اظْفَرْ بِالثُّلُثِ تَغْنَمْ ( الجمعة1442/2/15هـ )

يوسف العوض
1442/02/12 - 2020/09/29 10:15AM
الخطبة الأولى 
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يسَّر لَنَا سُبلَ الهُدى ، وحذَّرنا مِن الغَواية والرَّدَى ، ورضِيَ لَنَا الإسلامَ دينًا ؛ فَلَهُ الْحَمْدُ أولاً وآخرًا وظاهرًا وباطنًا ودائمًا ، حمْدًا ظاهرًا عَلَى المدَى ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وحدَه لَا شَرِيكَ لَهُ ، الْمَلِكُ الْحَقُّ الْمُبِينُ وَأَشْهَد أنَّ سَيِّدَنَا محمدًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ ، وصفيُّه مِن خَلْقه وَحَبِيبُه ، وَالْهَادِي بِإِذْن ربِّه إلَى صراطٍ مُسْتَقِيم اللهمَّ صلِّ وسلِّم وباركْ عَلَيْه ، وَعَلَى آلِهِ وصَحْبه أَجْمَعِين ، اتَّقُوا اللَّهَ عِبادَ اللهِ فَإِنَّ تَقْوَاه أَفْضَلُ زَادٍ وَأَحْسَنُ عاقبةٍ فِي مَعَادٍ : ﴿ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ وبَعدُ ..

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : بعضُ النَّاس لَا يَرَى فِي الْحَيَاةِ إلَّا الجِدَّ المُرْهِقَ ، والعَملَ المُتواصِلَ ، وَآخَرُون يَرَوْنَها فُرصةً للمُتْعةِ الْمُطْلَقَةِ وَالشَّهْوَةِ المتحرِّرةِ وَكِلَاهُمَا فَاتَه الصَّوَابُ ، فَكِلَا طَرَفَي قَصَدِ الْأُمُور ذَمِيمٌ ، وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا ، وَلَيْسَ شَيْءٌ أَحْسَنَ مِنْ التَّوازُنِ وهذا مُتمثلٌ في حَيَاتِهِ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ، فعن أَبي جُحَيْفَةَ قال: آخى النَّبِيُّ صلَّى الله عليْه وسلَّم بَينَ سَلمَانَ وأبي الدَّرْداءِ، فَزَارَ سَلمَانُ أبَا الدَّرْدَاءِ، فرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً فقَال لهَا: ما شَأْنُكِ؟ قالتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ له حَاجَةٌ في الدُّنْيَا، فجَاءَ أبُو الدَّرْدَاءِ، فصَنَعَ له طَعامًا، فقَالَ: كُلْ قالَ: فَإنِّي صَائِمٌ، قَالَ: ما أَنَا بآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قالَ: فَأَكَلَ، فلَمَّا كانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ: نَمْ فنَامَ ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ من آخِرِ اللَّيْلِ، قالَ سَلْمَانُ: قُمِ الآنَ، فَصَلَّيَا، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: (إنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا ولِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ) فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فقَالَ النَّبِيُّ صلَّى الله عليْه وسلَّم: صَدَقَ سَلْمَانُ ) رواه البُخاريُّ .
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : التَوازنُ هُوَ الْخَطُّ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ ، وَيَشْمَلُ كُلَّ جَوَانِبِ الْحَيَاةِ ، تَوَازُنٌ بَيْن الْحُقُوقِ وَالْوَاجِبَاتِ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْبَدَنِ ، وَبَيْنَ الْعَمَلِ لِلدُّنْيَا وَالْعَمَلِ لِلْآخِرَةِ ، بَيْنَ الْعِلْمِ وَبَيْنَ الْعَمَلِ ، بَيْن مَصَالِحِنَا وَمَصَالِح الْآخَرِين ، وَالنَّاظِرُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وهو القُدوةُ يَجِدُ أَنَّ الثُّلُثَ -ثُّلُثُ الشَّيْءِ : هُوَ جُزءٌ من ثَلَاثَةِ أَجْزَاءٍ مُتَسَاوِيَةٍ -حَاضِرٌ فِي حَيَاتِهِ وَاضِحٌ فِي وَاقِعِه ومُكرَّرٌ فِي أَحَادِيثِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ! وَهَذَا رَاجِعٌ والعلمُ عندَ اللهِ لِمَا يَبْدُو لَنَا من الوَهلةِ الْأَوْلَى أَنَ الثُّلُثَ يُمثِّلُ التوازنَ وَالِاعْتِدَالَ وَالتوَسُطَ والخَيريةَ فَهُو جُزْءٌ مِنْ كُلٍّ ، فَلَا يَسَارَ ولا يَمِينَ ولا إفْرَاطَ وَلَا تَفْرِيطَ ، فَدعَوْنَا -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ- نَعيشُ مَنْهَجَ الْحَيَاةِ مَعَ الثُّلُثِ مِنْ خِلَالِ أَحَادِيثِه عَلَيْه الصّّلاةُ وَالسَّلَامُ في مَشاربَ شَتَّى من حَيَاتِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ..
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : جاءَ الثُّلُثُ في المَعيشةِ والنَفقةِ من حَديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :(بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ فَسَمِعَ صَوْتًا فِي سَحَابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ فَإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ (الشرجة: مسيلُ الماءِ) قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا اسْمُكَ قَالَ فُلَانٌ لِلِاسْمِ الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي فَقَالَ إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ لِاسْمِكَ فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا قَالَ أَمَا إِذْ قُلْتَ هَذَا فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثًا وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ)  رواه مُسلمٌ .
وفي الأَكلِ والشُّربِ جاءَ الثُّلُثُ في حديثِ أَبِي كَريمَةَ المِقْدامِ بن مَعْدِيكَرِب رضي الله عنه قالَ: ( سمِعتُ رَسُولَ اللَّه ﷺ يقولُ: مَا ملأَ آدمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطنٍ بِحَسْبِ ابنِ آدمَ أُكُلاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فإِنْ كَانَ لا مَحالَةَ فَثلُثٌ لطَعَامِهِ، وثُلُثٌ لِشرابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ ) رواه الترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ.

وفي القِيامِ والتَهجُّدِ جاءَ الثُّلُثُ في حديثِ عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضى الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ : ( أَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ صَلاَةُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ ، وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ ، وَيَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا ) روى البُخاريُّ ومُسلم ٌ

وجاءَ الثُّلُثُ في الوصيةِ والصَّدقةِ من حديثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله تعالى عنه قَالَ: ( قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا ذُو مَالٍ وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: أَفَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ؟ قَالَ: الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

بَارَكَ اللَّهُ لِي ولكُم فِي الْقُرْآنِ والسنَّة ، وَنَفَعَنَا بِمَا فيهِما مِنْ الْآيَاتِ وَالْحِكْمَة .


الخطبة الثانية

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ الأَمينِ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ محمدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ .

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : وفي الجِهَادِ والمَلاحِمِ كان الثُّلُثُ حَاضِراً كَما في حَديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ : ( لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ الرُّومُ بِالْأَعْمَاقِ أَوْ بِدَابِقٍ ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ مِنَ الْمَدِينَةِ ، مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ ،فَإِذَا تَصَافُّوا قَالَتِ الرُّومُ : خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الَّذِينَ سَبَوْا مِنَّا نُقَاتِلْهُمْ ، فَيَقُولُ الْمُسْلِمُونَ : لَا وَاللهِ لَا نُخَلِّي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا فَيُقَاتِلُونَهُمْ ، فَيَنْهَزِمُ ثُلُثٌ لَا يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ أَبَدًا، وَيُقْتَلُ ثُلُثُهُمْ ، أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللهِ ، وَيَفْتَتِحُ الثُّلُثُ ، لَا يُفْتَنُونَ أَبَدًا فَيَفْتَتِحُونَ قُسْطَنْطِينِيَّةَ ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَقْتَسِمُونَ الْغَنَائِمَ ، قَدْ عَلَّقُوا سُيُوفَهُمْ بِالزَّيْتُونِ ، إِذْ صَاحَ فِيهِمِ الشَّيْطَانُ: إِنَّ الْمَسِيحَ قَدْ خَلَفَكُمْ فِي أَهْلِيكُمْ، فَيَخْرُجُونَ ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ فَإِذَا جَاءُوا الشَّأْمَ خَرَجَ فَبَيْنَمَا هُمْ يُعِدُّونَ لِلْقِتَالِ، يُسَوُّونَ الصُّفُوفَ ، إِذْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّهُمْ، فَإِذَا رَآهُ عَدُوُّ اللهِ ، ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ ، فَلَوْ تَرَكَهُ لَانْذَابَ حَتَّى يَهْلِكَ وَلَكِنْ يَقْتُلُهُ اللهُ بِيَدِهِ،فَيُرِيهِمْ دَمَهُ فِي حَرْبَتِهِ ) رواه مُسلمٌ 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : الخُلاصَةُ سَعيُ الواحدِ منَّا إلى التوازنِ في حياتهِ الذي يَضْبِطُ فَضَائَلَه وَيَحْفَظُهَا مِنْ أَنَّ تَتَحَوَّلَ إلَى رَذَائِلَ ، فَهُوَ كَرِيمٌ كَرْمًا لَا يَصِلُ إلَى حَدِّ التَّبْذِير ، وشُجَاعٌ شَجَاعَةً لَا تَصِلُ إلَى حَدِّ التَّهَوُّر ، وجَرْيْءٌ جُرْأَةً لَا تَبْلُغُ بِهِ حَدُّ الْوَقَاحَةِ ، وحَذَِرٌ لَكِنَّه حَذَراً لَا يَصِلُ إلَى الْخَوَرِ وَالْخَوْفِ وَالْجُبْنِ ، مُتَوَكِّلُ عَلَى اللَّهِ تَوَكُّلًا لَا يَصِلُ إلَى حَدِّ الْإِهْمَال والدَروشةِ والتَواكلِ وَتَركِ الْأَسْبَابِ ، مُقْبِلٌ عَلَى الْآخِرَةِ إقْبَالًا لَا يُنْسِيه الدُّنْيَا وَلَا يَمْنَعُهُ عَنْ طَلَبِ رِزْقِهِ وَتَحْسِينِ أَوْضَاعِه الْمَعيشِيَّةِ وكَمَا قالَ رَبي في عُلاه : ( وَابْتَغ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارِ الْآخِرَةِ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَك مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسَن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْك ) .

وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ .


المشاهدات 1034 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا