الأخلاء الثلاثة
منديل الفقيه
1435/06/14 - 2014/04/14 02:58AM
الأخلاء الثلاثة الخطبة الأولى
الحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله أحمده سبحانه وأشكره وأستعين به وأستغفره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله بعثه ربه بالهدى ودين الحق فدعا الناس إلى الهدى ودلهم على الصراط المستقيم صلى الله وسلم عليه وعلى آله ومن سار على طريقه إلى يوم الدين . أما بعد : اتقوا الله عباد الله ففيها السلامة والنجاة { وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }
أيها المسلمون : إن الموت حق لا ريب فيه وحقيقة كبرى ما زالت تقصم ظهور الجبابرة وتفلق هامات الأكاسرة لا ينجو منها كبير لكبره ولا صغير لصغره بل الكل عنده سواء ولو نجا منه أحد لنجا منه سيد البشر صلى الله عليه وسلم { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ *وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ }
الموت باب وكل الناس داخله == يا ليت شعري بعد الموت ما الدار الدار دار نعيم إن عملت بما == يرضي الإله وإن خالفت فالنار .
أيها المسلمون : من منا يزعم أنه لا يموت ؟ ومن منا يدفع الموت عن نفسه أو يهرب منه ؟ ومن منا يستطيع أن يؤخر موته إذا جاء ولو
لحظة ؟ لذا قال الأول :
تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جن ليل هل تعيشن إلى الفجر
فكم من صحيح مات من غير علة وكم من سقيم عاش حينا من الدهر
وكم من صغير يرتجى طول عمره وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
وكم من عروس زينوها لزوجها وقد قبضت أرواحهما ليلة القدر
أيها المسلمون : كم نحن بحاجة إلى تذكره ؟ وكم نحن بحاجة إلى الاستعداد له ؟ وكم نحن بحاجة للتزود من الأعمال الصالحة للقائه ؟ ولكن يا للأسف لقد تمكن حب الدنيا من قلوبنا وطغى على نفوسنا حتى أصبح البطل المغوار منا صاحب الدرهم والريال وأصبح الفطن والذكي منا من يجمع المال ولا يتقي إلا من رحم الله وهم قليل.
أيها المسلمون : في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ ) وعَن أَنَسٍ قال قال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم : ما من عَبد إلاَّ وله ثلاثة أخلاء : فأما خليل فيقول : ما أنفقت فلك وما أمسكت فليس لك فذلك ماله, , وأما خليل فيقول : أنا معك فإذا أتيت باب الملك تركتك ورجعت فذلك أهله وحشمه وخليل يقول : أنا معك حيث دخلت وحيث خرجت فذاك عمله فيقول إن كنت لأهون الثلاثة علي ) الحاكم وقال على شرط مسلم ووافقه الذهبي . وعنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : مَثَلُ الْمُؤْمِنِ وَمَثَلُ الْمَوْتِ كَمَثَلِ رَجُلٍ لَهُ ثَلاثَةُ أَخِلاءَ ، أَحَدُهُمْ مَالُهُ قَالَ : خُذْ مَا شِئْتَ وَدَعْ مَا شِئْتَ ، وَقَالَ الآخَرُ : أَنَا مَعَكَ أَحْمِلُكَ ، فَإِذَا مُتَّ تَرَكْتُكَ ، وَقَالَ الآخَرُ : أَنَا مَعَكَ أَدْخَلُ مَعَكَ وَأَخْرُجُ مَعَكَ ، فَأَحَدُهُمَا مَالُهُ ، وَالآخَرُ أَهْلُهُ وَوَلَدُهُ ، وَالآخَرُ عَمَلُهُ )البزار.
أيها المسلمون : ومعنى هذه الأحاديث أن الإنسان في الدنيا لابد له من أهل يعاشرهم ومال يعيش به وهذان صاحبان يفارقانه ويفارقهما والسعيد من اتخذ من ذلك ما يعينه على ذكر الله وينفعه في الآخرة فيأخذ من المال ما يبلغ به الآخرة ويتخذ زوجة صالحة تعينه على إيمانه وصالح عمله وأما من اتخذ أهلا ومالا يشغله عن الله فذلك الخاسر كما قال الأعراب{ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا }وقال غيرهم { وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ *وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ * وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ } ولذا قال الله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } عن سهل بن سعد قال : جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا محمد عش ما شئت فإنك ميت وأحبب من أحببت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك مجزي به ثم قال : يا محمد شرف المؤمن قيام الليل وعزه استغناؤه عن الناس ) الحاكم وصححه ووافقه الذهبي فإذا مات الإنسان لم ينتفع من أهله إلا بدعائهم واستغفارهم له ولا من ماله إلا بما قدمه بين يديه { يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } فإذا خلف الإنسان من يدعو له من أهله أو قدم شيئا من ماله نفعه ذلك عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ » مسلم . فلا ينفعه من أهله بعد موته إلا من دعا له واستغفر له وقد لا يفعل فمن الأهل ما هو عدو كما قال الله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } ومنهم من ينشغل عن الميت بحصول ميراثه كما قال الأول :
يمر أقاربي بجنبات قبري كأن أقاربي لا يعـرفوني
وذو الميراث يقتسمون مالي ولا يألون إن جحدوا ديوني
وقد أخذوا سهامهموا وعاشوا فيا لله أسـرع ما نسـوني
فأهل الميت أحد الأخلاء الثلاثة يصلون مع خليلهم إلى باب الملك وهو اللحد ثم يرجعون عنه وأما الخليل الثاني فهو المال يرجع عن صاحبه ولا يدخل معه قبره ورجوعه كناية عن عدم مصاحبته له في قبره وعدم دخوله معه فلا ينتفع الميت بشيء من ماله بعد موته إلا ما كان قدمه بين يديه فإنه يقدم عليه وهو داخل في عمله الذي يصحبه في قبره وأما ما خلفه وتركه فهو لورثته لا له وإنما كان خازنا له لورثته
عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقْرَأُ (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) قَالَ « يَقُولُ ابْنُ آدَمَ مَالِى مَالِى وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلاَّ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ »مسلم . وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « يَقُولُ الْعَبْدُ مَالِى مَالِى إِنَّمَا لَهُ مِنْ مَالِهِ ثَلاَثٌ مَا أَكَلَ فَأَفْنَى أَوْ لَبِسَ فَأَبْلَى أَوْ أَعْطَى فَاقْتَنَى وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ ذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ » مسلم . وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ قَالَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِ وَارِثِهِ قَالَ « اعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ مَا لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا قَدَّمْتَ وَمَالُ وَارِثِكِ مَا أَخَّرْتَ » البخاري . فلا ينتفع الميت من ماله إلا ما قدمه لنفسه أو أنفقه في سبيل الله وأما ما أكله فإنه لا له ولا عليه إلا أن يكون له فيه نية صالحة وأما إذا أنفق ماله في المعاصي وارتكاب المحرمات والجري خلف الشهوات فهو عليه لا له وقل مثل ذلك إن بخل به وأمسكه ومنع حق الله فيه فإنه يمثل له له شجاعا أقرعا يتبعه وهو يفر منه حتى يأخذ بلهزمتيه ويقول له أنا مالك أنا كنزك ويلقمه يده فيقضمها قضم الفحل وإن كان كنوزا ذهبا وفضة فيجعل صفائح ويحمى عليها ثم يكوى بها جبينه وجنبه وظهره عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ يَعْنِي بِشِدْقَيْهِ يَقُولُ أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {وَلَا يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ » البخاري . وعن جَابِرِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِىَّ قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ « مَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ لاَ يَفْعَلُ فِيهَا حَقَّهَا إِلاَّ جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ قَطُّ وَقَعَدَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ تَسْتَنُّ عَلَيْهِ بِقَوَائِمِهَا وَأَخْفَافِهَا وَلاَ صَاحِبِ بَقَرٍ لاَ يَفْعَلُ فِيهَا حَقَّهَا إِلاَّ جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ وَقَعَدَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ تَنْطِحُهُ بِقُرُونِهَا وَتَطَؤُهُ بِقَوَائِمِهَا وَلاَ صَاحِبِ غَنَمٍ لاَ يَفْعَلُ فِيهَا حَقَّهَا إِلاَّ جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ وَقَعَدَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ تَنْطِحُهُ بِقُرُونِهَا وَتَطَؤُهُ بِأَظْلاَفِهَا لَيْسَ فِيهَا جَمَّاءُ وَلاَ مُنْكَسِرٌ قَرْنُهَا وَلاَ صَاحِبِ كَنْزٍ لاَ يَفْعَلُ فِيهِ حَقَّهُ إِلاَّ جَاءَ كَنْزُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَتْبَعُهُ فَاتِحًا فَاهُ فَإِذَا أَتَاهُ فَرَّ مِنْهُ فَيُنَادِيهِ خُذْ كَنْزَكَ الَّذِى خَبَأْتَهُ فَأَنَا عَنْهُ غَنِىٌّ فَإِذَا رَأَى أَنْ لاَ بُدَّ مِنْهُ سَلَكَ يَدَهُ فِى فِيهِ فَيَقْضَمُهَا قَضْمَ الْفَحْلِ » مسلم . وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ « مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلاَ فِضَّةٍ لاَ يُؤَدِّى مِنْهَا حَقَّهَا إِلاَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحَ مِنْ نَارٍ فَأُحْمِىَ عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيُرَى سَبِيلُهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ » مسلم .
أيها المسلمون : من تحقق من هذا كله فليقدم لنفسه من ماله ما أحب فإنه إذا قدمه كان له بين يديه ينتفع به في دار والإقامة وإن خلفه كان لغيره لا له وقد يكون هو من يحبسه عن النفقة في سبيل الله فيراه يوم القيامة في ميزان غيره من الورثة ممن أنفقه فيتحسر على ذلك ويدخل هو النار بماله ويدخل به وارثه الجنة إذا أنفقه في سبيل الله فيندم حين لا ينفع الندم كان ابن عمر لا يعجبه شيء من ماله إلا قدمه لله حتى إنه كان يوما راكبا على ناقة فأعجبته فنزل عنها في الحال وقلدها وجعلها هديا لله تعالى فالعاقل من قدم من ماله ما يحبه ليفوز به في دار الإقامة فإن من أحب شيئا استصحبه ولا يدعه لغيره. دخلتِ امرأةٌ على عائشةَ قد شُلَّت يدُها فقالت : يا أمَّ المؤمنين ، بِتُّ البارحةَ صحيحةُ اليدِ فأصبحْتُ شَلَّاءَ ! قالت عائشةُ : وما ذاك ؟ قال : كان لي أبوانِ مُوسرانِ ، كان أبي يعطي الزكاةَ ويُقري الضيفَ ويعطي السائلَ ولا يَحقِرْ من الخيرِ شيئًا إلا فعله ، وكانت أمي امرأةً بخيلةً مُمسكةً ، لا تصنع في مالِها خيرًا ، فمات أبي ثم ماتت أمي بعده بشهرَين ، فرأيتُ البارحةَ في منامي أبي وعليه ثوبانِ أصْفران ، بين يدَيه نهرٌ جارٍ ، قلتُ : يا أبَهْ ما هذا ؟ قال : يا بنيةُ ، من يعمل في هذه الدنيا خيرًا يرَه ، هذا أعطانيه اللهُ تعالى . قلتُ : فما فعلتْ أمي ؟ قال : وقد ماتت أمُّك ؟ قلتُ : نعم ، قال : هيهاتَ ! عُدِلت عنَّا ، فاذهبي فالتمِسيها ذاتَ الشِّمالِ ، فمِلْتُ عن شمالي ، فإذا أنا بأمي قائمةً عريانةً مُتَّزِرَةً بخِرقةٍ ، بيدِها شُحيمةٌ تنادي : والهْفاه ، واحسرَتاه ، واعطَشاه . فإذا بلغها الجهدُ دلكتْ تلك الشُّحَيمةُ براحتِها ثم لحسَتْها ، وإذا بين يدَيها نهرٌ جارٍ ، قلتُ : يا أماه ما لك تنادِين العطشَ ، وبين يدَيك نهرٌ جارٍ ؟ قالت : لا أُترَكُ أن أشربَ منه . قلتُ : أفلا أسقِيك ؟ قالت : وددتُ أنكِ فعلتِ ، فغرفتُ لها غُرفةً فسقَيتُها ، فلما شربت نادى مُنادٍ من ذاتِ اليمينِ : ألا من سقى هذه المرأةَ شُلَّت يمينُه مرتين – فأصبحْتُ شلَّاءَ اليمينِ ، لا أستطيعُ أن أعملَ بيميني . قالت لها عائشةُ : وعرفتِ الخِرقةَ ؟ قالت : نعم يا أمَّ المؤمنين ، وهي التي رأيتُها عليها ، ما رأيتُ أمي تصدَّقتْ بشيءٍ قطُّ ، إلا أنَّ أبي نحر ذاتَ يومٍ ثورًا ، فجاء سائلٌ فعمِدتْ أمي إلى عظمٍ عليه شُحَيمةٌ فناولَتْه إياه ، وما رأيتُها تصدَّقت بشيءٍ إلا أنَّ سائلًا جاء يسأل ، فعمِدت أمي إلى خِرقةٍ فناولتْها إياه . فكبَّرتْ عائشةُ – رضى اللهُ عنها – وقالت : صدق اللهُ وبلَّغَ رسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَّا يَرَهُ } .
فيا جامع المال ما أعددت للحفر هل يغفل الزاد من أضحى على السفر
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعنا بهدي سيد المرسلين ....
الخطبة الثانية
أيها المسلمون : وأما الخليل الثالث فهو العمل الذي يدخل مع صاحبه في قبره ويكون معه إذا بعث ويكون معه في مواقف القيامة وعلى الصراط وعند الميزان بالعمل تقسم المنازل في الجنة والنار{ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ }{ مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } قال بعض السلف هذه الآية في القبر فإنَّ العمل الصالح يكون لصاحبه في القبر حيث لا يكون للعبد من متاع الدنيا فراش ولا وساد ولا مهاد بل كل عامل يفترش عمله ويتوسده من خير أو شر . فالعاقل من عمر بيته الذي تطول فيه إقامته - ولو عمره بخراب بيته الذي يرتحل عنه قريبا لم يكن مغبونا بل سيكون رابحا - يروى عن لقمان أنه قال لابنه يا بني لكل إنسان بيتان بيت غائب وبيت شاهد فلا يلهينك بيتك الشاهد الذي فيه عمرك القليل عن بيتك الغائب الذي فيه عمرك الطويل . وقال بعض السلف لابن آدم بيتان بيت على ظهر الأرض وبيت في بطن الأرض فعمد إلى الذي على ظهر الأرض فزخرفه وزينه وجعل فيه أبوابا للشمال وأبوابا للجنوب ووضع فيه ما يصلح لشتائه وصيفه ثم عمد إلى الذي في بطن الأرض فأخربه فأتى عليه آت فقال هذا الذي أراك قد أصلحته كم تقيم فيه قال لا أدري قال الذي أخربته كم تقيم فيه قال فيه مقامي قال تقر بهذا على نفسك وأنت رجل تعقل . كان عثمان بن أبي العاص في المقبرة يشهد جنازة ومعه شاب من أقاربه فيه غفلة فقال له
عثمان اطلع إلى بيتك فاطلع إلى القبر فقال له ماذا ترى فقال الشاب أرى بيتا ضيقا مظلما موحشا ليس فيه طعام ولا شراب ولا زوجة وقد تركت بيتا فيه طعام وشراب وزوجة قال له عثمان هذا والله بيتك قال صدقت أما والله لو رجعت نقلت من ذاك إلى هذا ، وقال الحسن تبع رجل من المسلمين جنازة أخيه فلما دلي في قبره قال الرجل ما أرى يتبعك من الدنيا إلا ثلاثة أثواب أما والله لقد تركت بيتي كثير المتاع أما والله إن أقالني الله حتى أرجع لأقدمنه بين يدي قال فرجع فقدمه والله بين يديه .
أيها المسلمون : إن المؤمن الصالح يأتيه عمله الصالح في قبره في أحسن صورة فيبشره بالسعادة من الله والكافر بعكس ذلك كما في حديث البراء بن عازب عند أحمد بسند صحيح وفيه " وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ حَسَنُ الثِّيَابِ طَيِّبُ الرِّيحِ فَيَقُولُ أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ فَيَقُولُ لَهُ مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ فَيَقُولُ أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ .... وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ قَبِيحُ الثِّيَابِ مُنْتِنُ الرِّيحِ فَيَقُولُ أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوءُكَ هَذَا يَوْمُك الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ فَيَقُولُ مَنْ
أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالشَّرِّ فَيَقُولُ أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ " وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهُ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ حِينَ يُوَلُّونَ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَانَتِ الصَّلاةُ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَالزَّكَاةُ عَنْ يَمِينِهِ، وَالصَّوْمُ عَنْ شِمَالِهِ، وَفِعْلُ الْخَيْرَاتِ وَالْمَعْرُوفُ وَالإِحْسَانُ إِلَى النَّاسِ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ، فَيُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ، فَتَقُولُ الصَّلاةُ: لَيْسَ قِبَلِي مَدْخَلٌ، فَيُؤْتَى عَنْ يَمِينِهِ، فَتَقُولُ الزَّكَاةُ: لَيْسَ مِنْ قِبَلِي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤْتَى عَنْ شِمَالِهِ، فَيَقُولُ الصَّوْمُ: لَيْسَ مِنْ قِبَلِي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ، فَيَقُولُ فِعْلُ الْخَيْرَاتِ وَالْمَعْرُوفُ وَالإِحْسَانُ إِلَى النَّاسِ: لَيْسَ مِنْ قِبَلِي مَدْخَلٌ .... إلى أن قال : وَأَمَّا الْكَافِرُ، فَيُؤْتَى فِي قَبْرِهِ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ، فَلا يُوجَدْ شَيْءٌ، فَيُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ فَلا يُوجَدُ شَيْءٌ، فَيَجْلِسُ خَائِفًا مَرْعُوبًا " الحاكم وابن حبان وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي وعن عطاء بن يسار قال إذا وضع الميت في لحده فأول شيء يأتيه عمله فيضرب فخذه الشمال فيقول أنا عملك فيقول فأين أهلي وولدي وعشيرتي ما خولني الله تعالى فيقول تركت أهلك وولدك وعشرتك وما خولك الله وراء ظهرك فلم يدخل فبرك معك غيري فيقول يا ليتني آثرتك على أهلي وولدي وعشيرتي وما خولني الله تعالى إذا لم يدخل معي غيرك " وقال يزيد الرقاشي بلغني أن الميت إذا وضع في قبره احتوشته أعماله ثم أنطقها الله فقالت أيها العبد المنفرد في حفرته انقطع عنك الأخلاء والأهلون فلا أنيس لك اليوم عندنا .. ثم بكى يزيد وقال طوبى لمن كان أنيسه صالحا والويل لمن كان أنيسه عليه وبالا "
أيها المسلمون : ما من إنسان يموت إلا ندم عند موته روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُوتُ إِلَّا نَدِمَ» قَالَوا: وَمَا نَدَامَتُهُ ؟ قَالَ: « إِنْ كَانَ مُحْسِنًا نَدِمَ أَنْ لَا يَكُونَ ازْدَادَ وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا نَدِمَ أَنْ يَكُونَ نَزَعَ » أَيْ: نَدِمَ أَنْ لاَ يَكُونَ قَدْ أَقْلَعَ عَن إِسَاءتِه لما حضرت أبا الدرداء الوفاة جعل يجود بنفسه ويقول ألا رجل يعمل لمثل مصرعي هذا ألا رجل يعمل لمثل يومي هذا ألا رجل يعمل لمثل ساعتي هذه ثم قبض رضي الله عنه . فالعاقل السعيد من أكثر من الصالحات لتصاحبه في قبره بعد الممات والشقي الخاسر من قدم السيئات لِيُلقى بعد الموت في الحفر المظلمات
تزود قرينا من فعالك إنما قرين الفتى في القبر ما كان يعمل
وإن كنت مشغولا بشيء فلا تكن بغير الذي يرضى به الله تشغل
فلن يصحب الإنسان من بعد موته إلى قبره إلا الذي قد كان يعمل
ألا إنما الإنسان ضيف لأهله يقيم قليلا عندهم ثم يرحل
اللهم اجعل خير أعمارنا أواخرها وخير أعمالنا خواتمها وخير أيامنا يوم نلقاك اللهم املأ قلوبنا بخشيتك وأقبل بها على طاعتك واحشرنا في زمرة عبادك الصالحين صلوا وسلموا على رسول الله ......
الحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله أحمده سبحانه وأشكره وأستعين به وأستغفره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله بعثه ربه بالهدى ودين الحق فدعا الناس إلى الهدى ودلهم على الصراط المستقيم صلى الله وسلم عليه وعلى آله ومن سار على طريقه إلى يوم الدين . أما بعد : اتقوا الله عباد الله ففيها السلامة والنجاة { وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ }
أيها المسلمون : إن الموت حق لا ريب فيه وحقيقة كبرى ما زالت تقصم ظهور الجبابرة وتفلق هامات الأكاسرة لا ينجو منها كبير لكبره ولا صغير لصغره بل الكل عنده سواء ولو نجا منه أحد لنجا منه سيد البشر صلى الله عليه وسلم { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ *وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ }
الموت باب وكل الناس داخله == يا ليت شعري بعد الموت ما الدار الدار دار نعيم إن عملت بما == يرضي الإله وإن خالفت فالنار .
أيها المسلمون : من منا يزعم أنه لا يموت ؟ ومن منا يدفع الموت عن نفسه أو يهرب منه ؟ ومن منا يستطيع أن يؤخر موته إذا جاء ولو
لحظة ؟ لذا قال الأول :
تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جن ليل هل تعيشن إلى الفجر
فكم من صحيح مات من غير علة وكم من سقيم عاش حينا من الدهر
وكم من صغير يرتجى طول عمره وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
وكم من عروس زينوها لزوجها وقد قبضت أرواحهما ليلة القدر
أيها المسلمون : كم نحن بحاجة إلى تذكره ؟ وكم نحن بحاجة إلى الاستعداد له ؟ وكم نحن بحاجة للتزود من الأعمال الصالحة للقائه ؟ ولكن يا للأسف لقد تمكن حب الدنيا من قلوبنا وطغى على نفوسنا حتى أصبح البطل المغوار منا صاحب الدرهم والريال وأصبح الفطن والذكي منا من يجمع المال ولا يتقي إلا من رحم الله وهم قليل.
أيها المسلمون : في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ ) وعَن أَنَسٍ قال قال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم : ما من عَبد إلاَّ وله ثلاثة أخلاء : فأما خليل فيقول : ما أنفقت فلك وما أمسكت فليس لك فذلك ماله, , وأما خليل فيقول : أنا معك فإذا أتيت باب الملك تركتك ورجعت فذلك أهله وحشمه وخليل يقول : أنا معك حيث دخلت وحيث خرجت فذاك عمله فيقول إن كنت لأهون الثلاثة علي ) الحاكم وقال على شرط مسلم ووافقه الذهبي . وعنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : مَثَلُ الْمُؤْمِنِ وَمَثَلُ الْمَوْتِ كَمَثَلِ رَجُلٍ لَهُ ثَلاثَةُ أَخِلاءَ ، أَحَدُهُمْ مَالُهُ قَالَ : خُذْ مَا شِئْتَ وَدَعْ مَا شِئْتَ ، وَقَالَ الآخَرُ : أَنَا مَعَكَ أَحْمِلُكَ ، فَإِذَا مُتَّ تَرَكْتُكَ ، وَقَالَ الآخَرُ : أَنَا مَعَكَ أَدْخَلُ مَعَكَ وَأَخْرُجُ مَعَكَ ، فَأَحَدُهُمَا مَالُهُ ، وَالآخَرُ أَهْلُهُ وَوَلَدُهُ ، وَالآخَرُ عَمَلُهُ )البزار.
أيها المسلمون : ومعنى هذه الأحاديث أن الإنسان في الدنيا لابد له من أهل يعاشرهم ومال يعيش به وهذان صاحبان يفارقانه ويفارقهما والسعيد من اتخذ من ذلك ما يعينه على ذكر الله وينفعه في الآخرة فيأخذ من المال ما يبلغ به الآخرة ويتخذ زوجة صالحة تعينه على إيمانه وصالح عمله وأما من اتخذ أهلا ومالا يشغله عن الله فذلك الخاسر كما قال الأعراب{ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا }وقال غيرهم { وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ *وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ * وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ } ولذا قال الله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } عن سهل بن سعد قال : جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا محمد عش ما شئت فإنك ميت وأحبب من أحببت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك مجزي به ثم قال : يا محمد شرف المؤمن قيام الليل وعزه استغناؤه عن الناس ) الحاكم وصححه ووافقه الذهبي فإذا مات الإنسان لم ينتفع من أهله إلا بدعائهم واستغفارهم له ولا من ماله إلا بما قدمه بين يديه { يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } فإذا خلف الإنسان من يدعو له من أهله أو قدم شيئا من ماله نفعه ذلك عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ » مسلم . فلا ينفعه من أهله بعد موته إلا من دعا له واستغفر له وقد لا يفعل فمن الأهل ما هو عدو كما قال الله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } ومنهم من ينشغل عن الميت بحصول ميراثه كما قال الأول :
يمر أقاربي بجنبات قبري كأن أقاربي لا يعـرفوني
وذو الميراث يقتسمون مالي ولا يألون إن جحدوا ديوني
وقد أخذوا سهامهموا وعاشوا فيا لله أسـرع ما نسـوني
فأهل الميت أحد الأخلاء الثلاثة يصلون مع خليلهم إلى باب الملك وهو اللحد ثم يرجعون عنه وأما الخليل الثاني فهو المال يرجع عن صاحبه ولا يدخل معه قبره ورجوعه كناية عن عدم مصاحبته له في قبره وعدم دخوله معه فلا ينتفع الميت بشيء من ماله بعد موته إلا ما كان قدمه بين يديه فإنه يقدم عليه وهو داخل في عمله الذي يصحبه في قبره وأما ما خلفه وتركه فهو لورثته لا له وإنما كان خازنا له لورثته
عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقْرَأُ (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) قَالَ « يَقُولُ ابْنُ آدَمَ مَالِى مَالِى وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلاَّ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ »مسلم . وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « يَقُولُ الْعَبْدُ مَالِى مَالِى إِنَّمَا لَهُ مِنْ مَالِهِ ثَلاَثٌ مَا أَكَلَ فَأَفْنَى أَوْ لَبِسَ فَأَبْلَى أَوْ أَعْطَى فَاقْتَنَى وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ ذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ » مسلم . وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ قَالَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِ وَارِثِهِ قَالَ « اعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ مَا لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا قَدَّمْتَ وَمَالُ وَارِثِكِ مَا أَخَّرْتَ » البخاري . فلا ينتفع الميت من ماله إلا ما قدمه لنفسه أو أنفقه في سبيل الله وأما ما أكله فإنه لا له ولا عليه إلا أن يكون له فيه نية صالحة وأما إذا أنفق ماله في المعاصي وارتكاب المحرمات والجري خلف الشهوات فهو عليه لا له وقل مثل ذلك إن بخل به وأمسكه ومنع حق الله فيه فإنه يمثل له له شجاعا أقرعا يتبعه وهو يفر منه حتى يأخذ بلهزمتيه ويقول له أنا مالك أنا كنزك ويلقمه يده فيقضمها قضم الفحل وإن كان كنوزا ذهبا وفضة فيجعل صفائح ويحمى عليها ثم يكوى بها جبينه وجنبه وظهره عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ يَعْنِي بِشِدْقَيْهِ يَقُولُ أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {وَلَا يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ » البخاري . وعن جَابِرِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِىَّ قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ « مَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ لاَ يَفْعَلُ فِيهَا حَقَّهَا إِلاَّ جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ قَطُّ وَقَعَدَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ تَسْتَنُّ عَلَيْهِ بِقَوَائِمِهَا وَأَخْفَافِهَا وَلاَ صَاحِبِ بَقَرٍ لاَ يَفْعَلُ فِيهَا حَقَّهَا إِلاَّ جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ وَقَعَدَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ تَنْطِحُهُ بِقُرُونِهَا وَتَطَؤُهُ بِقَوَائِمِهَا وَلاَ صَاحِبِ غَنَمٍ لاَ يَفْعَلُ فِيهَا حَقَّهَا إِلاَّ جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ وَقَعَدَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ تَنْطِحُهُ بِقُرُونِهَا وَتَطَؤُهُ بِأَظْلاَفِهَا لَيْسَ فِيهَا جَمَّاءُ وَلاَ مُنْكَسِرٌ قَرْنُهَا وَلاَ صَاحِبِ كَنْزٍ لاَ يَفْعَلُ فِيهِ حَقَّهُ إِلاَّ جَاءَ كَنْزُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَتْبَعُهُ فَاتِحًا فَاهُ فَإِذَا أَتَاهُ فَرَّ مِنْهُ فَيُنَادِيهِ خُذْ كَنْزَكَ الَّذِى خَبَأْتَهُ فَأَنَا عَنْهُ غَنِىٌّ فَإِذَا رَأَى أَنْ لاَ بُدَّ مِنْهُ سَلَكَ يَدَهُ فِى فِيهِ فَيَقْضَمُهَا قَضْمَ الْفَحْلِ » مسلم . وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ « مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلاَ فِضَّةٍ لاَ يُؤَدِّى مِنْهَا حَقَّهَا إِلاَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحَ مِنْ نَارٍ فَأُحْمِىَ عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيُرَى سَبِيلُهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ » مسلم .
أيها المسلمون : من تحقق من هذا كله فليقدم لنفسه من ماله ما أحب فإنه إذا قدمه كان له بين يديه ينتفع به في دار والإقامة وإن خلفه كان لغيره لا له وقد يكون هو من يحبسه عن النفقة في سبيل الله فيراه يوم القيامة في ميزان غيره من الورثة ممن أنفقه فيتحسر على ذلك ويدخل هو النار بماله ويدخل به وارثه الجنة إذا أنفقه في سبيل الله فيندم حين لا ينفع الندم كان ابن عمر لا يعجبه شيء من ماله إلا قدمه لله حتى إنه كان يوما راكبا على ناقة فأعجبته فنزل عنها في الحال وقلدها وجعلها هديا لله تعالى فالعاقل من قدم من ماله ما يحبه ليفوز به في دار الإقامة فإن من أحب شيئا استصحبه ولا يدعه لغيره. دخلتِ امرأةٌ على عائشةَ قد شُلَّت يدُها فقالت : يا أمَّ المؤمنين ، بِتُّ البارحةَ صحيحةُ اليدِ فأصبحْتُ شَلَّاءَ ! قالت عائشةُ : وما ذاك ؟ قال : كان لي أبوانِ مُوسرانِ ، كان أبي يعطي الزكاةَ ويُقري الضيفَ ويعطي السائلَ ولا يَحقِرْ من الخيرِ شيئًا إلا فعله ، وكانت أمي امرأةً بخيلةً مُمسكةً ، لا تصنع في مالِها خيرًا ، فمات أبي ثم ماتت أمي بعده بشهرَين ، فرأيتُ البارحةَ في منامي أبي وعليه ثوبانِ أصْفران ، بين يدَيه نهرٌ جارٍ ، قلتُ : يا أبَهْ ما هذا ؟ قال : يا بنيةُ ، من يعمل في هذه الدنيا خيرًا يرَه ، هذا أعطانيه اللهُ تعالى . قلتُ : فما فعلتْ أمي ؟ قال : وقد ماتت أمُّك ؟ قلتُ : نعم ، قال : هيهاتَ ! عُدِلت عنَّا ، فاذهبي فالتمِسيها ذاتَ الشِّمالِ ، فمِلْتُ عن شمالي ، فإذا أنا بأمي قائمةً عريانةً مُتَّزِرَةً بخِرقةٍ ، بيدِها شُحيمةٌ تنادي : والهْفاه ، واحسرَتاه ، واعطَشاه . فإذا بلغها الجهدُ دلكتْ تلك الشُّحَيمةُ براحتِها ثم لحسَتْها ، وإذا بين يدَيها نهرٌ جارٍ ، قلتُ : يا أماه ما لك تنادِين العطشَ ، وبين يدَيك نهرٌ جارٍ ؟ قالت : لا أُترَكُ أن أشربَ منه . قلتُ : أفلا أسقِيك ؟ قالت : وددتُ أنكِ فعلتِ ، فغرفتُ لها غُرفةً فسقَيتُها ، فلما شربت نادى مُنادٍ من ذاتِ اليمينِ : ألا من سقى هذه المرأةَ شُلَّت يمينُه مرتين – فأصبحْتُ شلَّاءَ اليمينِ ، لا أستطيعُ أن أعملَ بيميني . قالت لها عائشةُ : وعرفتِ الخِرقةَ ؟ قالت : نعم يا أمَّ المؤمنين ، وهي التي رأيتُها عليها ، ما رأيتُ أمي تصدَّقتْ بشيءٍ قطُّ ، إلا أنَّ أبي نحر ذاتَ يومٍ ثورًا ، فجاء سائلٌ فعمِدتْ أمي إلى عظمٍ عليه شُحَيمةٌ فناولَتْه إياه ، وما رأيتُها تصدَّقت بشيءٍ إلا أنَّ سائلًا جاء يسأل ، فعمِدت أمي إلى خِرقةٍ فناولتْها إياه . فكبَّرتْ عائشةُ – رضى اللهُ عنها – وقالت : صدق اللهُ وبلَّغَ رسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَّا يَرَهُ } .
فيا جامع المال ما أعددت للحفر هل يغفل الزاد من أضحى على السفر
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعنا بهدي سيد المرسلين ....
الخطبة الثانية
أيها المسلمون : وأما الخليل الثالث فهو العمل الذي يدخل مع صاحبه في قبره ويكون معه إذا بعث ويكون معه في مواقف القيامة وعلى الصراط وعند الميزان بالعمل تقسم المنازل في الجنة والنار{ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ }{ مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } قال بعض السلف هذه الآية في القبر فإنَّ العمل الصالح يكون لصاحبه في القبر حيث لا يكون للعبد من متاع الدنيا فراش ولا وساد ولا مهاد بل كل عامل يفترش عمله ويتوسده من خير أو شر . فالعاقل من عمر بيته الذي تطول فيه إقامته - ولو عمره بخراب بيته الذي يرتحل عنه قريبا لم يكن مغبونا بل سيكون رابحا - يروى عن لقمان أنه قال لابنه يا بني لكل إنسان بيتان بيت غائب وبيت شاهد فلا يلهينك بيتك الشاهد الذي فيه عمرك القليل عن بيتك الغائب الذي فيه عمرك الطويل . وقال بعض السلف لابن آدم بيتان بيت على ظهر الأرض وبيت في بطن الأرض فعمد إلى الذي على ظهر الأرض فزخرفه وزينه وجعل فيه أبوابا للشمال وأبوابا للجنوب ووضع فيه ما يصلح لشتائه وصيفه ثم عمد إلى الذي في بطن الأرض فأخربه فأتى عليه آت فقال هذا الذي أراك قد أصلحته كم تقيم فيه قال لا أدري قال الذي أخربته كم تقيم فيه قال فيه مقامي قال تقر بهذا على نفسك وأنت رجل تعقل . كان عثمان بن أبي العاص في المقبرة يشهد جنازة ومعه شاب من أقاربه فيه غفلة فقال له
عثمان اطلع إلى بيتك فاطلع إلى القبر فقال له ماذا ترى فقال الشاب أرى بيتا ضيقا مظلما موحشا ليس فيه طعام ولا شراب ولا زوجة وقد تركت بيتا فيه طعام وشراب وزوجة قال له عثمان هذا والله بيتك قال صدقت أما والله لو رجعت نقلت من ذاك إلى هذا ، وقال الحسن تبع رجل من المسلمين جنازة أخيه فلما دلي في قبره قال الرجل ما أرى يتبعك من الدنيا إلا ثلاثة أثواب أما والله لقد تركت بيتي كثير المتاع أما والله إن أقالني الله حتى أرجع لأقدمنه بين يدي قال فرجع فقدمه والله بين يديه .
أيها المسلمون : إن المؤمن الصالح يأتيه عمله الصالح في قبره في أحسن صورة فيبشره بالسعادة من الله والكافر بعكس ذلك كما في حديث البراء بن عازب عند أحمد بسند صحيح وفيه " وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ حَسَنُ الثِّيَابِ طَيِّبُ الرِّيحِ فَيَقُولُ أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ فَيَقُولُ لَهُ مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ فَيَقُولُ أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ .... وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ قَبِيحُ الثِّيَابِ مُنْتِنُ الرِّيحِ فَيَقُولُ أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوءُكَ هَذَا يَوْمُك الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ فَيَقُولُ مَنْ
أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالشَّرِّ فَيَقُولُ أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ " وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهُ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ حِينَ يُوَلُّونَ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَانَتِ الصَّلاةُ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَالزَّكَاةُ عَنْ يَمِينِهِ، وَالصَّوْمُ عَنْ شِمَالِهِ، وَفِعْلُ الْخَيْرَاتِ وَالْمَعْرُوفُ وَالإِحْسَانُ إِلَى النَّاسِ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ، فَيُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ، فَتَقُولُ الصَّلاةُ: لَيْسَ قِبَلِي مَدْخَلٌ، فَيُؤْتَى عَنْ يَمِينِهِ، فَتَقُولُ الزَّكَاةُ: لَيْسَ مِنْ قِبَلِي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤْتَى عَنْ شِمَالِهِ، فَيَقُولُ الصَّوْمُ: لَيْسَ مِنْ قِبَلِي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ، فَيَقُولُ فِعْلُ الْخَيْرَاتِ وَالْمَعْرُوفُ وَالإِحْسَانُ إِلَى النَّاسِ: لَيْسَ مِنْ قِبَلِي مَدْخَلٌ .... إلى أن قال : وَأَمَّا الْكَافِرُ، فَيُؤْتَى فِي قَبْرِهِ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ، فَلا يُوجَدْ شَيْءٌ، فَيُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ فَلا يُوجَدُ شَيْءٌ، فَيَجْلِسُ خَائِفًا مَرْعُوبًا " الحاكم وابن حبان وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي وعن عطاء بن يسار قال إذا وضع الميت في لحده فأول شيء يأتيه عمله فيضرب فخذه الشمال فيقول أنا عملك فيقول فأين أهلي وولدي وعشيرتي ما خولني الله تعالى فيقول تركت أهلك وولدك وعشرتك وما خولك الله وراء ظهرك فلم يدخل فبرك معك غيري فيقول يا ليتني آثرتك على أهلي وولدي وعشيرتي وما خولني الله تعالى إذا لم يدخل معي غيرك " وقال يزيد الرقاشي بلغني أن الميت إذا وضع في قبره احتوشته أعماله ثم أنطقها الله فقالت أيها العبد المنفرد في حفرته انقطع عنك الأخلاء والأهلون فلا أنيس لك اليوم عندنا .. ثم بكى يزيد وقال طوبى لمن كان أنيسه صالحا والويل لمن كان أنيسه عليه وبالا "
أيها المسلمون : ما من إنسان يموت إلا ندم عند موته روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُوتُ إِلَّا نَدِمَ» قَالَوا: وَمَا نَدَامَتُهُ ؟ قَالَ: « إِنْ كَانَ مُحْسِنًا نَدِمَ أَنْ لَا يَكُونَ ازْدَادَ وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا نَدِمَ أَنْ يَكُونَ نَزَعَ » أَيْ: نَدِمَ أَنْ لاَ يَكُونَ قَدْ أَقْلَعَ عَن إِسَاءتِه لما حضرت أبا الدرداء الوفاة جعل يجود بنفسه ويقول ألا رجل يعمل لمثل مصرعي هذا ألا رجل يعمل لمثل يومي هذا ألا رجل يعمل لمثل ساعتي هذه ثم قبض رضي الله عنه . فالعاقل السعيد من أكثر من الصالحات لتصاحبه في قبره بعد الممات والشقي الخاسر من قدم السيئات لِيُلقى بعد الموت في الحفر المظلمات
تزود قرينا من فعالك إنما قرين الفتى في القبر ما كان يعمل
وإن كنت مشغولا بشيء فلا تكن بغير الذي يرضى به الله تشغل
فلن يصحب الإنسان من بعد موته إلى قبره إلا الذي قد كان يعمل
ألا إنما الإنسان ضيف لأهله يقيم قليلا عندهم ثم يرحل
اللهم اجعل خير أعمارنا أواخرها وخير أعمالنا خواتمها وخير أيامنا يوم نلقاك اللهم املأ قلوبنا بخشيتك وأقبل بها على طاعتك واحشرنا في زمرة عبادك الصالحين صلوا وسلموا على رسول الله ......
المشاهدات 11778 | التعليقات 9
جزيت خيراً لقد ذكرتنا بالحقيقة الغائبة عن الكثيرين
ناصح أمين;21447 wrote:
يا لها من حقيقة خالدة حق يقين وعلم يقين . غير أننا نغفل إخوتي و لا نرى مصداقها إلا في غيرنا حتى نراها عين يقين في نفوسنا .
ليتنا نعتبر قبلُ ، ليتنا نتذكر ، ليتنا نتدبر .
بارك الله فيك شيخنا الفاضل ما أحوجنا إلى العبرة .
ليتنا نعتبر قبلُ ، ليتنا نتذكر ، ليتنا نتدبر .
بارك الله فيك شيخنا الفاضل ما أحوجنا إلى العبرة .
=============
آمين وأشكر لك تكرمك بهذا التعليق الرائع المفيد
بورك فيك ونفع الله بك شيخ منديل
في الحقيقة الحديث جديد على كثير ومضمونه غائب على الأكثر إلا من رحم ربك نسأل الله أن يديم علينا خليلا لا يفارقنا حتى يجمع بنا على سرر متقابلين.
أهلا وسهلا بك شيخ زياد وشكرا على تعليقك ومنكم نستفيد
فهد فالح الشاكر;21579 wrote:
جزيت خيراً لقد ذكرتنا بالحقيقة الغائبة عن الكثيرين
*********************************************************
آمين وإياك ولا يخفاك أن الذكرى تنفع المؤمنين جعلها الله نافعة لي ولك ولكل من قرأها ونقلها
كل الشكر والتقدير لكل من مر وعلق وأفاد واستفاد
كم هي مؤثرة خطبتك، بليغة لفظتك
بارك الله لك في علمك وأجزل لك الأجر
أبو نبراس;22005 wrote:
كم هي مؤثرة خطبتك، بليغة لفظتك
بارك الله لك في علمك وأجزل لك الأجر
أخي الفاضل سعدت بمرورك وآمين على دعاءك وشكرا لك على ثناءك رزقنا الله وإياك اﻹخلاص والقبول
ناصح أمين
يا لها من حقيقة خالدة حق يقين وعلم يقين . غير أننا نغفل إخوتي و لا نرى مصداقها إلا في غيرنا حتى نراها عين يقين في نفوسنا .
ليتنا نعتبر قبلُ ، ليتنا نتذكر ، ليتنا نتدبر .
بارك الله فيك شيخنا الفاضل ما أحوجنا إلى العبرة .
تعديل التعليق