اســــــــتـــــــغــلال الـــفــــرص
عبدالإله بن سعود الجدوع
1444/07/25 - 2023/02/16 21:56PM
الحمد لله الذي من توكَّل عليه كفاه، وحفظه ووفقه وهداه، نحمده سبحانه لا يَذِل من والاه، ولا يَعز من عاداه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله خير من توكل على مولاه، فاللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين : أما بعد: فإن خير الوصايا وأزكاها الوصية بتقوى الله تعالى؛ لأن فيها النجاة من النار والفوز بدار الأبرار (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ثم ياأَيُّهَا الكرام: المسلم الموفق هو من يسعى لكسب المقامات العليّة الأخروية ، ومن طرق كسبها استغلال الفرص المتاحة له ، وهي عديدة ومتنوعة ، فمن هذه الفرص وأولها وأعظمها: فرصة وجودنا وبقاؤنا في عداد الأحياء وفي دار المهلة ، لذلك قال نبينا ﷺ: لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ وحَاثاً لَهُ عَلَى اغْتِنَامِ فُرَصَ الحَيَاةِ «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ» أي: اظفر على وجه المغالبة وقهر النفس بخمس نِعَمٍ قبل خمس محن، فإن النعمة لا تدوم على ما هي عليه في جميع الأحوال؛ لأنه كما يقال من المحال دوام الحال.. فوجودُ الانسانِ حيّاً يُرزق، مع القوة والصحة وفسحة وقت وغنى ، ومَنحه الهداية لطاعة الله وعبادته فهذه أعظم فرصة لكسبِ الحسنات، والرُّقي في مراتب درجات الجنات، واغتنام الحياة بالتوبة والاقبال على الطاعة قبل الدخول في عداد الأموات ، فالأموات محبوسون في قبورهم نادمون على مافرطوا ، والأحياء في الدنيا يقتتلون على ماندم عليه أهل القبور ، فلاهؤلاء إلى هؤلاء يرجعون ، ولاهؤلاء بهولاء معتبرون ، والرسول ﷺ يقول : «إنَّ اللهَ يَقبَلُ توبةَ العبدِ ما لم يُغَرْغِرْ» رواه الترمذي عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وحسنه الألباني.
أيضا من الفرص الممنوحة ياكرام : وهي من التي نغفل عنها : إتباع السيئة الحسنة: وهي فرصة عظيمة لكل من وقع بذنب وإن عاد له، وذلك بأن يتوب من الذنب ويستغفر مباشرة ويعمل صالحا ، ومن رحمة الله أن جعل فرصة لمحو ذنبك وخطأك ، فقد أتيح للْعَبْدِ الْمُسْلِمِ الْمُخْطِئِ فرصة الاستغفار والعمل الصالح قَالَ الله تعالى بعد التحذير من كبائر الذنوب: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [الفرقان:70] وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِأَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا». فتأمل أيها المبارك: رحمة الله بالمذنب ومنحه الفرصة لعله يستغفر ويتوب ويعمل صالحا ، فما أجزله من عطاء.! وما أوسعه من رحمة ، وما أحسنه من فرصة .
أيها الإخوة الأكارم : ومن الفرص التي لا تعوض استغلال وجود الوالدين أو أحدهما على قيد الحياة لتبرهما وإن لم يبلغا سن الشيخوخة والضعف قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: « رَغِمَ أنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُهُ قيلَ: مَنْ؟ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: مَن أدْرَكَ والِدَيْهِ عِنْدَ الكِبَرِ، أحَدَهُما، أوْ كِلَيْهِما، ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الجَنَّةَ.» رواه الإمام مسلم فبر الوالدين من أحب الأعمال إلى الله، وقدّمه ﷺ على الجهاد في سبيل الله فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ : أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ.؟ قَالَ: «الصَلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا» قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ» قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ» رواه البخاري ومسلم ويعظم طلب البر ويزداد أجره إذا أدرك والديه حال الكبر قال الله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا* وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء: 23، 24] ولكي تعرف حجم هذه الفرصة ، اسأل من فقد والديه أو أحدهما عن حسرته وندامته من كونه يود أن يبر بهما ويمنح وقتا أكثر لوالديه وخدمتهما . فاستغل هذه الفرصة - رعاك ربي -
ومن الفرص المهمة: المبادرة بالتحلل لمن ظلمته حتى ولو كان الحدث قديما ، وذلك قبل أن تُسلب منك حسناتك يوم القيامة، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ» رواه البخاري وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ ﷺ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دِينَارٌ أَوْ دِرْهَمٌ، قُضِيَ مِنْ حَسَنَاتِهِ، لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ» رواه ابن ماجة
ومما تتحلل منه الدين حتى ولو كان قديما أو لم يطالب به صاحبه
، لأن النبي صلى الله عليه وسلم استثنى الدين من قاعدة مكفرات الذنوب ، يقول صلى الله عليه وسلم : ((يَغفِرُ الله للشهيد كلَّ شيء إلا الدَّين)) رواه مسلم وقال صلى الله عليه وسلم ((نَفْس المؤمن معلَّقةٌ بدَيْنه حتى يُقضي عنه)). وجاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من مات وعليه دين فليس بالدينار ولا بالدرهم ولكنها الحسنات والسيئات" رواه الإمام أحمد
نفعني الله وإياكم بالكتاب والسنة, وبما فيهما من الهدى والحكمة, واستغفروا الله إنه كان غفارا. ............
ومن الفرص مادمت في هذه الحياة : هي لما جَاءَ رَجُلٌ إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ فَقالَ: أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَخْشَى الفَقْرَ، وَتَأْمُلُ البَقَاءَ، وَلَا تُمْهِلَ حتَّى إذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ، قُلْتَ: لِفُلَانٍ كَذَا، وَلِفُلَانٍ كَذَا، وَقَدْ كانَ لِفُلَانٍ ) رواه الإمام مسلم بهذه الرواية ، تأمل البقاء ! ، قال الشيخ ابن عثيمين رحمة الله : هذا الرَّجلَ سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم: أيُّ الصدقة أفضل؟ وهو لا يريد أي الصدقة أفضل في نوعِها، ولا في كميَّتِها، وإنما يريد ما هو الوقت الذي تكون فيه الصدقةُ أفضلَ من غيرها، فقال له: «أنْ تَصَدَّق وأنت صحيحٌ شحيحٌ»، يعني صحيحَ البدنِ شحيحَ النفس؛ لأنَّ الإنسانَ إذا كان صحيحًا كان شحيحًا بالمال؛ لأنَّه يأملُ البقاء، ويخشى الفقر، أما إذا كان مريضًا، فإنَّ الدنيا ترْخصُ عندَه، ولا تساوي شيئًا فتهونُ عليه الصدقة. وقال أيضا رحمه الله : ففي هذا الحديث دليل على أن الإنسان ينبغي له أن يبادر بالصدقة قبل أن يأتيه الموت، وأنَّه إذا تصدَّق في حال حضور الأجل، كان ذلك أقل فضلًا مما لو تصدق وهو صحيح شحيح. ا.هـ رحمه الله بعضنا حينما يسمع داعي الصدقة .. يظن أن الكلام موجه للأغنياء ، وهذا غير صحيح ، أو أن الإنسان لايتصدق إلا في رمضان، وهو وإن كان لرمضان مزية وفضلا ، لكن الإنسان يستحسن أن يتصدق كل يوم بصدقة ، وفي الحديث ( ما مِن يَومٍ يُصْبِحُ العِبادُ فِيهِ، إلَّا مَلَكانِ يَنْزِلانِ، فيَقولُ أحَدُهُما: اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، ويقولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا.) وأبواب الصدقة كثيرة وعظيمة ،
ومن الأبواب التي تعتبر فرصة لك لتأسيسها مادمت في هذه الحياة .. الصدقة التي لاينقطع أجرها – بإذن الله – حال حياتك وهي التي يصلك ثوابها بعد مماتك، ويبرز في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم « إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ ».رواه مسلم. فالصدقة الجارية مثل بناء المساجد ، وغرس الأشجار ، وحفر الآبار ، وطباعة المصحف وتوزيعه أو المساهمة في وقف ، أو وقف بعض ملكك بأعمال الخير ونحو ذلك.
و(علم ينتفع به ) مثل تعليم القرآن الكريم والعلم الشرعي ونحو ذلك أو دعم من يعلمها ، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ( الذي يدفع ماله لتعليم القرآن هو في الحقيقة معلم للقرآن ) أ.هــ رحمه الله
والولد الصالح إذا أحسنت تربيته ودللته للصلاح والخير وهداه الله الصراط المستقيم فهو مما يستمر أجره لك بإذن الله
قال الشيخ الألباني رحمه الله : مايفعله الولد الصالح من الأعمال الصالحة فإن لوالديه مثل أجره دون أن ينقص من أجره شيء ، لأن الولد من سعيهما وكسبهما ، وقد قال صلى الله عليه وسلم ( إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه ، وإن ولده من كسبه
وفي الختام ياكرام : إن وجود الإنسان في الحياة هو أعظم فرصة للعمل الصالح والتوبة من الذنوب قبل موتك ، أو قبل ظهور بعض علامات الساعة الكبرى؛ فقد روى أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاث إذا خرجن لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض" رواه مسلم. فاغتنم حياتك قبل موتك، إنها خير كلمة جامعة في استغلال الفرص .
اللهم اجعلنا خيرا ممامضى ، ووفقنا لماتحب وترضى ، ويسر لنا البر والتقوى ، وجنبنا عن كل ماتبغض وتنهى ، يامن يحب الدعاء والنجوى، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا وَعَمَلاً صَالِحًا, ولسانا ذكرا اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنِ اسْتَمَعَ الْقَوْلَ فَاتَّبَعَ أَحْسَنَهُ, اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا, وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا التِي فِيهَا مَعَاشُنَا وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا التِي إِلَيْهَا مَعَادُنَا, اللَّهُمَّ أَصْلِحْ شَبَابَ وفتيات الْمُسْلِمِينَ وَاهْدِهِمْ سُبُلَ السَّلامِ وَخُذْ بِنَوَاصِيهِمْ للْهُدَى وَالرَّشَادِ, اللهم فرج هم المهمومين ، ونفس كرب المكروبين، واقضِ الدَّينَ على المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين واجعلنا جميعاً من المحفوظين إنك خير . اللهم وفق ولي أمرنا لكل خير ، ومد عمره في خير ، ويسر له وأعنه ووفقه لكل مافيه خير للبلاد والعباد يارب العباد اللهم اغفر لنا ولوالدينا ووالد والدينا ، اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين الأحياء منهم والمييتن يارب العالمين ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار عباد الله : ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ) فاذكروا الله واشكروه يذكركم ويزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ماتصنعون