ازرَعْ ولا تَقْطَعْ ( وورد + نصي )

راشد بن عبد الرحمن البداح
1439/02/06 - 2017/10/26 19:11PM

7/2/1439هـ  الحمد لله الذي أظهر لعباده من آياته دليلاً، وهدى من شاء من خلقه فابتغى إلى نجاته سبيلاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المتفرد بالخلق والتدبير جملة وتفصيلاً، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أبلغ الخلق بيانًا، وأصدقهم قيلاً، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه المقتفين محبة وتبجيلاً، أما بعد: فلنتق الله ربنا الذي خلقنا وضمن لنا رزقنا؛ فلن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، لكن هذا الرزق لا يأتي إلا بفعل السبب بالسعي في الأرض وكسب الحلال [هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ  ]، وهذا هو التوكل الحقيقي على الله، وأما القعود عن العمل فهو التواكل وجالب المشاكل.

وهل يمكن أن يمارس الإنسان عملاً أخرويًا من داخل العمل الدنيوي؟

الجواب: نعم بلا ريب، واسمعوا لهذه القصة الصحيحة التي قصها النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم – حيث قالَ: بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ فَسَمِعَ صَوْتًا فِي سَحَابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ. فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ، فَإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: فُلاَنٌ. لِلاسْمِ الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ، لاسْمِكَ، فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا؟ قَالَ: أَمَّا إِذْ قُلْتَ هَذَا فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ، وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثًا، وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ. وَفِي رِوَايَةٍ: وَأَجْعَلُ ثُلُثَهُ فِي الْمَسَاكِينِ، وَالسَّائِلِينَ، وَابْنِ السَّبِيلِ. رواه مسلم.

وقد مدح نبينا صلى الله عليه وسلم نبيَ الله داود أنه: ( كَانَ لَا يَأْكُل إِلَّا مِنْ عَمَل يَده. وخص داود بالذكر؛ لأنه - مَعَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ دَوَابّ تُسْرَج، وَيَتَوَلَّى خِدْمَتهَا غَيْره، وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ لَا يَأْكُل إِلَّا مِمَّا يَعْمَل بِيَدِهِ)([1]). وَتَقْدِيمُ عَمَلِ الْيَدِ عَلَى الْبَيْعِ الْمَبْرُورِ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ الْأَفْضَلُ([2]).

 [مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ ]  قال العلماء: دلَّت هذه الآية على أنَّ حرفة الزَّرع من أعلى الحرف، التي يتخذها الناس؛ لأن الزراعة فيها توكل على الله، وفيها إطعام لخلق الله حتى النمل تأكل من الحبوب الساقطة من هذه النباتات فيؤجر على ما أكله النمل والطير فضلاً عما أكله البشر من زرعه، وعلى ما أخذ من ماله وما أتلفَته الدابة([3]).

عباد الله: هذا كله من الحث على إعمار الأرض وعلى الحض على العمل وذم البطالة والكسل والحرص على إغناء النفس والأهل، وابتغاء مرضاة الرب جل وعلا في كل ذلك.

ولا أدل على الحض على العمل من هذا الحديث. وتأملوا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: إِنْ قَامَتْ السَّاعَةُ، وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ؛ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ. رواه الإمام أحمد([4]).

(الفسيلة) هي النخلة الصغيرة. فيا عجبًا: لمن سيغرسها والدنيا قد انتهت؟! والجواب الحتم أن ربنا يريدنا أن نعمل أن نعمر الأرض وأن نغرس، وأن ننتج، لا أن نخرب أو ندمر أو ننام ونتقاعس. ولذا قال عبد الله بن سلام رضي الله عنه: إنْ سِمعتِ بالدَّجَّالِ قَد خَرجَ وأَنتَ عَلى وَدِيةً تَغرِسُها فَلا تَعجَل أنْ تُصلِحَها ، فَإنَّ للنَّاسِ بَعد ذَلك عَيشاً([5]).

وفي المقابل فقد نهى ربنا سبحانه وتعالى عن الإفساد في الأرض فقال: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ}.

ولَمَّا بَعَثَ أَبُو بَكْرٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ جيشًا إِلَى الشَّامِ خَرَجَ يُوصِيهِم بوصايا ..منها أنه قَالَ: ..وَلاَ تُخَرِّبُوا عُمْرَانًا وَلاَ تَقَطَّعُوا شَجَرَةً إِلاَّ لِنَفْعٍ..([6])

وبعض الناس يتصور أن الظلم مع الأحياء، ولكن الظلم يقع حتى مع الجمادات، فمن قطع شجرة رطبة عبثاً أو يستظل الناس بها فهو ظالم للجماد والإنسان.

______2______

فتأكيدًا لما مضى من خلال نصوص الشرع نتبين أمرين جليلين، هما

الأول: أن الشرع جاء حاثًا على التشجير: دعا الإسلام إلى التخضير والتشجير. وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِم أَنَّ نَبِيّ اللَّه e رَأَى نَخْلًا لِأُمِّ مُبَشِّر اِمْرَأَة مِنْ الْأَنْصَار فَقَالَ: مَنْ غَرَسَ هَذَا النَّخْل، أَمُسْلِم أَمْ كَافِر؟ فَقَالُوا: مُسْلِم، فَقَالَ لَا يَغْرِس مُسْلِم غَرْسًا فَيَأْكُل مِنْهُ إِنْسَان أَوْ طَيْر أَوْ دَابَّة إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَة " وَفِي رِوَايَة لِمُسْلِمٍ" إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة"([7]).

وإليكم يا أصحاب الزرع والمزارع هذه البشرى، فقد قال العلماء عند هذا الحديث: وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ أَجْر ذَلِكَ يَسْتَمِرّ مَا دَامَ الْغَرْس أَوْ الزَّرْع مَأْكُولًا مِنْهُ وَلَوْ مَاتَ زَارِعه أَوْغَارِسه وَلَوْ اِنْتَقَلَ مِلْكه إِلَى غَيْره([8]).

الأمر الثاني: أن شريعتنا الغراء حذرت من انتهاك الغطاء النباتي عمومًا، والأشجار خصوصًا والأخذ على أيدي السفهاء العابثين بالبيئة، القاطعين للأشجار المثمرة أو التي يستظل بها بلا عذر، أو قطع الأشجار الرطبة عن طريق الاحتطاب الجائر.

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: مَنْ قَطَعَ سِدْرَةً صَوَّبَ اللَّهُ رَأْسَهُ فِى النَّارِ([9]).

والسدرة هي شجرة النبق. وقد قال أَبُو دَاوُدَ عَنْ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ: يَعْنِى مَنْ قَطَعَ سِدْرَةً فِى فَلاَةٍ، يَسْتَظِلُّ بِهَا ابْنُ السَّبِيلِ وَالْبَهَائِمُ؛ عَبَثًا وَظُلْمًا بِغَيْرِ حَقٍّ.

وهذا غير مختص بالسِّدر، بل عامٌّ في شجر يستظل الناس والبهائم بالجلوس تحته([10]).

(صَوَّبَ اللَّهُ) أَيْ أَلْقَاهُ عَلَى رَأْسِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَهَذَا دُعَاءٌ أَوْ خَبَرٌ([11]).

قَالَ أَحْمَدُ: أَكْرَهُ قَطْعَ السِّدْرِ، وَقَالَ: مْنَ قَطَعَهُ لَمْ يَرَ مَا يُحِبُّ فِي الْعَاجِلِ([12]).

ومما ذكره أهل التاريخ: أن وجيهًا معه حشمه وخدمه اجتازوا بعربة فِي مكان فِيهِ أغصان سِدرة للمسجد، فعاقتهم عن جَرِّ العربة، فأمر بقطع السِّدرة أَوْ بعضها، فحذروه من ذَلِكَ وذكروا لَهُ حديث:  مَنْ قَطَعَ سِدْرَةً صَوَّبَ الله رأسَهُ فِي النَّار. فتمادَى عَلَى قطع بعضها، فما أُمْهِلَ، بل قُتل تِلْكَ السنة([13]).

ألا فلنغرس ولنشجر، ولنقضِ على التصحر، ولنحذِّر من الاحتطاب والرعي الجائر، ومن قطع الأخضر النبات، أو وطئه بالسيارات، وإن من المشاريع المشكورة في بلادنا تلك تلك الحملة التي انطلق بمحافظتنا أمس؛ إيذانًا بغرس ثلاثين ألف شتلة وسدرة، فجزى الله كل الساعين بهذا الخير خيرًا.

هذا واعلموا -رحمكم الله- أن من أفضل الطاعات، وأشرف القربات، كثرةَ صلاتكم وسلامكم على خير البريات:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ..

  • اللهم واشف مرضانا وارحم موتانا، وارحمنا في مثوانا.
  • اللهم انصر إخواننا المجاهدين المرابطين بالجنوب.
  • اللهم احفظ جنودنا في حدودنا وجماركنا وشوارعنا.
  • اللهم طيب أقواتنا، ووفق ولاتنا، واجمع على الهدى شؤوننا، واقض اللهم ديوننا.
  • اللهم وفق إمامنا وولي عهده بتوفيقك.
  • اللهم وفقنا للصالحات قبل الممات، وأرشدنا إلى استدراك الهفوات، من قبل الفوات.
  • اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو نغير ديننا. اللهم ولا تنزع عنا الإسلام بعد إذ أعطيتناه.
  • اللهم لا تجعلنا بدعائك أشقياء، وكن بنا رءوفًا رحيمًا، يا خير المسئولين، ويا خير المعطين.

 

([1])فتح الباري لابن حجر (10/215)

([2])سبل السلام (4 / 51)

([3])تفسير اللباب لابن عادل (3/293)

([4]) مسند أحمد (12981) والبخاري في " الأدب المفرد "(479) . وصححه الضياء في  المختارة (3/ 169) والمناوي في التيسير (1/ 372) والألباني في السلسلة الصحيحة (9) وحسنه العيني في عمدة القاري شرح صحيح البخاري (18/ 428)

([5])الأدب المفرد بالتعليقات (ص: 110)

([6])السنن الكبرى للبيهقي. ط المعارف بالهند (18614)

([7])صحيح مسلم (4051-4050)

([8])فتح الباري لابن حجر (7/ 167)

([9])سنن أبي داود (5241) وصححه الضياء في الأحاديث المختارة (215). وعلي ملا قاري في الأسرار المرفوعة (ص: 485) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 358): رجاله ثقات. وجوَّده ابن مفلح في الآداب الشرعية (3/ 426). وحسنه السيوطي والمناوي كما في التنوير شرح الجامع الصغير (7/ 577). قال البيهقي في السنن الكبرى (6/ 140): روي بإسناد آخر موصولاً إن كان محفوظاً.

([10])شرح المصابيح لابن الملك (3/478) ومرقاة المفاتيح لملا علي قاري(5/1985).

([11])عون المعبود وحاشية ابن القيم (14/ 103).

([12])المنتخب من علل الخلال لابن قدامة (1/ 76).

([13])رفع الإصر عن قضاة مصر (ص: 427) والمواعظ والاعتبار للمقريزي (4/ 338).

المرفقات

ولا-تقطع

ولا-تقطع

المشاهدات 1285 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا وأحسن إليك.. 

للرفع بمناسبة التعميم