الأدب مع الوالدين

عبدالرزاق بن محمد العنزي
1443/04/14 - 2021/11/19 05:16AM
الخطبة الأولى:(13/4/1443هـ)                                                                                                   
أيها الناس: حديث القرآن عن الوالدين يكاد يقطر رقةً وعطفًا، ويفيض نصحًا ولطفًا، يطرق الموضوع من جميع جوانبه، ويسير بركب البشرية ليوصلها شاطئ الأمان، بعيدًا عن أمواج المحيطات، وعوائق الطرقات التي طالما غرِق السابحون في لُججها، وتاه العاقون في ظلمها.                                           
وأكثر ما يلفت الانتباه في موضوع الوالدين، الأمر بالإحسان لهما؛ إذ يتكرر في القرآن كثيرًا، لترسيخ هذه القاعدة في وعي كل مسلم، وتكونُ الأساسَ في التعامل مع كل أب وأم، حتى يأتي الإحسان لهما في درجة مباشرة بعد عبادته، ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ فنجد القرآن يوصي بالإحسان للوالدين والإحسان هو أقصى درجات البر والتلطف في المعاملة، ثم ينتقل بك إلى أدنى درجاته، وهو يصور الوالدين وهما في أسوأ حالاتهم، ﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾، ومع هذا فالابن مأمور ﴿ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ﴾ .                                         
وفي هذا تحديد للإطار العام في معاملة الوالدين التي لا يسمح بالخروج منها ولا تجاوزها، أما العقوق والعصيان والمعاندة، فلا مكان له البتة، بل هو التجبر والعصيان: ﴿ وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ﴾ والتجبر والشقاء ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ﴾.                                                                     
كما يعتني القرآن بتفاصيل التعامل مع الوالدين، ويعلِّمنا كيفية خطابهم، واختيار ألينِ الألفاظ وأرقِّها، ووضع لنا مثالًا تخفق القلوب عند قراءته، فكيف بسماعه!                                                           
بعبارة ملؤها التودد والرحمة والشفقة ،لم يكل ويمل من تكرارها محاولاً دخول قلب أبيه :﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا (41)إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا(42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ﴾.                
يا لله العجب من هذا الأسلوب الأنيق والخطاب الرقيق، والعجب كل العجب أنه كان يخاطب والده الكافر بهذه الكلمات، فكيف لو كان مسلمًا! فكيف لو كان شيخًا كبيرًا! فما عذر الأبناء في مخاطبة والديهم بأغلظ الألفاظ، وقد خبؤوا ألينَها وأطرفها لغيرهم!             
لقد نهى القرآن عن ألفاظ قد يستسهلها البعض، للتنبيه على ما هو أعلى منها: ﴿ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴾ ، وقرن مع أدب اللغة أدبَ الجسد: ﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ﴾ ، قال القرطبي رحمه الله:" فينبغي بحكم هذه الآية أن يجعل الإنسان نفسه مع أبويه في خير ذلة ، في أقواله وسكناته ونظره ، ولا يحد إليهما بصره فإن تلك هي نظرة الغاضب "..                
وفي تقديم "الذل" على "الرحمة" إشعار بأن من كمال البر أن يشعرا بتذللك لهما أكثرُ من رحمتك.                                       
أيها  الابن: ربك يأمرك بالذلة لهما (واخفض لهما جناح الذل ) وأنت تضع جوالك على الصامت حين اتصال والدتك لتستكمل مسامرتك مع صحبك!                                                           
ثم يختم حديثه بالدعاء: ﴿ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ ، خص التربية بالذكر ليتذكر العبد شفقة الأبوين وتعبهما في التربية، فيزيده ذلك إشفاقا لهما وحنانا عليهما.                                
أثمن ما يقدّمه الولد لوالديه الدعاء وهو عبادة ميسورة ومن أوفى البر في حياتهما وبعد مماتهما.                                                               
يقول عامر بن عبدالله بن الزبير: مات أبي فما سألت الله حولاً كاملاً إلا العفو عنه.                                                          
إنها لوحة الإرشاد للبر، رَسَمَتْ خطوطَهُ ومعَالِمَهُ، وحدَّتْ حدوده ومفاصله، فلو تخيَّلنا برَّ الأبناء بوالديهم كما في هذه الآية؛ إذ جمعوا بين رقة القول ولين الجسد الذي يُختم بالدعاء، كيف ستكون سعادةُ الآباء وفرحِهِم، وفوزُ الأبناء ببرهم ورضا ربهم.                                 
الخطبة الثانية:                                                            
عبدالله :يا من فقدت والديك أو أحدهما إن لك أسوة بنبيك وحبيبك صلى الله عليه وسلم الذي فقد والديه مبكراً وهما على غير دين الإسلام فيكفله جده الذي لا يلبث أن يموت، ثم يكفله عمه العجوز ليضمه مع أسرته الكبيرة مع قلة ذات اليد، ﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ﴾                  
يا من فقدت والديك أو أحدهما إن اللقاء لا ينتهي هنا، وإنما يبدأ هناك، فما أجمل حين تجتمع بوالديك في جنة عدن، ذاك النعيم الذي استشعرته الملائكة في دعائها: ﴿ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾، إنه الاجتماع الذي لا تفرُّق بعده، ولا حزن فيه، ولا حسد ولا بغضاء بين جهاته ونواحيه، بل تأمل هذا الفضل من الله على الآباء والأبناء في قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ﴾ .                                                        
قال ابن كثير: " يُلحقهم بآبائهم في المنزلة وإن لم يبلغوا عملهم؛ لتقر أعين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم، فيجمع بينهم على أحسن الوجوه برفع الناقص العمل بكامل العمل، ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته"؛ ا.هـ.                                                           
إنه العزاء والتثبيت وترويح القلوب على طريقة القرآن، إنه الأمل الذي تقتات عليه القلوب، لتطفأ وجعها الغائر، حين تتذكَّر تجاعيد وجوههم، ونبرةَ أصواتهم وضحكاتهم، وأمكنةَ جلوسهم ومنامهم، وسجادةَ صلواتهم ودعائهم، إنها لحظات الدموع والذكريات التي لا يداويها إلا إيمان بتلاق ليس بعده فراق ، وفرح لا حزن معه، وسرور لا نكد فيه.﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ نسأل الله الكريم من فضله.                                                   
ثم صلوا وسلموا،،،
المشاهدات 1434 | التعليقات 0