استقبال رمضان.. بالتوبة والعزم على الإحسان

محمد بن عبدالله التميمي
1444/08/24 - 2023/03/16 00:30AM

 

الخطبة الأولى

الحمد لله خَلَقَ فَأَحْكَمَ غاية الإتقان، وفضّل بعضًا على بعضٍ في الزمان والمكان والأعيان، ومِن ذلك أنْ جَعَلَ سَيَّدَ الشهورِ شهرَ رَمضان، فَضَاعَفَ فيه المثوبةَ وهو ذو الفضلِ والإحسان، أشهد ألا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له الملكُ الديّان، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه سيدُ ولدِ عدنان، أُسوةُ كلِّ من يرجو اللهَ والدارَ الآخرةَ والرِّضوان، وقُدوةُ كلِّ متعبِّدٍ بالصيام والقيام وطلبِ الغُفران، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وكلِّ تابعٍ بإحسان، أما بعد:

فاتَّقُوا اللَّهَ فِي شَهْرِ رَمَضانَ فَإنَّ الحَسَناتِ تُضاعَفُ فِيهِ ما لا تُضاعَفُ فِيما سِواهُ، فاغتنموا فِي هَذا الشَّهْر الـمُكرَّم هَذا الثَّوابَ الـمُعظَّم، ولا تَقْطَعُوا نَهارَه بالغيبةِ وقُبحِ الكَلام، وتَغْفَلُوا فِي ليله عَن طولِ القيام، وتُفطروا فِيهِ على السُّحت والحرام، وتصوموا بجارحة واحِدَة وتُهملوا سائِر جوارحكم فِي المعاصِي والآثام {إن الله عَزِيز ذُو انتقام}.

عباد الله.. كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَشِّرُ أصحابَه بقُدوم رمضان، كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَشِّرُ أَصْحَابَهُ وَيَقُولُ: «قَدْ جَاءَكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ قَدِ افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، وَفِيهِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ».

وهذا الحديث -كما يقول ابن رجب- أصلٌ في تهنئة الناس بعضِهم بعضًا بشهر رمضان، كيف لا يُبَشَّرُ المؤمنُ بِفَتْحِ أبواب الجنان، كيف لا يُبَشَّرُ المذنبُ بِغَلْقِ أبواب النيران، كيف لا يُبَشَّرُ العاقل بوقت يغل فيه الشيطان. من أين يشبه هذا الزمان زمان؟!

جاء عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ: «مَرْحَبًا بِمُطَهِّرِنَا، فَرَمَضَانُ خَيْرٌ كُلَّهُ صِيَامُ نَهَارِهِ وَقِيَامُ لَيْلِهِ».

قال معلى بن الفضل: كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم. وقال يحيى بن أبي كثير: كان من دعائهم اللهم سلمني إلى رمضان وسلم لي رمضان وتسلمه مني متقبلا.

عباد الله.. إنَّ بُلوغَ شهرِ رمضانَ وصيامَه نعمةٌ عظيمةٌ على من أَقْدَرَهُ اللهُ عليه، عن أبي هريرة قال: كان رجلان من بلى من قضاعة أسلما مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واستشهد أحدهما وأُخِّر الآخر سنة قال طلحة بن عبيد الله: فأريت الجنة فرأيت فيها المؤخر منهما أدخل قبل الشهيد فعجبت لذلك فأصبحت فذكرت ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو ذُكر ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أليس قد صام بعده رمضان، وصلى ستة آلاف ركعة أو كذا وكذا ركعة صلاة السنة»، قالوا: بلى، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فما بينهما أبعدُ مما بين السماء والأرض».

عباد الله.. كم ممن أمّل أن يصومَ هذا الشهرَ فَخَانَهُ أَمَلُه، كَمْ مِن مُستقبلٍ يومًا لا يَسْتَكْمِلُه، ومُؤمِّلٍ غدًا لا يُدْرِكُه، إنكم لو أبصرتم الأجل ومَسِيْرَه لأَبْغضتم الأملَ وغرورَه، ادعوا ربَّكم أن يُبلِّغكم رمضان وأنتم في عافيةٍ، وانْوُوا أنْ تَعْمَلوا فيه صالحًا، فإنَّ النِّيَّةَ روحُ الأعمالِ ومُبلِّغةُ الآمال… اللَّهم بلِّغنا رمضان ونحن في عافيةٍ، وأعنَّا فيه على الأعمال الصَّالحات.

عباد الله.. اغتنموا بركَة هَذا الشَّهْر العَظِيم المَخْصُوص بالتفضيل والتكريم، فالواجِب على من عرف قدر هَذِه النِّعْمَة أن يَحْفَظَها من التَّخْلِيطِ والالتباس، وأن يَكُفَّ أذاهُ عَن جَمِيع النّاس، وأن يَحذرَ لَغْوَ الكَلام، ولا يُبْطِلُ فَضْلَ الصّيام.

شهرُ رمضان.. شهرُ نزولِ القرآن، شهرُ الشفاعةِ بالصيامِ والقرآن، شهرُ التراويحِ والتهجدِ والقيام، شهرُ التوبةِ وتكفيرِ الذنوبِ والعصيان، شهرُ تُصفيدِ مَرَدَةِ شياطين الجان، شهرٌ تُغلَّقُ فيه أبوابٌ جهنمَ وتُفْتَحُ أبوابُ الجنان، شهرُ العتقِ من النيران، شهرُ الجودِ والإحسان، شهرٌ فيه ليلة القدر، هي خيرٌ من ألف شهر، شهرٌ تُضاعَفُ فيه الحسنات والأجر، شهرُ الدعاءِ وإظهارِ الذُّلِّ لله والحاجةِ والفقر، شهرُ الصبر والشكر.

فَهَلُمَّ يا باغيَ الخير وطالبَ رضوان ربه وأعالي الجنات، وأَقْصِر يا غارقا في الشهوات، ملتهيًا بالملذات، وكلنا ذاك المقصِّر فعلام للتوبة نؤخِّر، والله قد حكم على كل من لم يتب أنه ظالم، والله لا يجب الظالمين {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، يا من دامت حسرته على الخسارة، قد أقبلت أيام التجارة، وإن محبَّة الخير للنَّاس، وترغيبهم فيه، وتقريبه إليهم؛ علامةٌ على متانة الدِّين، وطِيْبِ النَّفس، وكمالِ العقل، وصدقِ النُّصح، فاغتنموا قرب رمضانَ في حثِّهم على الخير، ودلُّوهم إلى أبوابه، ويسِّروا لهم سبله، فإنَّ لكم مثلَ أُجورِهم.

بارك الله لنا في الوحيين، وجعلنا عبادا مرضيّين، ووفقنا لصالح العمل وجعلنا مستقيمين، وغفر لنا وللمسلمين أجمعين.


 

الخطبة الثانية

الحمد للهِ ذي الفضل والإنعام، أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن محمدا عبدُ الله ورسولُه أفضل مَن صام وقام، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله في صيامكم وقياكم أن يكون القصد بهما طلب رضا الله بعد كمالِ التصديقِ بهما وبالموعود عليهما، فقَدِ اشْتَرَطَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ وَصِيَامِ النَّهَارِ الْإِيمَانَ وَالِاحْتِسَابَ، وَالْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الثَّوَابِ، وَالِاحْتِسَابُ أَنْ يَكُونَ مُقْبِلًا عَلَيْهِ، خَاشِعًا لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا أَرَادَ الْعَبْدُ أَنْ يَنَالَ الثَّوَابَ وَالْفَضَائِلَ الَّتِي ذَكَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ حُرْمَةَ الشَّهْرِ، وَيَحْفَظَ فِيهِ لِسَانَهُ وجَوَارِحَهُ وقَلْبَهُ.

عباد الله.. اجتهدوا في حفظ صيامه، وإحسان قيامه، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل صلاة القيام كما قالت عائشة رضي الله عنها: «فلا تسأل عن حسنهن وطولهن»، ولا يُفوّتنَّ المرءُ صلاة القيامِ مع إمامه فإنه يُدرك بذلك أجرَ قيامِ ليلة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى بأصحابه في رمضان: «إِنَّهُ مَنْ قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ»، ولْنَكُنْ عونًا للإمام في طول صلاة القيام وحسنها، والركود في ركوعها وسجودها، فإنما هي ليالٍ معدودات، وسيبقى وقتٌ كثيرٌ للمُتَع والراحات، والسعيد من عرف قدر وقته، وعمره بعبادة الله وطاعته.

عباد الله.. وإن الصدقة في هذا الشهر عامة فضلها عظيم، فالله يقلبها ويُرَبِّيها تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ، ويُخلفُ المتصدِّق خيرا، فيُبسَطُ له في رزقه، ويُؤخَّرُ في عُمُرِه، ويُوفَّقُ في عَمَلِه، ويُصدِّقُ إيمانَه، ويَظهرُ برهانُه، وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلةٍ من رمضان فيُدارسه القران فلَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجودُ بالخير من الريح المرسلة. فالله اللهَ بالجود والإحسان في شهر رمضان، من واجبٍ في المال وهو زكاتُه، ومِن نفلٍ وفضلٍ به نَمَاؤُه، يجود بالفرض بطيْبِ نفسٍ مَحقِّقِي أركانَ الإسلام، ويتزودُ بالنفل أهلُ الفضل والإيقان، فأروا الله من أنفسكم خيرا، وابتغوا عند الله أجرا، فإن الله لا يُضيْعُ أجرَ المحسنين.

وإن أهل الزكاة قد سماهم الله وهم ثمانية، فتحرَّوا أهلها ولا تجاملوا فإنكم غدا تُعرضون لا تخفى منكم خافية، وإن الغارِمين المساجين في الديون، مِن أوثق مَصْرِفٍ إليه الزكاة تُوجِّهون، عَبْرَ المنصات الرسمية لا إلى مَنْ يدَّعون.

المشاهدات 4622 | التعليقات 0