احترام الكبير

وليد الشهري
1446/04/07 - 2024/10/10 16:30PM

احترام الكبير

     الحمد لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِ اللهُ فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبِه، ومن اهتدى بهديِهِ واستنَّ بسنَّتِه إلى يوم الدين .

     ( يا أيها الناس اتقوا ربَّكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخَلقَ منها زوجَها وبثَّ منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا اللهَ الذي تساءلونَ به والأرحامَ إن الله كان عليكم رقيبا )، ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حقَّ تقاتِه ولا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون )، ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللهَ وقولوا قولاً سديداً ، يُصلحْ لكم أعمالكم ويغفْر لكم ذنوبَكم ومن يطعِ اللهَ ورسولَه فقد فاز فوزاً عظيماً ) .. أما بعد  ،،

     عباد الله ... قَدْ وَصَفَ اللهُ تَعَالَى للإنسانِ مراحلَ ثلاثٍ يَمُرُّ بها إن أَمَدَّ اللهُ في أجلِه، فقالَ سبحانه-:  ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ )، يقف الإنسانُ في لحظاتٍ متأخرةٍ من سِنيِّ عُمُرِهِ في هذه الحياةِ فينظرُ إليها وكأنها نسجٌ من الخيال، أو ضربٌ من الأحلام، يقفُ فيتأملُ وقد ضَعُفَ بدنُهُ، ورَقَّ عظمُه، وثقُلَ سمعُه، وابيضَّ شعرُه، وتجعَّد جلدُه، وهذه المرحلة من سُننِ اللهِ في خلقِه، وشاءها سبحانه في عبادِه، حتى ذَكَرَ اللهُ عن زكريا – عليه السلام - وهو ينادي ربَّه : ( قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا )، ولذلك فإنَّ من عظمةِ الإسلامِ أنَّهُ كما اهتمّ بالإنسانِ صغيراً، ووجّهَ الأبوينِ إلى رعايتِهِ والاهتمامِ به، فإنَّهُ كذلك أَمَرَ بحُسنِ رعايةِ الكبير واحترامِه في الإسلامِ مهما كان أباً أو أماً، قريباً أم بعيداً، جاراً أم صديقاً، معروفاً أم غريباً، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ليس منَّا من لم يرحَمْ صغيرَنا ويوقِّرْ كبيرَنا ) [صحيح الجامع ] .

      أما عن أُولى الاهتماماتِ في دينِنا من هؤلاءِ الفئةِ فهمُ الوالدان، قال الله – تعالى -:  ( وقَضَى رَبُّكَ ألّا تَعبُدوا إلّا إيَّاهُ وبالوالِدَينِ إحساناً إمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً )، ولقد جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ : جِئْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وتَرَكْتُ أبويَّ يَبْكِيَانِ فقَالَ : ( فَارْجِعْ إِلَيهما َفأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا ) [صحيح أبي داود] .

     إن على الشابِّ إيثارَ والديهِ على نفسِهِ في كُلِّ معروفٍ وخدمةٍ يريدُها أحدُ والديه، وعليه بالتبجيلِ والاحترامِ التَّام، فلا يبدأُ بتناولِ الطعامِ قبلَهما، ولا يتقدمُ بين يديهِما بدخولٍ أو خروج، ولا يرفعُ صوتَه عندهُما، وألا تكونَ لهجةُ الحديثِ عندَهُما لهجةً غاضبة، فمن أنت أيُّها الشابُّ حتى تغضبَ منهُما؟

     إنَّ على الأبناءِ عند الجلوسِ مع والديهم الإصغاءَ إليهما عند حديثِهما، وعدمَ الانشغالِ عنهما بجوالٍ أو غيرِه، وعليه مشورتُهما فلن تُعدمَ خيراً ممن يُحبُّ لك أكثرَ مما يحبُّ لنفسِه، وعلى الابنِ احترامَ الجِلْسَةِ بحضرتِهما، فلا يمدَّ بينَ أيديهما رِجْلاً ولا يُولِيْهما ظَهراً .

    ونصيحةُ للأبناءِ المتزوجين ألَّا تُدْخِلوا آباءَكم في مشاكِلِكُم وخلافاتِكم فيما بينْكم وبين أهليكم إلا في الضَّرورةِ القُصوى التي يغلبُ على الظنِّ الإصلاحُ بينكما، ولا تَنقُلْ لهُما همومَ العمل، فإنكَ تُدخلُ الهمَّ عليهِما ولا يملكانِ لكَ منَ الأمرِ شيئاً، ومن استقلَّ بمنزلٍ خاصّ ألا تتركوهم يتألمّونَ من أمراضٍ وإهمالٍ وأنتم تستطيعونَ رفعَ ذلك عنهم، تذكّروا فضْلَهم عليكم وأنتم في الصِّغر، فكم آثروكم على أنفسِهم، بل كنتم أغلى من الدّنيا بأكملِها عندهم، واذكروا كم صبروا عليْكُم وضحَّوا من أجلِكم من أوقاتٍ وصحةٍ وهَمٍّ لأجلِكم، فاللهم ارزقنا برَّ والدينا أحياءً وأمواتاً .

     أيها الإخوة .. في موضوعِ احترامِ الكبيرِ من سائرِ الناس، يقول عليه الصلاة والسلام  : ( إنَّ مِنْ إِجلالِ اللهِ إكرامَ ذي الشيبةِ المسلم، وحاملِ القرآنِ غيرِ الغالي فيه ولا الجافي عنه ، وإكرامَ ذي السلطانِ المقسط )، [صحيح أبي داود] فإكرامُ ذي الشيبةِ المُسلمِ وتقديرُكَ له من إجلالِ اللهِ وتعظيمِه، لأنَّ له السبقَ في الطاعات، فكم سجدَ لله ؟ وكم رَكَعَ لله ؟ وكم قَنَتَ وخَضَعَ لله ؟ وكم تصدقَ وصامَ وفَعَلَ الخيرات؟ كلُّ ذلك يُقْدَرُ له قدرُه .

     وفي الصلاةِ وجَّهَ - صلى الله عليه وسلم -  بأن يتقدمَ خلفَ الإمامِ البالغون وكبارُ السنِّ، فعن أبي مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -  أنه قال:  ( لِيَلِيَنِي منكُم أولو الأحلامِ والنُّهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم(  [مسلم]، فهذا حَثُّ منه - صلى الله عليه وسلم - لكبارِ السنِّ بالتَقَدُّمِ والتبكير، أما إذا تأخروا فقد أسقطوا حقَّهم وليسَ لهم تأخيرُ الصغارِ الذين سبقُوهم؛ فإنَّ في ذلك صدٌّ لهم عن الطاعة، فالمكانُ أحقُّ بِهِ مَنَ سَبَقَ إِليه .

      إن من رعاية الإسلامِ لكبار السنِّ أنه رَخَّصَ لَهُم في كثيرٍ من العباداتِ والطاعاتِ في الصلاةِ والصيامِ والحجِّ رحمةً ورأفةً بهم، فيعبدوا الله على قدرِ طاقتِهم وقدرتِهم؛ لأنَّ المولى - جل وعلا - يقول : ( فاتَّقُوا اللهَ ما استطعتم ( فإنهم أمضوا سنواتِ عُمُرِهِم في هذه الطاعات، فلما كَبُرَ سِنُّهُم ورَقَّ عظمُهم راعى الإسلامُ هذه الحال، ووجَّه إلى التخفيفِ والتيسيرِ، وهذا دينُ السماحةِ والتيسير، بل حتى في تقديمِ الكلامِ يُقْدَرُ للكبيرِ قدرُه، ففي الصحيحين انطلقَ عبدُ اللهِ بنُ سهلٍ ومُحَيِّصَةُ بنُ مسعودٍ إلى خيبر وهي يومئذٍ صُلْح، فتفرقا فأتى مُحَيِّصَةُ إلى عبدِ الله بنِ سهلٍ وهو يَتَشَحَّطُ في دمِهِ قتيلاً، فقدمَ المدينةَ فانطلقَ عبدُ الرحمنِ بنُ سهلٍ ومُحَيِّصَةُ وحُوَيِّصَةُ أبناءُ مسعودٍ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فذهب عبدُ الرحمنِ يتكلمُ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( كَبِّرْ كَبِّرْ ) وهو أحدثُ القوم - أي أصغرُهم - فسكت فتكلما.. الحديث [مسلم] .

      بل حتى الرحمةُ لهؤلاءِ لهم فيها نصيب، ولقد كان عمر - رضي الله عنه - يتعاهدُ الأراملَ، فيسقي لهنَّ الماءَ ليلاً، ورآه طلحةُ بالليلِ يدخلُ بيتَ امرأةٍ، فدخلَ عليها طلحةُ نهاراً فإذا عجوزٌ عمياء مقعدة فسألها ما يصنع هذا الرجلُ عندك؟ قالت : هذا منذ كذا وكذا يتعاهدُني ويأتيني بما يصلحُنِي، فقال طلحةُ : ثكلتك أمُّكَ يا طلحةُ، عثراتِ عمرَ تَتَبَّع ؟!

     إنها تلك الأجيالُ لمَّا كانَ المجتمعُ المسلمُ فيها يتكاتفُ بعضُه مع بعض، ويتفقدُ بعضُهم بعضا، ويحترمُ الصغيرُ الكبيرَ، ويجعلُ له قدرَه ومكانتَه، ولا زالَ في الأمةِ خير، لكن في المقابلِ، كم نرى شبابًا تستطيلُ ألسنتُهم على الكبار! وكم نرى شباباً لا يعرِفونَ للكبير أيَّ قدرٍ! وقد يلمِزُه بجهلِه، وقد يلمزُهُ بضَعفِ رأيه، أو يتأفَّفُ منه إذا تأخرَ أثناءَ سيرِه بالسيارةِ أمامَهُ بسببِ ضعفِ بصرِه، أو بأيِّ سببٍ آخر... بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ...

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وعظيمِ امتنانه، وأشهد أن لا إله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلمَ وباركَ عليه وعلى آله وأصحابِه وأتباعِه بإحسانٍ إلى يوم الدين .. أما بعد ،،

     عباد الله ...انظروا إلى الرعيلِ الأولِ كيف كان عندهم تقديرُ الكبيرِ واحترامُه، فمن صورِ ذلكَ ما روى الشيخانِ عن أبي سعيد – رضي الله عنه - قال : لقد كنتُ على عهدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - غلاماً فكنتُ أحفظُ عنه، فما يمنعُنِي من القولِ إلا أنَّ هاهنا رجالاً هم أسَنُّ مني، هذا وهو في العلمِ الذي يُندبُ الكلامُ بِه، فكيفَ بأحاديثِ الناسِ في المجالس؟ وهذه من أمورِ التربيةِ التي يتجلى فيها الشبابُ الذين تربَّوا التربيةَ الصالحةَ .

     فلنقدِّرِ الكبيرَ، ولنربي أبناءَنا على احترامِ الناسِ عموماً، وعلى معاونةِ الضُّعفاءِ والمرضى والمحتاجين والأرامل، وعلينا عدمَ نسيانِ الأقربين، فقد تنزلُ بأحدِهم نازلةً لا يعلمُ بها أرحامُه، وهنا يأتي دورُ صلةِ الرَّحِم، فإنَّ الواصلَ يعرفُ أخبارَ أرحامِه، فما أجملَ الإحسانَ إذا كانَ مع الرَّحِمِ والقريب .

     وما أروعَ ما قالَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للصِّدِّيق يومَ فتحِ مكةَ حينَ أتى بأبيهِ أبي قُحافة، وكان شيخًا كبيرًا مُسِنًّا ليُسلِمَ بين يدي رسولِ اللهِ في البيتِ الحرام، فقال: ( لو أقْرَرْتَ الشيخَ في بيتِه لأتيناه ) [صحيح ابن حبان]، هذا هو قائدُ الأمةِ - عليه الصلاة والسلام - وفي موقف الفتحِ وانشغالِه بالناسِ ونشرِ الدين، ومع ذلك يُعَلِّمُ الناسَ القِيمَ والأخلاقَ - عليه الصلاة والسلام –

     وصلوا وسلموا على من أُمرتم بالصلاة والسلام عليه ..

 

 

المرفقات

1728567041_خطبة احترام الكبير ( تعميم ).docx

المشاهدات 1044 | التعليقات 0