة ولم ينسخ ، فالتقدم بين يدي سنته بعد وفاته كالتقدم بين يديه في حياته ، ولا فرق بينهما عند ذي إيمان صحيح وعقل سليم .
ومن الأدب معه أن لا ترفع الأصوات فوق صوته ، فإنه سبب لحبوط الأعمال ، فما الظن برفع الآراء والأفكار على سنته وما جاء به ، أيكون ذلك موجبًا لقبول الأعمال ورفع الصوت فوق صوته موجًبا لحبوطها؟!
ومن الأدب معه أن لا يجعل نداءه كنداء غيره ، قال ربنا تعالى (لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا) ، فلا يدعى باسمه كما يدعى غيره، بل يقال: رسول الله ، نبي الله .
ومن الأدب معه أن لا يستشكل قوله لرأي، بل تستشكل الآراء لقوله ، ولا يعارض نصه بعقل، بل تهدر العقول والأفكار وتلقى لنصوصه .
ولا يوقف قبول ما جاء به على موافقة أحد ، فكل هذا من سوء الأدب معه ، وهو من الجرأة المذمومة .
وقد روى أحمد وأهل السنن إلا النسائي عن أَبِي رَافِعٍ عَنِ النَّبِيِّ قَالَ : " لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ : لا نَدْرِي ! مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ " .
وروى أحمد والترمذي وابن ماجة عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ «أَلا هَلْ عَسـَى رَجُلٌ يَبْلُغُهُ الْحَدِيثُ عَنِّي وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ ، فَيَقُولُ : بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَلالا اسْتَحْلَلْنَاهُ ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَرَامًا حَرَّمْنَاهُ ؛ وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ ".
ألا فليدكر من يزعم أنه على الإسلام، وليحسن الأدب مع النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وليكن طوَّاعًا لأمره، مجتنبًا لنهيه ، مقتديًّا به .. ليدلل على صحة إيمانه، وصدق مُدَّعَاه .
هذا ومن الأدب القولي مع النبي ﷺ : الصلاة والسلام عليه، والإكثار منها لا سيما يوم الجمعة وليلته:
قال الله تعالى (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) .
قال ابن القيم: والمعنى أنه إذا كان الله وملائكته يصلون على رسوله ، فصلوا أنتم عليه ، فأنتم أحق بأن تصلوا عليه وتسلموا تسليمًا ، لما نالكم ببركة رسالته ويمن سفارته من شرف الدنيا والآخرة .
فاللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد.
المرفقات
-الأدب مع رسول الله.docx
-الأدب مع رسول الله.docx
المشاهدات 3077 | التعليقات 2
للفائدة
أحمد السويلم
غالب مادة الخطبة مستفاد من مقال للأستاذ محمد محمود إبراهيم عطية في ملتقى أهل التفسير فجزاه الله خير الجزاء .
تعديل التعليق