الأثرُ الجميلُ بعدَ الرّحيلِ 1444/5/22هـ
يوسف العوض
الخطبة الأولى
معاشر المسلمين : يقولُ اللهُ تبارك وتعالى ﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ﴾ ، في هذه الآيةِ الكريمة يخبرُ المولى عن بعثِ الناسِ بعد موتهم يومَ القيامةِ لِيُجازيهم على أعمالهم إنْ كان خيراً فخيراً وإنْ كان شراً فشراً وَقَدْ كُتِبَ ما قَدَّموا منْ أعمال وآثارٍ لهذه الأعمالِ وكلُّ هذا في كتابٍ بيِّنٍ واضحٍ ، يقول الله سبحانه وتعالى ﴿ وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً ، اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً .
عبادَ الله : إنَّ الأعمار محدودةٌ، والآجالُ مقسومةٌ، وَكُلُّ واحدٍ قد كُتِب له حظُّه في هذه الحياة، وأنت أيها الإنسان ، منذُ أَنْ خرجتَ إلى الدُّنيا ، وأنت تَهْدِمُ فِي عُمُرِك، وتُنْقِصُ مِنْ أَجَلِك، وَتَبْنِي في قبرك ، فهَبْ أَنَّكَ مِتَّ الآن ؟؟ فما آثَارُكَ بعد الموت؟؟ ما الأعمالُ المباركةُ التي تُنْسَبُ إليك بعد موتك، وتنالُ عليها أجرًا ؟؟ كَمْ مُسْلِمًا علَّمتَ؟ كم تائهًا إلى طريقِ الحقِّ هديتَ؟ كم كلمةً طَيِّبَةً غرست؟ كم معروفا صنعت ؟ كم مرةً بين متخاصمين أصلحت ؟ كم حديثًا عن رسول صلى الله عليه وسلم بلَّغْت ؟ وَرَسُولَنَا صلى الله عليه وسلم يَقُول « بَلِّغُوا عَنِّى وَلَوْ آيَةً . ». ويقول صلى الله عليه وسلم« إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ ، مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ ، وَعِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ ، وَوَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ ». فَهَذِهِ وَغَيْرُهَا مِنَ اَلأَعْمَالِ الطَّيِّبَةِ ، لَيْسَتْ إِلَّا مِنْ ذَلِكَ الذِّكْرِ الْحَسَنِ وَالْأَثَرِ الطَّيِّبِ الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهَا أَصْنَافٌ ثَلَاثَةٌ ؛ سَبَبُهَا وَهُوَ الْمُتَوَفَّى أَوَّلًا، وَالْقَائِمُ بِذَلِكَ الْأَثَرِ الْمُبَاشِرِ لَهُ، ثُمَّ الْمُجْتَمَعُ مِنْ حَوْلِهِ وَمَنْ سَمِعَ أَوْ رَأَى.
عبادَ الله : إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ ، أَنْ يُوَفِّقَهُ فَيَجْعَلَ لَهُ أَثَرًا طَيِّبًا فِي حَيَاتِهِ فَيَصِيرَ ذَلِكَ أَثَرًا حَسَنًا بَعْدَ مَمَاتِهِ، يُمِدُّ بِهِ عُمْرَهُ ، وَيَزِيدَ بِهِ فِي حَسَنَاتِهِ؛ وَهَؤُلاَءِ وَإِنْ مَاتَتْ أَجْسَادُهُمْ ، فَحَسَنَاتُهُمْ لَمْ تَمُتْ، وَإِنْ وَارَى التُّرَابُ أَجْسَامَهُمْ فَأَفْعَالُهُمُ الطَّيِّبَةُ وَآثَارُهُمُ الْحَسَنَةُ ، لَا زَالَتْ تَرْسُمُ صُوَرًا ذِهْنِيَّةً لَدَى الْمُجْتَمَعِ ، يَذْكُرُونَهُ فِيهَا بِخَيْرٍ وَيَحْتَذُونَ بِهَا ، كَمَا أَنَّ الْأَثَرَ الطَّيِّبَ ، هُوَ اسْتِمْرَارٌ لِلْعَطَاءِ ، وَبَقَاءٌ لِلْخَيْرِ وَمُسَاهَمَةٌ فَاعِلَةٌ فِي رِسَالَةِ الْبَلَاغِ الَّتِي عُنِيَتْ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةُ وَعَهِدَهُ إِلَيْهَا نَبِيُّهَا الْكَرِيمُ صلواتُ رَبِي وسَلاَمُهُ عَلَيْهِ حين قال: « نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَ ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ »كَمَا أَنَّ هَذِهِ الْآثَارَ الطَّيِّبَةَ ، تَدْفَعُ بِالْمُجْتَمَعِ إِلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، وَالتَّمَسُّكِ بِجَمِيلِ الْقِيَمِ وَمَكَارِمِ الصِّفَاتِ ، وما أحلى أنْ يجدَ الإنسانُ في صحيفتِه ، حسناتٍ لم يتعب فيها ، وأن يملأ ميزانه بطاعاتٍ عَمِلَهَا غيره ، وأن يرتقي درجاتٍ بعد أن يواريه الترابُ ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِيَّ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِنَّ الرَّجُلَ لَتُرْفَعُ دَرَجَتُهُ فِى الْجَنَّةِ فَيَقُولُ أَنَّى هَذَا فَيُقَالُ بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ ».
عبادَ الله : ولا يكونُ الأثرُ الحميدُ والذكرُ الجميلُ بالعلمِ أو المالِ فقط، وإنَّما يكون كَذَلِكَ بالرحمةِ والإحسانِ إلى الخلقِ . يقول أحدُهم : لقيت بمنى شابًّا ، يحمل شيخًا كبيرًا على ظهره، فأردت أن أشكرهُ على بِرِّه ، فقلت له : جُزيت خيرًا لبرك بأبيك ، فقال : لكنه ليس أبي ولا من بلدي . قلت : فمن إذن ؟ قال : وجدتُه بعرفةَ ليس معه أحدٌ فحملته على ظهري إلى مزدلفةَ ومنها إلى منى . قلت : لم فعلت ذلك ؟ قال : سبحان الله ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾. فما أحوجنا جميعاً إلى هذه الرحمةِ ، وهذه الأخلاقُ التي يبقى أثرُها في القلوبِ قبل السطورِ، وربُّنَا سبحانه وتعالى يقول ﴿ إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾.
عبدَ الله : فأينَ أنتَ من هذه الرحـــمةِ وهذا الإحسانُ لمن حولــك ، وممن هم بجوارك، وأينَ أنتَ من أقاربِك وَأَهْلِكَ وأرحامِك ؟ هل سألت عنهم ؟ هل تفقدتَ أحوالَهم وحوائَجهم ؟ وسعيْتَ في تَلَمُّسِ متطلباتِهم وقضائِها لهم ؟ فيا أخي المسلم اترك أثرًا حميدًا قبل رحيلك ، فجميلٌ أنْ تتركَ أثراً طيباً لنفسك ولغيرك ، سواء كان هذا الأثرُ في العبادات أو المعاملات أو الدعوة والتوجيه ، فربَّ كلمةٍ واحدةٍ تكون سبباً في هداية أمّةٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « . لأَنْ يَهْدِىَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ » ، ثُمَّ تَذَكَّرْ أيها المسلمُ المباركُ: أنّك تعيشُ في هذه الدنيا مرةً واحدةً ، وقد ترحّلَ عنها في أيٍ وقتٍ فاغتنم عمرَك أيُّها الإنسانُ ، فاللهُ تعالى يقولُ ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾. ويقول سبحانه ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ ، لنحرصْ على الأثرِ الطيّبِ الذي نتركه بعدَ موتِنا لننعمْ بعظيمِ الأجرِ من ربِّنا ، جعلنا الله جميعاً مفاتيح خيرٍ مغاليقَ شرٍّ .
الخطبة الثانية
عبدَ الله : هبْ أَنَّكَ الآن في عدادِ الموتى ، ما هي الكلماتُ التي تتوقع أن يصفك الناسُ بها بعدّ موتِك ؟ هل سألت نفسَك ما هو المشروعُ الذي تريد أن يُثْبَتَ في صحيفةِ عملِك بعد وفاتِك؟ تأمَّل مشوارَ حياتِك ، فقد يُرزق الإنسانُ عُمَراً مَدِيدا ومالاً عَديداً، وَيَمُوتُ يوم يموتُ بِلا أثَرٍ يذكرُ، أو عملٍ عليه يشكر، وهذا منَ الحرمانِ والـخُسرانِ ، وقد يعيش بعضُهم عُمُراً قصيراً ، ويرحلُ بأثرٍ طيِّبٍ يـُخَلِّدُ ذكراه ، فشمّرْ عن ساعدِ الجدِّ ، ولا تَذْهَبْ من الدنيا ، قبل أن تكون لك بصمةٌ في صلاحِ مجتمعِك ، ومن الدُّعاةِ لدينك ، بالتخلقِ بأخلاقِه الكريمةِ الطَّيِّبةِ ، وبالقدوةِ الحسنةِ في سلوكِك وأفعالِك ، فبهذه الأعمالِ الطيبةِ تضيفُ إلى عمرِك الحقيقي عمرٌ ثاني ، نسأل الله تعالى أن يَجْعلنا مِمّنْ طابَ ذِكْرُهُم ،وحَسُنَتْ سِيرَتُهُم ، وَخَلُصَ عَمَلُهُم وَاسْتَمَرَّ أجْرُهُمْ فِي حَياتِهِمْ وَبَعْدَ مَوْتِهِم ، إنه سميعٌ قريبٌ مجيب .
المرفقات
1670825570_الاثر.pdf