استقبال رمضان 1436هـ
الشيخ عصام بن عبدالمحسن الحميدان
بسم الله الرحمن الرحيم
استقبال رمضان 1436هـ
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضْلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
إنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هديُ محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]؛ أما بعد:
عباد الله: شهر رمضان المبارك شهر أمة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، تنزَّل عليها فيه كتابها؛ (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)، شهر حقق الله لها فيه كثيراً من انتصاراتها؛ (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، شهر فتح الله فيه مكة البلد الحرام، فقطع دابر الوثنية، وقوَّض بُنيانها؛ (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ)، شهر رمضان شهر جهادٍ وجلاد، وجدٍّ واجتهاد، عبادةٌ ومجاهدة، يعيشه المسلمون في حركةٍ مستمرة؛ ليس شهر رهبانية ولا بطالة، شهر صيامٍ وقيام، وذكر وشكر، ودعاء وتبتل.
الصائمون القائمون لا يعرفون الكسل ولا الملل، هم أهل القرآن، والقرآن روحٌ من أمر الله، يُحيي رميم الأمم والهمم، ونورٌ يهدي إلى السبيل الأقوم؛ (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).
لقد قاد القرآن العزيز خُطَى هذه الأمة فجعلها خير أُمةٍ أخرجت إلى الناس، وجعلها الشاهدة على الأمم، والأمينة على القيم؛ فاستنقذت البشرية بإذن ربها من الظُلَم؛ (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا).
ولا يزال هذا الكتاب غضاً طرياً كما نَزَل، ولا يزال قادراً على تجديد شأن الأمة في أفرادها وجماعتها، يبعث فيها روح الحياة كلما خبت جذوتُها، أو ضعفت همَّتها، والارتباط بين شهر رمضان وتنزّل القرآن له دلالات كبيرة.
أيها المسلمون: الصوم ترويضٌ للغرائز، وضبطٌ لما في النفس من نوازع، الموفَّقون هم الذين يتجاوزون الصعاب، ويأخذون بالعزائم، ويفطِمون نفوسهم عن كثيرٍ من الرغائب، والطريق إلى المجد العالي لا يكون إلا بركوب المصاعب، ومن أجل هذا فإن الصائم يجوع وهو على الطعام قادر، ويدع الماء وهو إلى الشراب محتاج، ولا رقيب عليه إلا الله، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجل الله.
في الصيام الحق الألسنة صائمة عن الرفث والجهل والصخب، والآذان معرضة عن السماع المحرم، والأعين مصونة عن النظر المحظور، القلوب كافة لا تعزم على إثمٍ أو خطيئة، وفي المقابل فإن ضعيف الإرادة وقليل المحاسبة يقع أسير شهواته، وعبد مشتهياته، لا تنتهي مطامعه، ولا تنقضي مطالبه، يجرُّه الشيطان إلى كل منحدر، وتهيم به النفس الأمَّارة بالسوء في كل وادٍ، ويتمزق كل مُمَزَّق، يتردى في التهلكة، ويعيش في دروب الشقاء إن لم تتداركه رحمة الله.
إن الصيام جُنَّة، وغاية الصيام عند الصائمين أن تصوم الجوارح كلها، لم يكن الصيام منعاً من المفطرات الحسية من الطعام والشراب والشهوة، ولكنه إلى جانب ذلك كفٌ عن مساوئ الأخلاق، وترفعٌ عن سفاسف الأمور؛ "الصيام جُنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتله فليقل: إني صائم، إني صائم"·
ذكر أهل العلم أن جِماع المخالفات يتأكد في أمورٍ أربعة: فضول الكلام، وفضول النظر، وفضول المخالطة، وفضول الطعام…وحظ الصائم من صيامه بمقدار ضبطه في ذلك وانضباطه.
أما الكلام؛ فميزانه التوجيه النبوي الكريم: "مَن كان يؤمن بالله واليوم والآخر فليقل خيراً أو ليصمت"، و "مَن ضمن ما بين لحييه وما بين رجليه ضمنتُ له الجنة" ولقد قال بعض السلف: ما عقل دينه من لم يحفظ لسانه.
ومعلوم أن الكذب، والغيبة، والنميمة، والنفاق، والفحش، والمراء، وتزكية النفس، والخوض في اللغو، والكلام فيما لا يعني، والتحريف في القول، كله من طريق اللسان. ومن أجل هذا كان السلف إذا صاموا جلسوا في المساجد، يقولون: نحفظ صيامنا.
أما فضول النظر: فإنه يورث حسرة وحُرقة، ويُذهب نور البصيرة، ويعلق الصائم بالتافهين والتافهات في القنوات... ولذلك خير للصائم في رمضان أن يجهل ما يقدم للصائمين في الشاشات من أن يعلمه، ولذلك كان الاعتكاف في رمضان خاصة لتحقيق هذا الحفظ؛ إنه حفظ القلب وليس حفظ النظر.
أما فضول الخلطة: فلا تكون السلامة منها إلا باجتناب من إذا تكلم لا يفيد، وإن سكت فأثقل من الرحى لا يُطاق حمله، ولا يُستطاع دفعه، وساعات رمضان عزيزة غالية، لا يليق أن ننشغل عنها بالقيل والقال وكثرة التواصل والاتصال بالنت والجوّال فيما أكثره لا يقرب من الآخرة النوال.
أما فضول الطعام: فالقائد إليه شهوة البطن، وما أخرج الأبوَين من الجنة إلا الرغبة في الأكل من الشجرة، فغلبتهما شهوتهما فأكلا، فبدت لهما سوءاتهما، والبطن ينبوع الشهوات، والمعدة منبت الأدواء والآفات، وما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطن. وخير معالج له الصوم الرباني.
قلت ما سمعتم ولي ولكم فاستغفروا الله ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إلا هو إليه المصير، كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه؛ أما بعد:
أيها المسلمون: رمضان شهر المعاناة، الإحساس بالجوع والعطش لله -تعالى-، وقد جاء في الحديث الحسن؛ "من أعطش نفسه لله في يوم صائف سقاه الله يوم العطش"(رواه البزار).
ومعاناة إخواننا المسلمين في أقطار الأرض يعظّم لهم الأجر مع صيامهم، وعلى رأسهم المرابطون في فلسطين، الذين يتصدّون للعنجهية الصهيونية بأجسادهم الجرداء، أكثر من خمسين قتيلاً في أسبوع واحد!! بسبب مطالبات بالحقوق واحتجاجات، ثم يدّعون أنهم دولة أوروبية في الشرق الأوسط!!
في الدول الأوربية المتحضّرة كلها كل يوم مطالبات واحتجاجات واعتصامات وإضرابات ولم يقتل شخص واحد بسبب ذلك؛ ولكن أين هذه العصابة الهمجية من حقوق الإنسان والديمقراطية والتمدّن؟ يسلبون الأرض من أهلها ويهجرونهم ويسكنون بدلهم الدخلاء ويعتدون على المقدسات ويضربون بالقرارات الأممية عرض الحائط ثم يدّعون التمدّن والحضارة. هنيئاً لكم يا أبناء فلسطين المرابطين البررة، هنيئاً لحرّاس الأقصى، هنيئاً لأمهات الشهداء وأجيال القدس..
نعم أنتم جذوة المعاناة الإسلامية، ومعكم المسلمون في اليمن وجوعهم، والمسلمون في بورما وقتلهم وتهجيرهم، والمسلمون في الشام وحرقهم وتهجيرهم، يصومون على الخوف ويفطرون على الجوع، ولكن الله معهم بإذن الله وهو ناصر المستضعفين من المؤمنين؛ (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ).
عباد الله: (إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، وقال صلى الله عليه وسلم؛ "إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة"، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة؛ فأكثروا علي من الصلاة فيه؛ فإن صلاتكم معروضة علي"، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ.
اللهم أمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل هذا البلد آمناً مباركاً وجميع بلاد المسلمين.
اللَّهُمَّ إنَّا نَسْألُكَ مُوجِباتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزائِمَ مَغْفِرَتِكَ، والسَّلامَةَ مِنْ كُلِّ إثمٍ، والغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ، والفَوْزَ بالجَنَّةِ، والنَّجاةَ مِنَ النَّارِ.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل بلادنا آمنةً مطمئنة وسائر بلاد المسلمين.