اصْـــنَـــعْ ظِــلَّكَ

راشد بن عبد الرحمن البداح
1443/04/26 - 2021/12/01 20:35PM

الحمدُ للهِ الذي قَبِلَ مِنْ عبادِهِ اليَسيرَ، وأعطَى مِنْ فضلِهِ الكثيرَ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وأشهدُ أنْ نبيَنا محمداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ البشيرُ النذيرُ، والسراجُ المنيرُ، فصلى اللهُ وسلمَ عليهِ تسليمًا، أما بعدُ:

طلعتْ الشمسُ ورسولُ اللهِ –صلى الله عليهِ وسلم– في مجلسهِ المباركِ مع أصحابهِ، إذ أقبلَ عليه نَاسٌ مِنَ الْأَعْرَابِ قد قطعوا شُقةً بعيدةً، وهم حفاةُ الأقدامِ، عُراةُ الأجسامِ، إلا من أكسيةٍ شَقُّوا أوساطَها وشَدُّوها عليهم، أو عَباءٍ التَحَفُوها لسترِ بعضِ أجسادٍ هَزْلَى قد أمَضَّها الجَهدُ، وأضْناها الجوعُ.

نظرَ النبيُ الرحيمُ إلى هذه الأجسادِ العاريةِ المكدودةِ، فإذا بوجههِ الكريمِ يتلونُ تألماً وشفقةً. فَدَخَلَ بيتَه ثُمَّ خَرَجَ فَأَمَرَ بِلاَلاً فَأَذَّنَ وَأَقَامَ فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ حاثًا الناسَ على الصدقةِ فَقَالَ: [لا تَحْقِرَنَّ شَيْئًا مِنَ الصَّدَقَةِ] وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ. تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ.

فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا، بَلْ قَدْ عَجَزَتْ، ثم قامَ أبو بكرٍ فأعطَى، ثم عمرُ فأعطَى، ثم المهاجرونَ فأعطَوا، ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ، حَتَّى جَمَعُوا كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ، حَتَّى تَهَلَّلُ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَأَنَّهُ قطعةُ ذهبٍ -وكانَ أبيضَ وَضيئاً مُشْرَباً بحُمرةٍ-، ثم أقبلَ على أصحابهِ مشجِّعًا هذا الرجلَ المبادِرَ، فقالَ: مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ. ([1]).

نقِفُ أمامَ هذا المشهدِ المؤثرِ، إذ تستوقفُنا معانٍ مهمةٌ:

1.      يشدُّنا كثيراً مشهدُ التأثرِ والتفاعلِ النفسيِ من النبيِeحُزنًا وتألمًا، ثم فَرَحًا وإشادةً بمبادرةِ المبادِرِين الباذِلِينَ أموالَهم؛ امتثالاً لأمرِ رسولِهم، وشفقةً على إخوانِهم، ودفعًا لحاجةِ المحتاجينَ)([2]). فهنيئاً لكل مؤمنٍ رحيمٍ رقيقِ القلبِ، يقفُو أثرَ نبيهِ.

2.     أنَّ أولَ شيءٍ صنَعَه النبيُ –صلى الله عليهِ وسلم– أنْ سارَعَ إلى بيتهِ فدخَلَه، لعله يجِدُ شيئًا. ولكنْ ماذا سيجِدُ في بيتٍ يمضِي عليهِ شهرانِ تِباعاً لم تُوقَدْ فيه نارٌ؟! ولذا خرجَ وليسَ معَه شيءٌ، لكنها المشاركةُ الوجدانيةُ، فكان السابقَ إلى كلِ خيرٍ أَمَرَ بهِ.

3.   ظهرَ من صنيعِ ذلكَ الأنصاريِ أثرُ المبادرةِ الإيجابيةِ وأهميتُها، وربما كانَ عطاءُ مَنْ بعدَه أكثرُ من عطائِهِ، ولكنه كانَ سابقاً في سَنِّ السُّنةِ الحسنةِ.

4.    لا يُعرَفُ اسمُ هذا الرجلِ المبادِرِ، ولا يَضرُه ألا يُعرَفَ، فاعمَلْ وتعامَلْ مع اللهِ، ولو لم تكنْ مشهورًا أو معروفًا.

 
الحمدُ للهِ الذي رزَقَنا وآوَانا، والصلاةُ والسلامُ على من دَعانَا وهَدانَا، أما بعدُ:

فإليكمْ خمسَ فوائدَ يستفيدُها من عوَّدَ نفسَه على الصدقةِ ولو كانتْ قليلةً:

1.      بالصدقةِ نَدفعُ قحطَ الأرضِ بغيثِ السماءِ. قال -صلى اللهُ عليهِ وسلم-: صَدَقَةَ السِّرِّ تُطْفِىءُ غَضَبَ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ([3]).

2.     بالصدقةِ ننتصرُ على الشياطينِ. قال -صلى الله عليهِ وسلم-: مَا يُخْرِجُ رَجُلٌ شَيْئًا مِنَ الصَّدَقَةِ حَتَّى يَفُكَّ عَنْهَا لَحْيَيْ سَبْعِينَ شَيْطَانًا([4]).

3.   (للصدقةِ تأثيرٌ عجيبٌ في دفعِ أنواعِ البلاءِ، كالأمراضِ، ولو من فاجرٍ أو ظالمٍ، بل من كافرٍ). قالَ -صلى اللهُ عليه ِوسلم-: دَاوُوا مرضاكُم بالصدقةِ([5]).

4.    الصدقةُ تمحُو خطاياكَ. قالَ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-: الصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ([6]). (وإذا كان اللهُ –سبحانَه- قد غفرَ لزانيةٍ سَقَتْ كلبًا عطشانَ، فكيفَ بمن سقَى العِطاشَ، وأشبَعَ الجياعَ من المسلمينَ؟!)([7]).

5.     الصدقةُ ظلُّك من حَرِ شمسِ الآخرةِ. قالَ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ([8]). فاصنَعْ ظِلَّكَ من الآنَ.

أيُّها المُؤمنونَ: لِنُشَارِكْ، وَلْنُعَوِّدْ أَهْلَنا عَلى الصَّدَقَةِ، ولَوْ بِالقَلِيْلِ، ولقَدْ يسَّرَ اللهُ لنا في بِلادِنا المُبارَكةِ مِنَصَّاتٍ خَيريَّةً رسميَّةً، تقومُ بدَوْرِها الكَبيرِ في إيْصَالِ الصَّدَقَةِ للمُحْتَاجِينَ، بِطُرُقٍ تِقَنِيةٍ آمِنَةٍ، كمِنَصَّةِ "إحْسَانَ"، وخِدْمَةِ "تَيَسَّرَتْ" والتي تُعْنَى بإعَانَةِ المُعْسِرينَ، ممَّنْ صَدَرَتْ بِحَقِّهِمْ أَحْكَامٌ قَضَائيَّةٌ.

فالحَمْدُ للهِ عَلَى دَوْلَةٍ مُبَارَكةٍ تَضْبِطُ أَحْوَالَ الناسِ بِأَرْقَى الأَسَالِيْبِ، والحَمْدُ للهِ عَلَى تَقْنِيَةٍ مُرِيحةٍ وُظِّفَتْ فِي سَبِيْلِ اللهِ.

·        اللهم لكَ الحمدُ كالذي تقولُ وخيرًا مما نقولُ.

·        اللهم لكَ الحمدُ على أن صرفْتَ عنا عامةَ الوباءِ، ونسألُكَ تمامَ نعمتِكَ، ودفعَ مُتَحُوُّراتهِ –فَضلاً مِنْكَ ورحمةً-.

·        اللَّهُمَّ صُبَّ عَليْنا الخَيْر صَبَّا صَبَّا، ولا تَجْعَل عَيْشَنَا كَدَّا كَدَّا.

·        اللهم اقضِ الدَّينَ عنِ المَدِينِينَ، اللهم فرِّجْ هَمَّ المَهْمُومِيْنَ.

·        اللهمَّ وارحمْنا ووالدِينا، وهبْ لنا من أزواجِنا وذرياتِنا قرةَ أعينٍ.

·        اللهم احفظْ علينا دينَنا وأمنَنا، وحدودَنا وجنودَنا. واحفَظْ ثرواتِنا وثمراتِنا.

·        اللهم صُدَ عنا غاراتِ أعدائِنا المخذولينَ وعصاباتِهِم المتخوِنينَ.

·        اللهم وفقْ وسدِّدْ وليَ أمرِنا ووليَ عهدِه لهُداكَ. واجعلْ عمَلَهما في رضاكَ. واجزِهما على التيسيرِ على المسلمينَ، وعلى خدمةِ الحرمينِ.

·          اللهم صلِّ وسلِّمْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ.



([1])صحيح مسلم  (1017). وأما الزيادة التي بين المعقوفتين فقد رواها الطبراني في المعجم الكبير (2324)
([2]) بتصرف من شرح النووي على مسلم (7  /103)
([3])المعجم الكبير للطبراني (16362) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1908)
([4])مسند أحمد ط الرسالة (22962) والمستدرك (1521) وصححه والذهبي
([5])الوابل الصيب لابن القيم ص49. وأما الحديث فرواه البيهقي في الكبرى(3 /382) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (5669)
([6])سنن الترمذي (614) ومسند أحمد (15284)وصححه الترمذي وابن حبان وابن تيمية والذهبي وابن حجر في الأمالي المطلقة ص214
([7])من كلام ابن القيم في عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين ص216
([8])مسند أحمد ط الرسالة (17333) والمستدرك (1517) وصححه ابن خزيمة (2431)

المرفقات

1638390928_اصنع ظلك.pdf

1638390941_اصنع ظلك.doc

المشاهدات 1838 | التعليقات 0