اقبِضْ على جَمْرَتِكَ

راشد بن عبد الرحمن البداح
1441/02/18 - 2019/10/17 20:53PM

الحمد لله: أَنْتَ الَّذِي صَوَّرْتَننا وَخَلَقْتَنا   *   وَهَـدَيْتَنا لِشَرَائِعِ الإِيمَانِ

وَجَبَرْتَنا وَسَتَرْتَنا وَنَصَرْتَنا  *  وَغَمَرْتَنا بِالْفَضْلِ وَالإِحْسَانِ

فَلَكَ الْمَحَامِدُ وَالْمَدَائِحُ كُلُّهَا * بِخَوَاطِرِي وَجَوَارِحِي وَلِسَانِي([1])

أشهدُ ألا إلهَ إلا أنت، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، وقد شَرَح اللهُ صدرَه ووضعَ وزرَه، ورفعَ ذكرَه:وشقَّ لهُ منْ إسمهِ ليجلَّهُ **فذو العرشِ محمودٌ وهذا محمدُ

أما بعد: فأبشروا أيُّها الإخوةُ وأمِّلوا! فهذه بشارةٌ من اللهِ -تعالى- واللهُ لا يُخِلفُ الميعادَ، إنها في قولِه سبحانَه: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}. فلنوقِنْ أن الأمرَ قد يكونُ في ظاهرهِ شرّاً، ثم تكونُ العاقبةُ خيراً بإذنِ الله، ولنتذكرْ أنَّ تباشيرَ النصرِ قد بدَتْ:فالحادثاتُ متى تناهَتْ...فموصولٌ بها الفرَجُ القريبُ

لكنَّ هذا الفرَجَ مشروطٌ بأن تَقبِضَ على جمرةٍ بيدِكَ، فاستعِدَّ واقبِضْ على جمرتِك. نعم! ستؤلمُك، بل ستعذبُك شهورًا، وتعالجُها سنين. وبعد أن تنطفئَ الجمرةُ سيأتي اللهُ بالفرَج.

ألم تسمعْ إلى ذلكمُ المثلِ العجيبِ الذي ضَربَه رسولُ e حينَما قال: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ؛ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالقَابِضِ عَلَى الجَمْر([2]). لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلاً مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ. قَالَ: بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلاً مِنْكُمْ([3]).

وفي هذا المَثَل بِشارةٌ ونِذارةٌ، أما البشارةُ فالأجرُ هائلٌ جدًا، بمضاعفةِ أجرِ الثابتِ على دينِه كأجرِ خمسين صحابيًا، باستثناءِ فضلِ الصحبةِ.

وأما النذارةُ  فهيَ إيذانٌ بصَولةِ الباطلِ ساعةَ فتنةٍ قد تَعْشَى معها الأبصار، وتَغْشَى البصائر، ليَغرقَ المجتمعُ في شهواتهِ، فينظرُ الثابتُ على دينهِ من أُفُقِه العالي إلى اللاهثِينَ اللاصقِينَ بالوحلِ، إلا قلائلَ لا تُراودُهم أنفسُهم على الانغماسِ معهم في الوحلِ. ويقفُ القابضُ على دينهِ كالقابضِ على الجمرِ، والساخرونَ يَهزَؤونَ ويَسخَرونَ، فيقولُ بقولِ من سبقَه في موكبِ الإيمانِ: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ}.

فيا أيُّها الصالحونَ، ويا أيُّها المصلحونَ: أنتم غرباءُ، ونبيُّكُم e يقولُ: فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ([4]).أو قال:الَّذِينَ يَصْلُحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ([5]) (فهؤلاءِ الغرباءُ قِسمانِ: قِسمٌ يُصلِحُ نفسَه عند فسادِ الناس، وأفضلُ منه من يُصلحُ ما أفسدَ الناسُ)([6]). فالثباتَ الثباتَ يا عبادَ الله. والفرارَ الفرارَ منَ الفتنِ.

ومن عجيبِ أقدارِ اللهِ المُبهرةِ عند حُلولِ الفتنِ أن اللهَ يُمَكِّن لأعداءِ اللهِ -عز وجل-، حتى تستحكمَ على أهلِ الحقِّ حلقاتُ الخطرِ، وتشتدَّ بهم الخُطوبُ، ثم يأتي الفَرَجُ أحيانًا من الكربِ نفسِهِ.

واعتبروا بقصةِ أمِّ نبيِ اللهِ موسى، وكيفَ استحكمَ اليأسُ من قلبِها، بسبب بطشِ طاغيةٍ يُقتِّل أبناءَ بني إسرائيلَ ويَستحيي نساءَهم، وخوفُ أمِّ موسى إنما هو  من قِبَلِ فرعونَ، وإذا بالفرَجِ يأتيْها من قِبَل فرعونَ نفسِه، كما قالَ تعالى حكايةً عنهم: {فالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً.. وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}.

فلِقائلٍ أن يقولَ: ما وسائلُ الثباتِ على دينِ اللهِ حتى المماتِ؟ فيُقالُ: إليكَ سبعَ وسائلَ:

الأولى: الإقبالُ على القرآنِ تلاوةً وحفظاً وتفسيراً وتدبراً، فمنه ننطلقُ، وإليه نَفيئُ. {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}.

الثانيةُ: الاستكثارُ من العملِ الصالحِ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} وإذا أطلَّتِ الفتنةُ برأسِها، فهل نتوقعُ ثباتاً من الكُسالَى القاعدينَ عن الأعمالِ الصالحةِ؟!

الثالثةُ: تدبرُ قصصِ الأنبياءِ:{وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}.

الرابعةُ: الدعاءُ. فلما كانتْ «قُلُوبُ بَنِى آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ». لذا كانَ رَسُولُ اللَّهِ e يُكثرُ أن يقولَ: « اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ»([7]).

الخامسة: ذكرُ الله: ولْنعتبِرْ بماذا استعانَ يوسفُ عليه السلامُ في الثباتِ أمامَ فتنةِ المرأةِ ذاتِ المنصبِ والجمالِ لما دعتُه إلى نفسِها؟ ألم يَدخلْ في حِصنِ "مَعاذَ اللهِ" فتكسرتْ أمواجُ جنودِ الشهوات ِعلى أسوارِ حصنِه!

السادسةُ: القيامُ بواجبِ الدعوةِ إلى اللهِ عز وجل، وإنكارُ المنكراتِ بحسبِ المستطاعِ، وأما إنكارُ القلبِ فلا يُعذرُ فيه أحدٌ:{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}.

السابعةُ: الالتفافُ حولَ العناصرِ المثبتةِ، وعلى رأسِهم العلماءُ الراسخونَ والمصلحونَ الصادقونَ، الذين يوصونَ باجتماعِ كلمةِ المسلمينِ، وعدمِ منازعةِ الأمرِ أهلِه. قال ابنُ القيمِ عن دورِ شيخِه ابن تيمية في التثبيتِ رحمهُما اللهُ: "وكنا إذا اشتدَّ بنا الخوفُ، وساءتْ بنا الظنونُ، وضاقتْ بنا الأرضُ أتيناهُ، فما هوَ إلا أنْ نراهُ ونسمعَ كلامَه، فيذهبُ ذلكَ كلُّه عنا"([8]).

  • اللهم إنا نسألك الثباتَ في الأمرِ والعزيمةَ على الرُّشد.
  • اللهم اجعل لنا قلوبًا توابة، لا فاجرةً ولا مرتابة.
  • اللهم احفظ بلادَنا والمسلمين بالأمنِ والإيمانِ وتحكيمِ شرعِك، وبالأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر.
  • اللهم واحفظْ جنودَنا في حراساتِهم وثكناتِهم وتفتيشاتِهم، واخلفُهم في أهليهم بخير.
  • اللهم عليك بالحوثيينَ والنصيريينَ والمتربصينَ والمفسدينَ، وكلِّ حاقدٍ ومحاربٍ للدين.
  • اللهم يا مجيبَ الدعواتِاحفظْ لنا ملكَنا وأمدَّه بالصحة في طاعتِك، ومصلحةِ الإسلامِ والمسلمين.
  • اللهم أعنه ووليَّ عهده ببطانةٍ صالحةٍ ناصحة. وسددْهم في قراراتِهم.
  • قَالَ حبيبك e: أَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ فِي كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ، فَإِنَّ صَلَاةَ أُمَّتِي تُعْرَضُ عَلَيَّ فِي كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ، فَمَنْ كَانَ أَكْثَرَهُمْ عَلَيَّ صَلَاةً كَانَ أَقْرَبَهُمْ مِنِّي مَنْزِلَةً([9]).
  • اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.

([1])  من نونية القحطاني

([2])  سنن الترمذي(2260)

([3])سنن الترمذي(3058)

([4])سنن الترمذي (2630) وحسنه الترمذي

([5])مسند أحمد ( 16690  )

([6])كشف الكربة في وصف أهل الغربة لابن رجب (ص: 9)

([7])صحيح مسلم ( 6921)

([8])الوابل الصيب ص 97

([9])رواه البيهقي(شعب الإيمان2770)وحسنه المنذري(2583)وابن حجر(الفتح 11/167)والعجلوني(1/ 190)والألباني (صحيح الترغيب 1673)

المرفقات

على-جمرتك

على-جمرتك

على-جمرتك-2

على-جمرتك-2

المشاهدات 1657 | التعليقات 0