استقبال شهر رمضان والتهيؤ له
عبدالرحمن سليمان المصري
استقبال شهر رمضان والتهيؤ له
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي مَنَّ على عِبادِهِ بِمواسِمِ الخَيرَاتِ ؛ ليغفرَ لهم الذُنُوبَ ، ويُكفِّرَ عنهم السيئاتِ ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا . أما بعد :
أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى فهي وصية الله للأولين والآخرين، قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ النساء : 131 .
عباد الله : بعد أيامٍ قليلةٍ يُظلُّنا ضيفٌ كريمٌ ، وموسمٌ عظيمٌ ، شَهْرُ الخَيْراتِ والبركاتِ ، شَهْرُ المِنَحِ والْهِبَاتِ ، ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ البقرة : 185 ، صَوْمُهُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الإِسْلَامِ وَمَبَانِيهِ الْعِظَامِ ، شهرٌ مَحْفُوفٌ بالرحمةِ والمغفرةِ والعتقِ من النارِ ، ولِعِظَمِ مَنزِلةِ هذا الشَهر ، وجَزيلِ أَفضَالِهِ ، كانَ النبيُ ﷺ يُبشرُ أصحَابَهُ ويقول : " قَدْ جَاءَكُمْ رَمَضَانُ ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ ، افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا، فَقَدْ حُرِمَ " رواه أحمد وصححه الألباني.
قال ابن رجب رحمه الله : هَذا الحديثُ أصلٌ في تَهنئة النَّاسِ بَعضَهُم بَعضًا بِشهرِ رَمضانَ .
عباد الله : والمؤمنُ يفرحُ بحلولِ شَهرِ رَمضانَ ، لما فيهِ من إِقبالِ القلوبِ ومُضاعفةِ الأُجورِ ، وتَنوعِ القُرُباتِ ، ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ يونس: 58 .
وقال مجاهد رحمه الله عند قولهِ تعالى: ﴿ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ﴾ الحاقة:24 .
إِنَّ الأَيَّامَ الْخَالِيَةَ هِيَ أَيَّامُ الصِّيَامِ، أَيْ: كُلُوا وَاشْرَبُوا بَدَلَ مَا أَمْسَكْتُمْ عَنِ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ لِوَجْهِ اللهِ.
عباد الله : وينبغي على المسلمِ استقبالُ رمضانَ ؛ بالعزمِ على عِمارةِ الأوقاتِ بالطاعاتِ ، والمبادرةِ لفعلِ الخيراتِ ، وسُؤالُ اللهِ تعالى والابتهالِ إليهِ ، بأن يُعينَهُ على صِيامِهِ وقِيامِهِ.
كما ينبغي استقبالُ رمضانَ بالنيةِ الصادقةِ ، بإخلاصِ العملِ للهِ تعالى ، والمتابعةِ لرسولهِ صلى الله عليه وسلم ، قال عليه الصلاة والسلام :" «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " رواه البخاري .
ومعنى: إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا ، أي: إيماناً بالله عز وجل ، وتصديقاً بخبره ، واحتسابَ الأجرِ عِندهُ سبحانهُ ، لا مجردِ تَقليدٍ ، ولا مُجاملةٍ ، ولا رِياءٍ وسُمعةٍ .
عباد الله : ومما يُشرعُ من الأعمالِ في استقبالِ رمضانَ ، التوبةُ الصادقةُ ، من جميعِ الذنوبِ والخطايا ، ومن كلِ الآثامِ والرزايا ، فرمضانُ شَهرُ التوبةِ والإنابةِ والرجوعِ إلى اللهِ ، قال تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾النور:31.
عباد الله : شهُر رمضانَ خَصَّهُ اللهُ بالكثيرِ من الخصائِصِ ، وتضافرت النصوص في فضلهِ وإحسانهِ، فالصومُ سِرٌّ بينَ العبدِ وربِّهِ ، وأَجرُهُ مُضاعفٌ بلا حَدٍ ، وَثَوَابُهُ مَمدودٌ بلا حَصرٍ أو عَدٍ ، " كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ ، إِلَّا الصَّوْمَ ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ " رواه البخاري .
و" لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ " رواه مسلم .
وللصائمِ دعوةٌ مستجابةٌ " ثلاثُ دَعَواتٍ مُسْتَجاباتٌ: دَعْوَةُ الصَّائِمِ وَدَعْوَةُ المُظْلُومِ ودَعْوَةُ المُسافِرِ " رواه البيهقي وصححه الألباني في صحيح الجامع .
والصومُ شفيعٌ للعبدِ يومَ العرضِ والحسابِ " يَقُولُ الصِّيَامُ :أَيْ رَبِّ ، مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ " رواه أحمد وصححه الألباني.
" وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ " رواه البخاري.
" والصَّوْمُ جُنَّةٌ -أي وقايةٌ منَ النَّار- " رواه أحمد
و " مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللهِ ، بَاعَدَ اللهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا " رواه مسلم .
وجعلَ اللهُ باباً منْ أبوابِ الجنةِ خاصاً بالصائمين " إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ ، فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ " رواه البخاري.
وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلكَ كُلّ لَيْلَةٍ ، رواه الترمذي وصححه الألباني.
عباد الله : ومن أعظمِ ما يجبُ على المسلمِ فعلُهُ في رمضانَ ، أداءُ حُقوقِ اللهِ تعالى وحُقوقِ عِبادهِ ، من المحافظةِ على الصلواتِ ، والتبكيرِ للجُمَعِ والجماعَاتِ ، والإكثارِ من نوافلِ الذكرِ ، والصدقةِ وقراءةِ القرآنِ .
وأداءِ حُقوقِ الوالدينِ والزوجةِ والأبناءِ ، وإنجازِ أعمالِ الناسِ وقَضَاءِ حَوائِجِهِم ، وتصفيةِ النُفُوسِ من الضغائنِ والأحقادِ ، والعفوِ عن النّاسِ والبرِّ والإحسانِ ، فهذهِ حَقيقةُ التَقوَى ، وهيَ مِنْ أَجَلِّ الْحِكَمِ الَّتِي شُرِعَ لِأَجْلِهَا الصِّيَامُ .
قال تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾البقرة:183 .
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا . أما بعد :
عباد الله : رمضانُ شهرُ البركةِ ، والمغفرةِ والعتقِ من النارِ ، يَغشاكُمْ اللهُ فيهِ برحمتهِ ، فَيَحُطُّ الخَطَايَا، ويَستجِيبُ الدعاءَ ، ويَنظرُ إلى تنافُسِكمْ فيهِ ، ويُباهِي بِكُمْ ملائكتَهُ ، فَأَرُوا اللهَ من أنفسكمْ خيرًا، فإن الشقيّ من حُرمَ رَحمةَ اللهِ.
عباد الله : إن إدراكَ رمضانَ نعمةٌ منَ اللهِ تَعالَى على خلقِهِ ، فكمْ من أُنَاسٍ كانوا مَعَنَا في العامِ الماضِي ، ممّنْ أمَّلُوا أن يَصُومُوا هذا الشهرَ ، فَخَانَهُم أَمَلُهُمْ ، فسَبَقَ عَلَيْهِم الكتابَ ؛ فَصَاروا إلى ظُلْمَةِ القَبْرِ :
كمْ كُنْتَ تَعرِفُ ممّنْ صَامَ في سَلَفٍ ... مِنْ بَينِ أَهلٍ وجِيرَانٍ وخِلّانِ
أفناهُمُ الموتُ واستبقَاكَ بَعْدَهُمُ ... حَيًّا فما أَقْرَبَ القَاصِي منَ الدَّانِي
إنَّ واجبَ الأحياءِ استشعارُ هذهِ النعمةِ ، واغتنامُ هذه الفرصةِ ، ليكونَ حالُ المسلمِ في رمضان ، أفضلُ من حالِهِ قبلَ رمضان ، فالمحرومُ من حُرِمَ فَضلَ هذا الشهر ، وفي الحديث:" رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ
رَمَضَانُ ، ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ " رواه الترمذي وصححه الألباني .
عباد الله : إن من لم يحفظْ قَلبَهُ عن الحسدِ والعداواتِ ، ويَعُفَّ لِسَانَهُ عَنِ الشتائِمِ والسبابِ ، ويَغُضَّ بصرَهُ عن المُحرَّماتِ ، ويَصونَ سمعَهُ وجوارحَهُ عن الآثَامِ ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ .
قَالَ جَابِرٌ رضي الله عنه: إِذَا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ وبَصَرُكَ ، وَلِسَانُكَ عَنِ الْكَذِبِ وَالْمَحَارِمِ ، وَدَعْ أَذَى
الْخَادِمِ ، وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ وَقَارٌ وَسَكِينَةٌ يَوْمَ صِيَامِكَ ، وَلاَ تَجْعَلْ يَوْمَ فِطْرِكَ وَصَوْمِكَ سَوَاءً. رواه ابن أبي شيبة.
هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه ، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ الأحزاب :
56.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .