الأخلاق ودورها في بناء الأمة (3) الشيخ عمر القزابري

الفريق العلمي
1434/06/25 - 2013/05/05 11:08AM
الأخلاق ودورها في بناء الأمة (3)
خطبة للشيخ / عمر القزابري

معاشر الصالحين: إن لكل مخلوق حاجة، ولكل حاجة غاية، ولكل غاية سبيل؛ والله وقّت للأمور أقدارها، وهيأ إلى الغايات سبلها، وسبَّب الحاجات ببلاغها، فغاية الناس وحاجتهم صلاح المعاش والمعاد، وليس كل ذي لب بمستوجب أن يسمى في ذوي الألباب، ولا أن يوصف بصفاتهم، فمن رام أن يجعل نفسهُ لذلك الاسم والوصفِ أهلاً، فليأخذ له عتاده، وليعد له طول أيامه، وليؤثره على أهوائهِ.

وليعلم بأن شرف الدنيا والآخرة لا يدرك إلا بالأخلاق الفاضلة... وليعلم من أراد أن يسكن رياض الأخلاق أنه قد رام أمراً جسيماً لا يصلحُ على الغفلة، ولا يدركُ بالعجزة، ولا يصيرُ على الأثرة، فإن روض الأخلاق ليس كسائر أمور الدنيا، وسلطانها ومالها وزينتها التي قد يدركُ منها المتواني ما يفوتُ الثابرُ، ويصيبُ منها العاجزُ ما يخطئ الحازمُ.

ومن أراد أن يستيقن صدق ما قلنا فليتدبر قول الله: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) [فصلت:34-35]، لا يصل إلى هذا المقام إلا الذين صبروا، (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)!.

وليتدبر قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما العلم بالتعلُّم، وإنما الحلم بالتحلُّم، ومَن يتصبّر يصبِّرْهُ الله، ومن يستغنِ يُغْنِه الله، ومَن يستعفّ يعفّه الله"، أو كما قال -صلى الله عليه وسلم-.

أيها الأحباب الكرام: نواصل رحلة البناءِ، بناء النفس؛ تطهيرا لها من الرجس، وعروجا بها إلى مقامات الأنس، ومرورا بها بمحطات الأخلاق الفاضلة الكريمة، لنأخذ الأفضل، ونترك النقيض الأرذل.

ونقف اليوم عند خلق رديء سيء نذكره لنتوق ونميل إلى ضده لنترقى، على مذهب ابن اليمان -رضي الله عنه- الذي كان يقول: "كان الناس يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني".

والخُلُق الْمُحَذَّرُ منه اليوم هو خلق غاية في البشاعة والقبح، خلق لو مُثِّل على هيئة شخص لكان شخصا ذميما مستقذرا تعلوه البلادة والبلاهة، إنه: "التدخل فيما لا يعنيه"، أو قل -كما شئت-: "الفضول"، والانشغال بالناس وأحوالهم وأخبارهم.

أيها الكرام: يقول الله -تعالى-: (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطلاق:3] ويقول: (اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ) [الرعد:8]، ويقول -سبحانه-: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) [الشورى:27].

إذاً؛ فكُلُّ شيءٍ وكلّ أمرٍ له قدْرٌ وله حدود وله ضوابط، وتجاوز هذه الحدود هو فضولٌ وتدخّل فيما لا يعني، وتحمُّل للأوزار والتبعات.

ولذلكم يقول ربنا في آية عظيمة جليلة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) [المائدة:101]، ثم قال بعدها: (قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ) [المائدة:102].

إنّ فشوّ الفضول بين الناس من أشراط وعلامات الساعة، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن بين يدي الساعة سنين خدّاعة، يُخَوَّن فيها الأمين، ويؤتمن فيها الخائن، ويتكلم فيها الرويبضة". قالوا: وما الرويبضة يا رسول الله؟ قال: "الرجل التافه -وفي رواية: السفيه- يتكلم في أمر العامة".

هذا التافه المشار إليه في الحديث ليس من شأنه كلام، ولا يرقى لأن يُصلح أمور الناس؛ ولكنه وضع نفسه في هذا المكان فضولاً وتدخُّلاً فيما لا يعنيه.

وفي الصحيحين، من حديث عمران بن حصين، ما يؤكد أن الفضول والتدخل فيما لا يعني هو في الحقيقة من علامات الساعة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم؛ ثم يكون أناس يشهدون ولا يستشهدون، وينظرون ولا يوفون، ويخونون ولا يؤتمنون، ويظهر فيهم السِّمَن".

وشاهدنا من هذا الحديث العظيم قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ويشهدون ولا يستشهدون"، يشير -صلى الله عليه وسلم- إلى أنهم يشهدون من غير أن يطلب منهم؛ فضولا! وهذا في سياق الذم، إذ إن الإنسان لا يبذل الشهادة إلا عند طلبها!.

أما الثرثرةُ وكثرةُ الكلامِ فأمارة غباء، ومؤشِّر بلاء، وما أكثر أصحاب هذا البلاء في هذا الزمن الذي نعيشه!.

تجد بعضهم لا يغفلون عن أخبار الناس، من غير أن تسأله يعطيك خبر الرجل وأحواله ومدخله ومخرجه وسيارته، وربما أعطاك حتى مقاس قدميه من كثرة فضوله وانشغاله بما لا يعنيه!.

وسبب ذلك فراغ العقل من العلم، وفراغ القلب من تعظيم الله، وفراغ الوقت من العمل المجدي النافع، ساعَدَ على ذلك كثرةُ المقاهي وانتشارها، هذه المقاهي التي هي في الحقيقة تصلح بأن تسمى بـ "المراصد"، أغلب روادها يقعدون منها مقاعد للسمع والنظر، واصطياد الخبر، واقتفاء الأثر، يراقبون الحركات، يتلقون الهمسات؛ بل ويتدخلون حتى في النيات والخطرات! فلان اشترى، وذاك باع، وذاك طلق زوجته، ووزع تركته، وهذا تخونه الزوجة، وأخلاق أولاده معوجة، وهذا طويل، وذاك قصير.

وحتى ينتشي وتكتمل فرحته بالأخبار يطلب الدخان، ألا بئس الطالب والمطلوب!.

أفلا يخطر ببال هؤلاء قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "مِن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"؟.

فالمتدخل فيما لا يعنيه عنده خلل في إسلامه وتدينه، بل إن المتصف بهذا الخلق الذميم معرِّض نفسه لغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال -عليه الصلاة والسلام-: "إنَّ مِن أحبِّكُمْ إِلَيَّ وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإن من أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون".

ومعلوم في اللغة أن الثرثرة هي كثرة الكلام وفضوله الذي لا حاجة منه، ولا ينشر فائدة، ولا يرسخ مودة.

والفضول -أيها الكرام- أنواع وأشكال، فهناك فضول الخبر، وهناك فضول النظر، وهناك فضول الأثر؛ وكلها أنواع شر وبلادة وموت ضمير.

ففضول الخبر أن تجد العبد مشغولاً بالأخبار، يتصيدها وينتظرها وينشرح صدره لها، وقد يبذل المال والوقت والجهد من أجل أن يظفر بخبر عن أحد، المقرب عنده والمبجل الذي يأتيه بالأخبار الساخنة، والملفات الجديدة، والأسرار البعيدة!.

وهناك فضول النظر، وهو فضول من نوع آخر، فضول فيه نوع من البلادة، بلادة الحس والمعنى.

تجد الرجل يراقبك ويتبعك بنظراته دون خجل ودون حياء ودون مراعاة لشعورك، كن مع أهلك أو أولادك أو مع زوجتك أو مع أمك أو مع نفسك، لا يهمه ذلك، المهم عنده إشباع نظره واختراقك واقتحامك.

هذا النوع من فضول النظر كان يكرهه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى درجة لا تخطر على بال، فلقد رأى -صلى الله عليه وسلم- رجلا يطّلع في بعض حجره، فقام إليه ومعه مشقص -آلة حديدية حادة- يريد أن يطعنه في عينيه!.

بل إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذن فخذفته –أي: رميته- بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك جناح".

نعم، يستحق الذي يقتحم الناس بنظره إلى بيوتهم وأسرارهم يستحق هذا اللون من ألوان الإذلال، فغض البصر عند رؤية الناس وعدم إمعان النظر فيهم دليل على الترقي وعلى الصفاء والطهر، وسمة من سمات أولياء الله العارفين بالله.

واللهِ! من الناس من يتبعك بنظره حتى تتوارى عن الأنظار! وهذه الخصلة لا يمكن أن تصدر إلا عن بليدٍ فارغ الحسّ...

وهناك فضول آخر وهو فضول الأثر، وهذا درك أسفل، ولابس أنتن وأرذل.

وفضول الأثر هو ألا تكتفي بالخبر والنظر، بل تتتبّع المسلم وتقتفي أثره لترى أحواله وتعرف أخباره وتعرف إلى أين يذهب ومع من يلتقي وهل له زوجة أخرى وهل عنده مشاريع وهل عنده مزالق! وربنا يقول: (وَلَا تَجَسَّسُوا) [الحجرات:12].

يقول -صلى الله عليه وسلم-: "يا معشر مَن آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من يتبع عورة أخيه يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته".

فما لك وللناس؟ أين انشغالك بحالك؟ أين بكاؤك على نفسك؟ هل فضل عندك وقت لتتفرغ للناس وأحوالهم وأخبارك؟ أليس الموت ينتظرك؟ أليس القبر منزلك؟ أليست القيامة موعدك؟ أليس الصراط ممرك؟ هل تجاوزت كل هذه العقبات؟ ألا تتفكر في القبر وظلمته، والموت وكربته، والحشر وفزعه، والصراط ودقته؟ ألا يخيفك هول المطلع؟.

ما لك وللناس؟ ما لك وللأحكام على الناس؟ هذا صالح وهذا طالح، وذاك منافق وهذا متكبر.

هذه الأوصاف -وأشد منها- ستجدها في نفسك إن صدقت في بحثك عن عيوبك وويلاتك، فقد قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان -وهذا نوع من الفضول- فقال الله -عز وجل-: "مَن ذا الذي يتألّى عليّ؟ قد غفرت له وأحبطت عملك".

إنه لا يكتمل إيمان عبد حتى يكف عن الفضول وعن التدخل فيما لا يعنيه، فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت"، صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

فقل خيرا تغنم، أو اسكت عن شرٍّ تسلم. قال رجل يا رسول الله: ما النجاة؟ قال: "أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك".


بقية الخطبة على الموقع لمن أرادها كاملة https://khutabaa.com/khutabaa-section/corncr-speeches/177716
المشاهدات 2105 | التعليقات 0