استقبال شهر رمضان
وليد الشهري
استقبال شهر رمضان
الحمد لله الذي جعل الصيام جُنَّة، وسببًا موصلًا إلى الجَنة، ورياضًا للنفوس المطمئنة، ولجامحات النفوس أعنَّة، وجعل إدراك هذا الشهر نعمةً من الله وأيُّ نعمة؟ وأرشدنا إلى خير طريقةٍ وأقوم سنة، فضلًا من الله ومنة، أحمده تعالى وهو الحميد المجيد، وأشكره جل وعلا شكرًا يستوجب المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسولُه، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله – عباد الله – حق التقوى، فهي وصية الله للأولين والآخرين ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [النساء: 131].
أيها الإخوة... أسلم رجلان من قُضاعة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فاستُشهد أحدهما وأُخِّر الآخر سنة، فقال طلحة بن عبيد الله: فأُريت الجنة، فرأيت المؤخًّر منهما أدخل قبل الشهيد، فتعجبت لذلك، فأصبحت فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " أليس قد صام بعده رمضان وصلى ستة آلاف ركعة، أو كذا وكذا ركعة صلاة السنة " [رواه أحمد وصححه الألباني].
نعم... هنا تستشعر نعمة الله في إدراك رمضان، حيث أن خير الناس من طال عمره وحسن عمله، فاستخلافك في هذه المعمورة ابتلاء وامتحان ليُرى منك الصبر والسير على درب الطاعة ونور الإيمان .
الصيام امتثال لعبودية الله تعالى، وإذعان لأمره، وتسليم لشرعه، وترك للشهوات لمرضاته، وهي تجربة ودُربة للنفس لتكون على تأهبٍ لتحملِ المشاق، وتحملِ التكاليف، ولذلك لما أراد طالوت أن يقاتل أعداءه ابتلي قومُه بنهر، وقال لهم: ﴿فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ﴾ [البقرة: 249]، فنجح أهل الصبر وفاز من غلب هواه، وتخلف عن الجهاد عُباد الشهوات ورغبات النفس.
الصائم إذا صام ذلت نفسه لله، وانكسر قلبه، وخفّت مطامعه ولذلك تكون دعوته مظنة الإجابة لقربه من الله – عز وجل – .
ولنتذكر عظيم أجر الصيام حين تضاعف أعمال العباد إلا ما استثناه الله فقال: " إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به " [رواه أحمد، وصححه أحمد شاكر] يدل أن الجزاء لا يُعدّ ولا يُحَدّ من عِظمه وكثرته وجزالته، وهو وقاية من أسباب العذاب وجُنَّة يستجن بها العبد من النار، وهو فرصة للتطهير فكان من صامه أو قامه إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه .
إنه لما أجهد الصائم نفسه وأظمأ نهاره كان جزاؤه باب من أبواب الجنة اسمه الريان فلن يظمأ أبدا ولن ينصب فكان الجزاء من جنس العمل، ولن يشرب بعد ذلك في الجنان إلا تلذّذًا .
لنتذكر – أيها الإخوة - أن للصائم فرحتان: فرحة عند فطره لأنه أتم عبادة لله يرجو قبولها، فإن للعبادات فرحة عند إتمامها لما يتذكر المسلم توفيق ربِّه له، وهدايتَه لهذه الطاعة بينما حُرمها كثير من أهل الأرض، وفرحة أخرى هي عند لقاء ربِّه ومولاه وخالقِه، لك أن تتصور تلك اللحظات وأنت بقرب ربك في دار الرضوان، أي فرحة تغمرك؟ وأي سعادة تغشاك؟ وأي شعور يخالجك؟ يوم أن تتذكر قوله تعالى: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ﴾ [الحاقة: 24]، فهذا هو الجزاء وهذا هو الوعد، وهذه هي الغبطة لما أن يكون سعي الإنسان مشكورًا ويوم أن يعلم أن عمله كان مقبولًا.
لقد أكرم الله الصائم حين تيبس شفتاه وتتغير رائحة فمه بأن كان هذا التغير أفضل عند الله من ريح المسك وأطيب لمَّا كان ذلك بسبب العبادة والطاعة.
لقد علّم النبي صلى الله عليه وسلم الصائم وأرشده أن إذا سابه أحد أن يقول له: إني امرؤ صائم، لما يتحلى به الصائم من أخلاق وآداب وتعاليم تُربّيه أن يكون هذا الخلق دائمًا في سائر أيامه.
إن عبادة الصوم تتعامل مع قلب المؤمن قبل تعامله مع جسده بترك الطعام والشراب، إنها تربية إيمانية وتتويج النفس بسمو الروح والتعالي عن الرذائل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) [صحيح الترغيب والترهيب]، ما الفائدة إذا صام البطن عن الحلال وأفطرت الجوارح على الحرام، إن الصيام ليس تعذيبًا للعباد ولا إرهاقًا للنفوس، بل طاعة لله وسبيل للتقوى ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]، والعجب كل العجب كيف تزداد معاصي بعض الناس في هذا الشهر، بل وتسخر بعض القنوات برامجها الهدامة استعدادًا لشهر المغفرة، فأي مغفرة لأنفسهم أعدوها؟ وأي مواطن للرحمة سخَّروها؟ سبحان الله! يسأل أحدهم ربَّه في هذا الشهر الفضيل أن يعتقه من النار وهو يشاهد هذه المشاهد المحرمة التي تورث النار، وربما بعضها يستهزئ بالدين، واعجبًا!! لقد صُفدت مردة الشياطين، لكن بقيت شياطين أخرى، فأصحاب هؤلاء الدعوات والقنوات لهم شبه بقول أحدهم:
كل الشياطين باتت مصفدة = فما السبيل إذا الشيطان إنسان
رقى النبي صلى الله عليه وسلم المنبر فلما رقى الدرجة الأولى قال: آمين، ثم رقى الثانية فقال: آمين، ثم رقى الثالثة فقال: آمين، فقالوا يا رسول الله سمعناك تقول: آمين ثلاث مرات، قال: لما رقيت الدرجة الأولى جاءني جبريل عليه السلام فقال: شقي عبد أدرك رمضان فانسلخ منه ولم يغفر له، فقلت: آمين، ثم قال: شقي عبد أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، فقلت: آمين، ثم قال: شقي عبد ذُكرت عنده ولم يصل عليك فقلت آمين ) [صحيح الأدب المفرد]، وفي رواية بلفظ: (رَغِم أنف من أدرك رمضان فلم يغفر له).
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجبٍ .... حتى عصى ربه في شهر شعبانِ
ها قد أظلك شهر الصوم بعدهما .... فلا تصيّره أيضاً شهر عصيانِ
اتل الكتاب ورتل فيه مجتهداً .... فإنه شهر تسبيح وإيمان وقرآنِ
كم كنت تعرف ممن صام في سلف .... من بين أهل وإخوانٍ وجيرانِ
أفناهم الموت واستبقاك بعدهمُ حيًّا .... فما أقرب القاصي من الداني
ومعجب بثياب العيد يقطعها .... فأصبحت في غدٍ أثواب أكفانِ
حتى متى يعمر الإنسان مسكنه .... مصير مسكنه قبر لإنسانِ
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون...
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن من علامات توفيق الله للعبد أن يُرزق طاعة بعد طاعة، وحسنة بعد حسنة، فانتهاء العبد عن معاصي الله وإقباله على الطاعة منبئ – بإذن الله - عن قبول طاعته وحصول ثوابه، ففي عبادة الصوم يتعلم المسلم صوم عينه عن الحرام لمن ابتلي بذلك، لأن إطلاق العين للحرام والمعاصي عموما تُذهب حلاوة العبادة والطاعة، وتُذهب ذوقَ الإيمان وسعادةَ اليقين، ولذلك يستثقل أحدهم طول صلاة القيام، وربما لم يصبر عليها، بينما يقف مع خلانه ويكون مع أصدقاءه الساعات بلا كلل ولا ملل، كل هذا بسبب ضيق القلب بالمعاصي والذنوب التي طالما أثقلته وأرهقته.
فالكف عن المعاصي، والعفة عن الحرام يجد بها المسلم لذته التي لا تنضب، وسعاته التي لا تنقطع، لأن فرحة العاصي بعصيانه وهمية، يزينها الشيطان في نفوس أولياءه، فما ينشب العاصي بعد قضاء المعصية إلا ويجد ضيق المعصية ووصبها في قلبه.
ياصائماً عافت جوارحه الخنا .... أبشر برضوانٍ من الديّانِ
عفوٍ ومغفرةٍ ومسكن جنةٍ .... تأوي بها من مدخل الريانِ
عباد الله.. أيها الصائمون.. يا من تتقلبون في طاعته، وتتنعمون بعبادته، قد أمركم الله بالتوبة أمرًا صريحًا رفقًا بنا وبنفوسنا الضعيفة التي تزل وتقصر وتذنب فقال جل في علاه: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [التحريم: 8].
نعم إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها[رواه مسلم]، فإذا تفكر المسلم في حاله وحاسب نفسه تبينت له نفسه المقصرة، واتضحت له ذنوبه وهفواته المستمرة فاحتاج بهذه المحاسبة إلى مداومة التوبة، ومواصلة الاستغفار، فإن الله يحب التوابين، ومن كان كثير التوبة فهو صاحبُ القلب اليقظ، المتذكرُ لآخرته المتأملُ في قِصَر عمره، المتأهبُ للرحيل إلى آخرته.
المرفقات
1648749756_خطبة بعنوان استقبال شهر رمضان.docx