ارْتَقِ بِخُصُومِكَ ( الجمعة 1442/3/6هـ )

يوسف العوض
1442/03/03 - 2020/10/20 09:05AM
الخطبة الأولى
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : الْخُصُومَةُ وَالْخِلَافُ طَبِيعَةٌ عِنْدَ الْبَشَرِ قالَ تَعالى : ( وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ) فَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي خَيْرِ الْقُرُونِ غَيْرَ أَنَّ خِلَافَهم لا يَطولُ ولا يَدومُ ، وَهُنَا قصَّةٌ رَائعةٌ مَاتعةٌ تشْتَمِلُ عَلَى أَخْلَاقِ الكِبار وَفَضَائِلِ العِظامِ  مِنْ صَحْبِ الرسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ورضي اللهُ عنهم .
هَذِهِ الْقِصَّةُ يَرْوِيهَا أَبُو الدَّرْدَاءِ -رضي اللَّهُ تَعَالَى عنه- يَقُولُ : (كانت بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي اللَّه عنهما محاورةٌ  فَأَغْضبَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ ؛ فَانْصَرَف عَنْهُ عُمَرُ مُغضباً ، فَأَتْبَعَه أَبُو بَكْرٍ يَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ ، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى أَغْلَقَ بَابَهُ فِي وَجْهِهِ ، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : وَنَحْنُ عِندَه) وَفِي رِوَايَةٍ : (أقبل أَبُو بَكْرٍ آخذاً بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَن رُكْبَتِه فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَّا صَاحِبُكُم فَقَد غَامَر فَسَلَّم وَقَال : أَنَّهُ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَيْءٌ فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ ، ثُمّ نَدِمْت ، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي ، فَأَبَى عليَّ فَأَقْبَلْتُ إلَيْك ، فَقَال : يَغْفِرُ اللَّهُ لَك يَا أَبَا بَكْرٍ ثَلَاثَة ، ثُمَّ إنَّ عُمَرَ نَدِمَ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ ، فَسَأَل : أثمَّ أَبُو بَكْرٍ ؟ فَقَالُوا : لَا ، فَأَتَى إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتمعَّرُ حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ ، فَقَال : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! وَاللَّهِ إِنَّا كُنْتُ أَظْلَمَ مَرَّتَيْن ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إلَيْكُمْ فَقُلْتُم : كَذَبْت ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : صَدَقْت ، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُون لِي صَاحِبِي ، فَمَا أُوذِي بعدها) رَواه البُخاريُّ . 
أيُّها المُسلِمون : هَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ وُقُوعُ شَيْءٍ مِنْ الْخِلَافِ كَمَا يَقَعُ بَيْنَ الْبَشَرِ طبعا فقد وَقعَ بَيْنَ وَزِيرَي النبيِّ عَليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بين أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ  رَضِيَ اللَّهُ عنهما ، فَأَخْطَأ أَبُو بَكْرٍ فِي حَقِّ عُمَرَ ثُمَّ نَدِمَ أَبُو بَكْرٍ ، فَأَرَادَ أَنْ يَستسمحَ مِنْ عُمَرَ « فتأبَّى عَلَيْه » فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاسِرًا ثَوْبَهُ عَنْ رُكْبَتِه فَلمَا رَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ قَال : « أَمَّا صَاحِبَكُم فَقَد غَامَر » يَعْنِي دَخَلَ فِي غَمْرَةِ الْخُصُومَةِ وَقِيل سَبَق بِالْخَيْر فَسَلَّم أَبُو بَكْرٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَلَسَ إلَيْه وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ ، وَقَال : كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ بْنِ الْخَطَّابِ شَيْءٌ مِنْ الْمُحَاوَرَةِ وَالْمُرَاجَعَةِ والمُقاولةِ والمُعاتبةِ فأسأتُ إلَيْه ، أَي فأغضبتُه ، أَيْ أنَّ أَبَا بَكْرٍ أَغْضَبَ عُمَرَ ، فَانْصَرَف عَنْه مُغْضَبًا فَأَتْبَعَه أَبُو بَكْرٍ ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ : ثُمَّ نَدِمْتُ عَلَى مَا كَانَ فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي أَيْ أنْ يَسْتَغْفِرَ لِي فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى أَغْلَقَ بَابَهُ فِي وَجْهِي فَأَبَى ، وَفِي رِوَايَةٍ : « فَتَبِعْتُه إِلَى الْبَقِيعِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ دَارِهِ وَتَحَرَّز مِنِّي بِدَارِه » فَاعْتَذَر أَبُو بَكْرٍ إلَى عُمَرَ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « يَغْفِرُ اللَّهُ لَك يَا أَبَا بَكْرٍ » « ثَلَاثًا » ثُمَّ إنَّ عُمَرَ نَدِم فَذَهَبَ إلَى بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِكَي يصافيه وَيَعْتَذَرُ مِنْه فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا : خَرَجَ مِنْ الْمَنْزِلِ فَذَهَبَ عُمَرُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَهُ عِنْدَه ، فَلَمَّا سَلَّمَ عُمَرُ وَجَلَسَ عِنْدَه جَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتمعَّرُ يَعْنِي تَذْهَبُ نَظَارَتُه مِنْ الْغَضَبِ ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْيَضَ جَمِيلاً  كَأَنَّ الْقَمَرَ يَجْرِي فِي وَجْهِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ وَجْهُه يَحْمَرُّ مِنْ الْغَضَبِ وَفِي رِوَايَةٍ : « فَجَلَسَ عُمَرُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ تَحَوَّلَ فَجَلَسَ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ فَأَعْرَضَ عَنْهُ ، ثُمَّ قَامَ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَعْرَضَ عَنْهُ ، فَقَالَ عُمَرُ : « يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَرَى إعْرَاضَك إلَّا لِشَيْءٍ بَلَغَك عَنِّي ، فَمَا خَيْرُ الْحَيَاةِ وَأَنْتَ مُعْرِضٌ عَنِّي » ؟ أَيُّ خَيْرٍ لِي فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ إذَا كُنْتَ مُعْرِضًا عَنِّي ، فَقَال : «أَنْتَ الَّذِي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ تَقْبَلْ مِنْهُ ؟ وَفِي رِوَايَةٍ : « يَسْأَلُك أَخُوك أَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُ فَلَا تَفْعَلْ » فَقَال : «وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا مِنْ مَرَّةٍ يَسْأَلُنِي إلَّا وَأَنَا اسْتَغْفَرَ لَهُ ، وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ أَحَدِ أَحَبَّ إلَيَّ مِنْهُ بَعْدَك » فَقَالَ أَبُوبَكْرٍ : « وَأَنَا وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ كَذَلِك » . وَلَمَّا تَمَعَّر النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْفَق أَبُو بَكْرٍ أَنَّ يَكُونَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ مَا يَكْرَهُ فَجَثَا أَبُو بَكْرٍ أَي بَرَكَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَاللَّهِ إِنَّا كُنْتُ أَظْلَمَ ، قَالَ ذَلِكَ ، لِأَنَّهُ كَانَ هُوَ الْبَادِي ، فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَعْتَذِرُ حَتَّى لَا يَجِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفْسِهِ عَلَى عُمَرَ . يَقُولُ أَبُو بَكْرٍ : أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ ثُمَّ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ فَضْلَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَخْبَرَهُم بِأَنَّ اللَّهَ بَعَثَه فَقُلْتُم : « كَذَبْتَ ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : صَدَقْتَ ، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ »  واساني مِن الْمُوَاسَاة ، وَصَاحِبُ الْمَالِ يَجْعَلَ يَدَهُ وَيَد صَاحِبِهِ فِي مَالِهِ سَوَاءٌ ، وَلِهَذِه سُمِّيَت مُوَاسَاةٌ  يَقُولُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « فَهَلْ أَنْتُمْ تاركو لِي صَاحِبِي » . .
الخطبة الثانية
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : فِي الْحَدِيثِ فَوَائِدُ ..
منها : فَضْلُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى جَمِيعِ الصَّحَابَةِ ، وَإِنَّ الْفَاضِلَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُغاضبَ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ .
وَمنها : جَوَازُ مَدْحِ الْمَرْءِ فِي وَجْهِهِ ، وَمَحَلُّهُ إذَا أُمِنَ عَلَيْهِ الِافْتِتَانُ وَالِاغْتِرَار ُ.
وَمنها : مَا طُبِعَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِنْ الْبَشَرِيَّة حَتَّى يَحْمِلَه الْغَضَبُ عَلَى ارْتِكَابِ خِلَافِ الْأَوْلَى ، لَكِن الْفَاضِلَ فِي الدِّينِ يُسْرِع الرُّجُوعَ إلَى الْأُولَى ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : (( إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا )) .
وَمنها : أَنَّ غَيْرَ النَّبِيِّ وَلَوْ بَلَغَ مِنْ الْفَضْلِ الْغَايََة لَيْسَ بِمَعْصُومٍ .
وَمنها : اسْتِحْبَابُ سُؤَالِ الِاسْتِغْفَارِ ، وَالتَّحَلُّلِ مِنْ الْمَظْلُومِ .
وَمنها : أَنَّ مَنْ غَضَبِ عَلَى صَاحِبِهِ نَسَبَه إلَى أَبِيهِ أَوْ جَدِّهِ وَلَمْ يُسَمِّهِ بِاسْمِه ، وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ لِمَا جَاءَ وَهُوَ غَضْبَانُ مِنْ عُمَرَ : كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ بْنِ الْخَطَّابِ ، فَلَمْ يَذْكُرْهُ بِاسْمِه ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إلَّا إنْ كَانَ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ يُرِيدُ أَنْ يَنْكِحَ ابنتَهم .
وَمنها : أَنَّ الرُّكْبَةَ لَيْسَتْ بعَوْرَةٍ . 
المشاهدات 1043 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا