احتكار السلع وغلاء الأسعار
أ.د عبدالله الطيار
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، الذي أمر عباده بالعدل في الأمور، وعدم الظلم للآخرين، ومحبة الخير للمسلمين، والحرص على نفع الناس أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل في كتابه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}(البقرة)، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرحم الخلق بعباد الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله: واعلموا أن التقوى هي طريق النجاح والفلاح للعبد في الدنيا والآخرة.
عباد الله: لقد جاءت شريعة الله تعالى كاملة، شاملة لكل نواحي الحياة، فلا تجد أمراً من أمور الدنيا يحتاجه الناس إلا وجد له العلاج الأمثل الناجح الذي يعالج هذا الأمر في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً](المائدة:3).
ومن أجلِّ نعم الله تعالى أن جعل الميزان بينه وبين عباده هو العدل، وما قامت السماوات والأرض إلا به، وقد أمر الله عباده به فقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}(النحل:90) وإذا كان الله تعالى من فوق سبع سماوات يأمر به فواجب على الناس أن يطبقوه بينهم، وأن يعملوا على تمكينه في جميع شؤون حياتهم.
ومن حكمة الله تعالى أن أوجد لعباده طرقاً يسلكونها من أجل تيسير معاملاتهم ومعيشتهم، وإقامة وجوه الحق بينهم، ولما خالف الناس أوامره، وعملوا بما يناقض شريعته أوقعوا أنفسهم وغيرهم في حرج عظيم، وظهرت بينهم بوادر الظلم، وانتشرت بينهم العداوة والبغضاء، ووقعوا في كثير من الذنوب والآثام.
عباد الله: لقد عانى كثير من المسلمين من غلاء الأسعار وخاصة في الأعوام الأخيرة ولا يزال ذلك في ازدياد، وهذا بطبعه أثَّر على معيشة كثير من الناس، وأدى بهم إلى زيادة الحاجة والعوز،والوقوع في معاصي الله من أجل الحصول على لقمة العيش.
وأصبح كثير من الناس يشتكي هذا الغلاء، وخاصة الفقراء، ولكن غاب عن الجميع أن الغلاء له أسباب كثيرة ومتعددة، ومن ذلك ـ حسب ما يظهر لي ـ:
أولاً: كثرة الذنوب والمعاصي وبعد الناس عن دينهم: وهي من أهم الأسباب التي أظهرت هذا الوباء العظيم، ومن المشاهد أن بعضاً من المسلمين أصبحوا مفرطين في كثير من الأحكام الشرعية، ليس ذلك فقط بل أصبحوا يقعون في بعض الكبائر غير مبالين بغضب الله تعالى وسخطه، ومعلوم أن الذنوب تسبب هلاك الحرث والنسل، وتسبب انتشار الفساد في البر والبحر، قال تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}(الروم:41)، وقال تعالى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}(الشورى:30).
والله تعالى يبتلي عباده ببعض ما كسبت أيديهم لكي ينتبهوا ويراجعوا أنفسهم، وقال صلى الله عليه وسلم:(يا معشر المهاجرين خصال خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوهم من غيرهم فأخذوا بعض ما كان في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله عز وجل ويتحروا فيما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم) (رواه البيهقي والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم 7978)، فهل يعي المسلمون معنى هذا الحديث العظيم في أحوالهم التي يعيشونها الآن.
ثانياً: حب المال، والإكثار منه: فحب المال والحرص على كسبه بأي طريق حتى ولو كان عن طريق الحرام أمر مشاهد للجميع، وخاصة مع انتشار المعاملات الربوية، واختلاط الحلال بالحرام، قال تعالى:{وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً}(الفجر:20)، وعندما يطغى ذلك على الناس يصبح الأمر خطيراً جدا، ويتسبب في مخالفات شرعية كثيرة، قال صلى الله عليه وسلم:(فوالله لا الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم)(متفق عليه).
ثالثاً: تلاعب التجار والمحتكرين بالسلع التي يحتاج إليها الناس:
فبعضهم يقوم بتخزينها، وإخفائها من أجل رفع ثمنها لتحصيل أكبر كسب ممكن، ويتضح ذلك خلال بعض المواسم، كدخول شهر رمضان وغيره، وهذا فيه إضرار بالناس وخاصة الفقراء وأصحاب الحاجات، ، وهو أيضاً منهي عنه شرعاً قال صلى الله عليه وسلم(لا ضرر ولا ضرار)(رواه أحمد ومالك في الموطأ، وصححه الألباني في الإرواء ج8 رقم2653)، ولأنه من الظلم الواضح البيّن الذي أمر الله باجتنابه، قال الله تعالى في الحديث القدسي:(يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا..)(رواه مسلم).
فاحتكار السلع يحمل في طياته بذور الهلاك والدمار لما يسببه من ظلم وغلاءٍ في الأسعار، وإهدارٍ لتجارة المسلمين وصناعتهم، وتضييق لأبواب العمل والرزق. وهو نوعٌ من محبة الذات وتقديم النفس على الآخرين. ويؤدي إلى تضخم الأموال في طائفةٍ قليلةٍ من الناس كما في قوله تعالى:{كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} (الحشر:7).
عباد الله: مما سبق ذكره يتبين أن تلك الأمراض المعضلة التي بدأت تدب في الناس ـ وهي الغلاء واحتكار السلع ـ غالبها من ضعف الإيمان، وحب الدنيا وإيثارها على العاجلة، وأنا أقول لمن يقع في ذلك: كم ستعيش في الدنيا، وكم ستملك، وإلى متى التمتع بملذاتها؟ أليست لك نهاية؟ أليس لك لقاء بملك الموت؟ ألا تعلم أنك ستقف بين يدي رب العالمين فيجازيك بما فعلت؟ فليتق الله كل من تسول له نفسه احتكار السلع ورفع أسعارها، فقد قال صلى الله عليه وسلم:(لا يحتكر إلا خاطئ)(رواه مسلم)، والخاطىء هو الآثم، وقال أيضاً:(من احتكر حكرة يريد أن يغلي بها على المسلمين، فهو خاطئ)(أحمد، وصححه الألباني في الصحيحة). وليعلموا أنه لن تنفعهم أموالهم ولا أملاكهم فتمنع عنهم عقاب الله، وليعلموا أنهم موقوفون بين يدي خالقهم فيسألهم عن كل ما جمعوه، أهو من حلال أم من حرام.
عباد الله: جاء في الأثر أن الناس في زمن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاءوا إليه وقالوا: نشتكي إليك غلاء اللحم فسعره لنا، فقال: أرخصوه أنتم؟ فقالوا: نحن نشتكي غلاء السعر واللحم عند الجزارين ونحن أصحاب الحاجة فتقول: أرخصوه أنتم؟ فقالوا: وهل نملكه حتى نرخصه؟ وكيف نرخصه وهو ليس في أيدينا؟ فقال قولته الرائعة: اتركوه لهم. فدلهم رضي الله عنه إلى طريقة سديدة لمعالجة سعر هذه السلعة وذلك بتركها، فهل يعي المسلمون ذلك ويتركوا ما غلا سعره إلى ما هو دونه كي يعلم هؤلاء المحتكرون أن الناس يمكنهم ترك سلعتهم فيرخصونها.
بل إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه يطرح بين أيدينا طريقة أخرى في مكافحة الغلاء وهي إرخاص السلعة عبر إبدالها بسلعة أخرى؛ فعن رزين بن الأعرج مولى لآل العباس قال:(غلا علينا الزبيب بمكة فكتبنا إلى على بن أبى طالب بالكوفة أن الزبيب قد غلا علينا, فكتب أن أرخصوه بالتمر)أي استبدلوه بشراء التمر الذي كان متوفرا في الحجاز وأسعاره رخيصة فيقل الطلب على الزبيب فيرخص. وإن لم يرخص فالتمر خير بديل. فانتبهوا عباد الله لتلك التوجيهات، فأنتم بيدكم بعض علاج مشكلة الغلاء واحتكار السلع، فإذا وجد التجار أن الناس زهدوا فيما عندهم من السلع الغالية أرخصوها وحرصوا على بيعها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنْ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ * فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ}(الشورى).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله: واعلموا أن التاجر الذي يرأف بالناس يرأف الله به، ومن يرحمهم يرحمه الله، ومن ييسر عليهم ييسر الله عليه، ومن صدق في بيعه وشراءه نال الأجر العظيم والثواب الجزيل، ويكفيه شرفاً وفخراً أن ينال الجنة بفضل الله تعالى ورحمته، قال صلى الله عليه وسلم(التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء)(رواه الترمذي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب).
عباد الله: هناك تنبيه حول مسألة إخراج زكاة التمور وخاصة في تلك الأيام التي بدأ فيها الناس بجذاذ نخيلهم وجني ثمرتها.
وبعض الناس عنده أنواعٌ من التمور (رديئة ومتوسطة وجيدة)، فيخرج زكاة تموره من أردأ الأنواع التي عنده، وهذا لا يجوز ولا يجزئه، بل الذي يجب على من يزكي:
أولاً: أن يخرجها طيبة بها نفسه لأن الله تعالى لا يقبل إلا ما كان خالصاً لوجهه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى) (متفق عليه)، وقوله صلى الله عليه وسلم (إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا..)(رواه مسلم).
ثانياً: يحرص على إخراجها من نفس الأنواع التي تكون في مزرعته؛ فإن كان عنده برحي، وخلاص، وسكري، وغيرها يخرج من كل نوع على حدة ولو بحسابها من نوع واحد.
ثم يقوم بعد ذلك بدفعها إلى الجهات المختصة باستلام التمر (وهي جمعية البر الخيرية في محافظتنا).
ثالثاً: يحرص على إخراجها في وقتها وعدم التأخر في أدائها لأنها حق الفقراء والمساكين، ولا يجزىء المزكي ما أخرج من زكاة التمر الرديء إذا كان عنده تمر جيد، بل يلزمه أن يجمع قيمة ما باع من التمور بأنواعها ثم يزكي عنها حتى تبرأ ذمته.
واعلموا بارك الله فيكم أن نصاب التمور (675) كيلو جراماً، وأن الواجب فيه نصف العشر لأن جميع ما في محافظتنا يسقى بكلفة، لقوله صلى الله عليه وسلم (وما سقي بالنضح نصف العشر)(رواه البخاري) والنضح: السقي بالسواني.
أسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يجنبنا وإياكم مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يثبتنا وإياكم على الحق حتى نلقاه إنه ولي ذلك والقادر عليه.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً](الأحزاب:٥٦).
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين. اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين.
اللهم وفق ولاة أمرنا لما تحب وترضى، ويسر لهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذا القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.