الأحكام الشرعية تدور مع غاياتها وجودا وعدما// عدنان امامة

احمد ابوبكر
1436/04/25 - 2015/02/14 05:10AM
[align=justify]الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اتبع هداه أما بعد...
فإن العلم بمقاصد الشريعة واعتبارها عند دراسة الأحكام الواقعة أو المتوقعة في النوازل خيرُ مُعين لإصابة الحق بعد توفيق الله سبحانه.
ومعرفة المصالح والمفاسد هي لب الفقه وهي الغاية من معرفة الأحكام، قال الإمام الشاطبي رحمه الله: "الأحكام الشرعية ليست مقصودة لأنفسها، وإنما قصِد بها أمور أخرى هي معانيها وهي المصالح التي شُرعت لأجلها".
ولقد فوت إغفال هذا الأمر ويفوت على الأمة خيرا كثيرا، وسبب ولا زال يسبب لها نكبات جساما، فضلا عن تقديم الإسلام وإظهاره بصورة لا يرضاها الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم.

قال البشير الإبراهيمي -رحمه الله-:" جهل المسلمون حقائق دينهم ، وجهلوا الحكم المنطوية تحت أحكامه، .... فأثر ذلك في نفوس المتفقهين آثارا سيئة. منها: اعتبار تلك الأحكام تعبدية تحفظ ألفاظها ولا يتحرك الفكر في التماس عللها وتطلب حكمها وتعَرُّف مقاصد الإسلام منها، وتصفح وجوه المصلحة والمفسدة فيها".

وإن باستطاعتنا أن نقول بكل ثقة واطمئنان إن مراد الشارع من شرعية الأحكام مقاصدها وغاياتها وليس صورها وأشكالها، وليس ثمت حكم شرعي إلا وهو قائم على نظرين: نظر مبدئي، ونظر مصلحي، وإن هذا التلازم بين النظر المبدئي والنظر المصلحي لا يجوز أن ينفك بحال، بل متى تخلفت المصلحة التي قصد إليها الشرع من شرعية الحكم حرم الإفتاء بأصل شرعية الحكم. يقول الشاطبي رحمه الله:" النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام؛ إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل؛ مشروعاً لمصلحة فيه تُستجلب، أو لمفسدة تُدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قُصد فيه؛ وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه، أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك. فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها! فيكون هذا مانعاً من إطلاق القول بالمشروعية! وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية؛ ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد! فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية! وهو مجال للمجتهد صعبُ المورد؛ إلا أنه عذبُ المذاق، محمودُ الغِبِّ، جارٍ على مقاصد الشريعة".

ويقول: "فالعمل المشروع في الأصل قد ينهى عنه لما يؤول إليه من المفسدة عند التطبيق، والعمل الممنوع قد يترك النهي عنه لما في ذلك من المصلحة التي تترتب عليه عند التطبيق".

وقد اجتمعت دلائل الشريعة كلها على تقرير ما تقدم فالناظر في نصوص الكتاب والسنة يجد العديد من النصوص الشرعية الكريمة التي تدعو إلى أن يكون تطبيق الأحكام على نحو متبصر راشد، محقق لغايات المشرع ومتوافق مع مقاصد التشريع من ذلك قوله تعالى: (وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) [108: الأنعام].

وجه الدلالة: أن الأصل في سب آلهة المشركين هو المشروعية والجواز، وذلك لما فيه من توهين أمر المشركين وكشف زيف آلهتهم المزعومة، وإظهار عزة المؤمنين وقوتهم، غير أن هذا الأصل المشروع لم يأذن الشارع بتطبيقه وإنفاذه على أرض الواقع بل حرمه ونهى عنه نظراً لما فيه من نتائج وخيمة تتعارض مع مقصد الشارع من أصل مشروعية هذا الحكم، وذلك من جهة ما سيفضي إليه من حمل المشركين على سبِّ الله سبحانه وتعالى، جهلاً وعدواناً، وهي مفسدة تربو بكثير على المصلحة التي يرجى تحقيقها من وراء مباشرة هذا الفعل.

فكان في هذه الآية إرشاد قرآني إلى ضرورة الوعي بنتائج التطبيق والتحقق من مدى توافق الحكم عند تطبيقه، مع المصلحة التي شرع من أجلها. وهذا ما وعاه الإمام القرطبي عندما قرر أن هذه الآية دليل على "أن المحقَّ قد يكف عن حقٍّ له إذا أدّى إلى ضرر يكون في الدين".

ومن الأدلة القرآنية الدالة على دوران الحكم مع غايته ومقصده قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا) [104: البقرة].

وجه الدلالة في هذه الكريمة أن معنى "راعنا" في اللغة هو ذات معنى "انظرنا"، ولكن هذا المعنى اللغوي المجرد للفظ "راعنا" يختلف عن معناه عند مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ذلك أن اليهود كانوا يخاطبون النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ ويقصدون السبّ، فنهي المسلمون عن ذلك لئلا يكون قولهم تشبهاً باليهود، وسبباً في إيذاء النبي من حيث لا يشعرون.

وبهذا فإن القرآن قد نبّه على أن مدلول اللفظ في حال تجريده قد يختلف عن مدلوله عند تطبيقه، فعند التطبيق قد يحمل اللفظ بعض المحاذير الخاصة التي تتنافى مع مقصد الشارع، فيمنع ويحظر نظراً لهذا الاعتبار.

ومما جاء في السنة دالا على تلازم النظر المبدئي مع النظر المصلحي في تطبيق الحكم الشرعي امتناعه صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين وتعليله ذلك بقوله: "لا يتحدث الناس أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان يقتل أصحابه".

وجه الدلالة في هذا الحديث: أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قد امتنع عن قتل عبد الله ابن أبي رغم أنه قد فعل ما يستوجب القتل، إذ قال بحق الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته: "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل" فقدر الرسول صلى الله عليه وسلم ما سيفضي إليه قتل هذا المنافق وزمرته، من آثار ضررية داخلياً وخارجياً، أما داخلياً فبإثارة الفتنة داخل الصف المسلم، وفتح الباب للانقسام وتوهين وحدة الجماعة المؤمنة، وأما خارجياً فبتشويه صورة الإسلام خارج المدينة النبوية.

ولا شك أن في امتناع الرسول صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين، إرشاد إلى ضرورة التبصر السابق بنتائج تطبيق الأفعال قبل الإقدام عليها، للتحقق من مدى توافقها مع مقاصد التشريع.

ومن الأدلة على ضرورة ربط الأحكام بنتائجها ما حدثت به عائشة رضي الله عنها: من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: يا عائشة، لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية، لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه وألصقته بالأرض، وجعلت له بابين باباً شرقياً، وباباً غربياً، فبلغت به أساس إبراهيم".

وجه الدلالة في هذا الحديث: أن إعادة البيت على الهيئة الكاملة التي بناها إبراهيم عليه السلام هو عمل مشروع، بل عمل فاضل في أصله، لكنّ الرسول صلى الله عليه وسلم امتنع من إنفاذ وتطبيق هذا العمل المشروع، وأبقى البيت على ما هو عليه من الهيئة الناقصة، حفاظاً على مقصد الشارع المتمثل في الحفاظ على وحدة صف الأمة، وتجنب إثارة النزاع والخصام بينهم، والحرص على تأليف قلوب حديثي العهد بالجاهلية، وهو ما أرشدت إليه بعض الروايات الأخرى للحديث: "ولولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت وأن ألصق بابه بالأرض. . "

ومن أدلة رعاية الشارع لغايات الأحكام ما أخرجه البخاري ومسلم والترمذي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صل الله عليه وسلم: "أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قلت الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا، فقلـت: يا رسول الله، أفلا أبشـر النـاس، قال: لا تبشرهم فيتَّكِلوا".

وجه الدلالة أن تبليغ الدين في الأصل واجب على الرسول صلى الله عليه وسلم لكن لما خشي أن يتخذ حديثو العهد بالإسلام مثل هذا الحديث ذريعة إلى ترك التكاليف ورفع الأحكام طلب من معاذ رضي الله عنه أن لا يبلغه وأن لا يشيعه أمام من يخشى عليه الاتكال وترك العمل.

وهذا المعنى جعل البخاري يترجم في صحيحه "باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا" ثم أسند لعلي رضي الله عنه أنه قال: "حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله".

قال ابن حجر: "فيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة، ومثله قول ابن مسعود : " ما أنت محدثا قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة " رواه مسلم، وممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان، ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف في الغرائب، ومن قبلهم أبو هريرة كما تقدم عنه في الجرابين وأن المراد ما يقع من الفتن ، ونحوه عن حذيفة، وعن الحسن: أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي ، وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة وظاهره في الأصل غير مراد ، فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب".

ولم يزل العلماء من القديم -من علماء السلف- إلى يومنا هذا يعتبرون المقاصد في أحكامهم وفي فتاويهم، من ذلك فتوى ابن عباس رضي الله عنه في مسألة قبول توبة القاتل؛ فعن سعد بن عبيدة قال: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنه فقال: "لمن قتل مؤمناً توبة؟ قال: لا، إلا النار، فلما ذهب قال له جلساؤه: ما هكذا كنت تفتينا، كنت تفتينا أن لمن قتل مؤمناً توبة مقبولة، فما بال اليوم؟ قال: إني أحسبه رجلاً مغضباً يريد أن يقتل مؤمناً، قال فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك.

لقد راعى ابن عباس في هذه المسألة مقاصد الشريعة الإسلامية عند تنزيله للحكم الشرعي على وقائعه وأفراده، حيث لاحظ أن الحكم بقبول توبة القاتل لا ينطبق على الفرد الذي يسأل عن الحكم ليقترف جريمة القتل، لأن إعلامه بقبول توبته سيتناقض مع المعنى المصلحي الذي لأجله شرعت التوبة أصلاً، والمتمثل بإغلاق باب القتل وسفك الدماء والتجاوز على أنفس الناس وأموالهم وأعراضهم، فلو أفتاه بقبول توبته -وحاله كذلك- لأدّى إلى فتح باب القتل بدلاً من إغلاقه، ولأفضى إلى النقيض من المقصود الشرعي الذي أراده الله سبحانه بقوله: (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) [70: الفرقان]، فالتوبة وسيلة للأمن والمحافظة على الأنفس والأموال والأعراض، لا وسيلة للخوف والتشجيع على تضييع الحرمات والاعتداء على الأبرياء والآمنين.

وهكذا جسَّد ابن عباس مفهوم التطبيق المقاصدي للحكم الشرعي تجسيداً عملياً، عندما راعى في تنزيله للحكم الشرعي على أفراده ووقائعه، المعاني المصلحية التي لأجلها شرع الحكم، وتحقق أثناء تطبيقه للحكم من عدم انحرافه عن غايته وحكمة مشروعيته.

ومن هذا القبيل توقيف سيدنا عمر سهم المؤلفة قلوبهم نظرا لزوال هذه الشريحة في عصره رضي الله عنه حيث قال للرجلين الذين جاءا يسالانه: "إن الرسول - صلى االله عليه وسلم - كان يتألفكما، والإسلام يومئذ قليل، وإن الله أغنى الإسلام وأعزه اليوم، فاذهبا فاجهدا جهدكما كسائر المسلمين".

ورعاية مقصود الشارع من تشريع الأحكام هي ما جعل الأصوليين يستنبطون ما اعتبروه مصادر إضافية للتشريع كسد الذرائع وذلك حيث يكون الفعل في الأصل مشروعا ولكن تطبيقه على واقعة معينة مفض إلى مفسدة أكبر من المصلحة التي شرع من أجلها، فيمنع نظراً لتلك المفسدة، والاستحسان حيث يكون الفعل في الأصل غير مشروع ولكن تطبيقه على واقعة خاصة مفض إلى تفويت مصلحة أكبر من المفسدة التي منع من أجلها فيشرع نظرا لهذا الاعتبار.

وهو ما يجعلنا نرى الفقهاء ينصون على أن الأمر الواحد تجري عليه أحكام متباينة فبينما نراه واجبا أو مباحا في حالة من الحالات نراه محرما في حالة أخرى، والعكس. والسبب: تحقيقه للمصلحة في الأولى وتفويته لها في الأخرى، كما هو الحال في حكم إنكار المنكر، وهجر أصحاب البدع والمعاصي، وغيبة الفاسق، والنظر إلى المخطوبة وغيرها.

وعلى هذا الأساس تنبني الإجابة على كثير مما يثار في الساحة الإسلامية من أسئلة عن مدى شرعية بعض الأفعال مثل قتل الرسامين المسيئين للنبي صلى الله عليه وسلم وحرق الطيار الأردني وتصوير ونشر قطع الرؤوس ورجم الزناة وسبي النساء وقطع يد السراق وغيرها من مسائل تشغل الرأي العام بين الحين والآخر.

يشار في ختام هذا المقال إلى أن رعاية المصالح المشار إليه لا يعني ترك العمل بالأحاديث لأجل مخالفتها للقواعد العامة، إنما يعني إعمال الآثار والأحاديث والنصوص، بتحقيق مقاصدها وغاياتها والعلل التي شرعت من أجلها، وهو منهج يجمع بين النصوص ولا يضرب بعضها بالبعض الآخر.
[/align]
المشاهدات 907 | التعليقات 0