اغتنام شهر الصيام
الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله الهويمل
اغتنام شهر الصيام
الخطبة الأولى
الحمد لله ذي الفضل والإنعام ، فضل شهر رمضان على غيره من شهور العام ، وخصه بمزيد من الفضل والكرم والإنعام ، وأشهدٌ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وإلهيته وأسمائه وصفاته ( تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ ) وأشهدٌ أن محمداً عبدُه ورسوله أفضل من صلى وصام ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الكرام ، وسلم تسليماً كثيرا ، أما بعد :-
فاتَّقُوا الله عبادَ اللهِ ؛ فإن من اتقى الله وقاه وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه .
واعلَمُوا أنَّكم في شهرٍ كريم وموسم عظيم ينبغي اغتِنامُ أوقاته بالأعمال الصالحات قبل فَواته ، فقد مضَى منه أيام ، فلنغتَنِم ما بَقِي من شهرنا ، فما مضى لن يعودَ .
أيّها المسلمون : مواسمُ الخيرات أيّامٌ معدودات ، مصيرها الزوال والفوَات ، فاحذروا من التّقصير في هذا الشّهر القصير ، وقوموا بشعائره التعبّدية وواجباتِه الشرعيّة وسننِه المرويّة وآدابه المرعيّة : ( لا يزال الناس بخير ما عجَّلوا الفِطر ) و ( فصلُ ما بين صيامِنا وصيام أهلِ الكتاب أكلةُ السحر ) ، فتسحَّروا ولو بجرعة ماء ، وكان رسول الله يُفطِر قبل أن يصلّي على رُطبات ، فإن لم تكن رطبات فتمرات ، فإن لم تكن تمرات حسا حسواتٍ من ماء ، وكان إذا أفطَر قال : ( ذهب الظمأ وابتلّت العروق وثبتَ الأجر إن شاء الله ) . ولا يقول هذا الدعاء إلا من أحسَّ بالظمأ أثناء صومه ، أما من لم يحس بالظمأ فإنه لا يقول هذا الدعاء لأنه يعتبر غير صادق في ذلك ، فهو لم يظمأ وعروقه مبتلة ، ذكر ذلك الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى . و ( من أكلَ أو شرب ناسيًا فليتمّ صومه ، فإنّما أطعمه ربُّه وسقاه ) ، ولا كفّارة عليه ولا قضاء ، لكن يجب على من رآه يأكل أو يشرب ناسياً أن يذكره بأنه صائم ؛ ولا يسكت عنه . و ( من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه ) ، ومعنى ( إيمانًا واحتسابًا ) قال الحافظ ابن حجر في " فتح الباري" : المراد بالإيمان : الاعتقاد بفرضية صومه . وبالاحتساب : طلب الثواب من الله تعالى . وقال الخطابي : احتسابا أي : عزيمة ، وهو أن يصومه على معنى الرغبة في ثوابه ؛ طيبة نفسه بذلك غير مستثقل لصيامه ولا مستطيل لأيامه . و ( من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدّم من ذنبه ) و ( من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة ) و ( مَن فطَّر صائِمًا كان له مثلُ أجره غيرَ أنّه لا ينقُص من أجرِ الصائم شيء ) و ( عمرةٌ في رمضان تعدِل حجّةً مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ) .
أيها الصائم : ليكن لك في شهر الصوم عملٌ وتهجُّد وقرآن ، وابتعِد عن خوارق الصوم ومفسداته ، واحفظ لسانك وسمعك وبصرك عمَّا حرَّم الله ، ومن بُلي بجاهل فلا يقابله بمثل إساءته ، يقول عليه الصلاة والسلام : ( الصيام جُنةٌ ، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفَث ولا يسخَب ، فإن سابَّه أحدٌ أو شاتمه فليقل : إني صائم )
معاشر الصائمين : رمضان شهر القرآن ، فيه أنزل ، وفيه تدارسه نبينا عليه الصلاة والسلام مع جبريل عليه السلام ، كان يعارضه القرآن في كل عام مرة ، فلما كان العام الذي توفي فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ، عارضه القرآن مرتين .
وكان السلف الصالح يُقبِلون على كتاب ربهم يتلونه آناء الليل وأطراف النهار ، لا يملون تكراره ، ولا يسأمون أخباره ، وكان بعض السلف يختم في كل ثلاث ليال ، وبعضهم في كل سبع ، وبعضهم في كل عشر ، وبعضهم في كل ليلتين ختمة . فاقتدوا رحمكم الله بسلفكم الصالح ، اجعلوا للقرآن حظاً وافراً من أوقاتكم ، أحيوا به الليل ، وتغنوا به في النهار ، فإنه شفيع لكم يوم العرض على الله ، كما في المسند بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة ، يقول الصيام : أي رب ، منعته الطعام والشهوات بالنهار ، ويقول القرآن : منعته النوم بالليل فشفعني فيه ، فيشفعان ) . واحفظوا صومكم من الكذب والغيبة والبهتان ، وطهّروا قلوبكم من الحسد والحقد والضغائن ، واجتهدوا في طاعة ربكم ، واحذروا ضياع أيامكم في اللهو والمحرمات ، وليكن شهركم موسمًا لفعل الخيرات ، والبعد عن السيئات . أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه ، إنّه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على فضله وإحسانه ، وأشكره على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيرًا ، أما بعد :-
فيا أيُّها الصائمون : في كل ليلة من ليالي شهر رمضان ينادي منادي يا باغي الخير أقبل ، ويا باغي الشر أقصر ، ولله عتقاء من النار وذلك في كل ليلة ، فاغتَنِموا يا عباد الله شهركم بالطاعات فهو موسم التجارة الرابحة مع رب الأرض والسماوات ، وتأسَّوا بنبيِّكم في شهر مُضاعفة الأعمال . ففي الصحيحين عن ابن عباس رضِي الله عنهما قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم أجوَدَ الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يَلْقاه جبريل فيُدارسه القُرآن ، وكان جبريل عليه السلام يَلْقاه كلَّ ليلة من رمضان فيدارسه القُرآن ، فلَرسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين يَلقاه جبريل أجوَدُ بالخير من الرِّيح المرسلة ) . فاجتهدوا يا عباد الله فيما بقي من شهركم ، فإنَّ لمواسم الخيرات اغتنامًا ، وابذلوا من أموالكم للفُقَراء والمساكين ما وجب عليكم من زَكاة ، وأنفِقوا ممَّا رزقكم الله من الصدقات والإحسان إلى المحتاجين في هذا الموسم العظيم الذي تُضاعف فيه الحسنات ، فأفضل الصدقة صدقةٌ في رمضان . والصيام لا يعلَمُ ثوابَه إلا الله ، فعن أبي هريرة رضِي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( كلُّ عملِ ابنِ آدمَ يُضاعفُ ؛ الحسنةُ بعشرِ أمثالِها إلى سَبْعِمائةِ ضِعفٍ ، قال اللهُ تعالى : إِلَّا الصَّوْمَ ؛ فإنَّه لِي ، وأنا أجزي به ، يَدَعُ شهوتَه وطعامَه من أجلِي ، وللصائمِ فرْحتانِ : فرحةٌ عند فِطرِه ، وفرحةٌ عند لقاءِ ربِّه ، ولَخَلُوفُ فمِ الصائمِ ، أطيبُ عند اللهِ من ريحِ المِسكِ ) صحيح البخاري ومسلم . وهذا من فضْل الله وكرمِه على هذه الأمَّة ، فعلينا أنْ نغتَنِم أوقاتَ هذا الشهر العظيم من صِيامٍ وصلاةٍ مفروضة ونوافل وذكر لله والإحسان إلى الفُقَراء والمحتاجين ، وغير ذلك ممَّا حَثَّ عليه نبينا صلوات الله وسلامه عليه بأقواله وأفعاله ، وبادروا بالخيرات ما دامت ممكنةً لكم وميسرةً لكم فإن الفرص لا تدوم .. ثم اعلموا أن الله أمركم بأمر عظيم فقال سبحانه وتعالى : ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) ، اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك نبينا محمّد ، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين ، وعن التابعين وتابعيهم بِإحسانٍ إلى يومِ الدّين ، وعنّا معهم بمنك وفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين . اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين ، وأذلَّ الشرك والمشركين ، ودمِّر أعداء الدين ، واجعل اللهم هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين . اللهم وفقنا لاغتنام الأوقات بالطاعات ، واجعلنا ممن يصوم رمضان ويقومه إيمانا واحتسابا . واجعله اللهم شهر عز ونصر وتمكين لأمة محمد صلى الله عليه وسلم . اللهم وأحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة . اللهم وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى ، وخُذ بناصيته للبرِّ والتقوى ، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده لما فيه عِزُّ الإسلام وصلاحُ المُسلمين يا رب العالمين . اللهم احفظ جنودنا عامة والمرابطين منهم خاصة يارب العالمين . اللهم أرحم ذلنا بين يديك واجعل رغبتنا فيما لديك ، ولا تحرمنا بذنوبنا ولا تطردنا بعيوبنا ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، وزدنا ولا تنقصنا ، اللهم اغْفرْ لنا ولوالدينا ولجميع المسلمينَ والمسلماتِ والمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهم والأمواتِ برحمتك يا أرحم الراحمين ، ( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) وأقم الصلاة .
( خطبة الجمعة 7/9/1446هـ . جمع وتنسيق خطيب جامع العمار بمحافظة الرين / عبد الرحمن بن عبد الله الهويمل للتواصل جوال و واتساب / 0504750883 )
المرفقات
1741144846_اغتنام شهر الصيام.docx