احْتِرَامُ الكَبِيْرِ فِي الإِسْلَامِ 1443/6/11هـ

عبد الله بن علي الطريف
1443/06/09 - 2022/01/12 19:12PM

احْتِرَامُ الكَبِيْرِ فِي الإِسْلَامِ 1443/6/11هـ

أيها الإخوة: يقولُ الحقُ تباركَ وتعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾ [الروم:54]، ويقول: ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء:28] فالإنسانُ مهما بلغَ من القوةِ والمالِ والجاهِ ضعيفٌ.! ضعيفٌ يُصيبُه العَطبُ، فتُعْطِبُهُ شوكةٌ، ويقتُلُهُ فيروسٌ لا يُرى بالعين الْمُجَرَدَةِ؛ ويزدادُ هذا الضعف عند الكبر.

ومن عظمة هذا الدين أنه حث على العناية بالكبير، والاهتمام به، وأمر بحسن رعايته واحترامه كائناً مَنْ كان، أباً أو أماً أو أخاً أو عماً أو خالاً قريباً أو بعيداً، جاراً أو صديقاً، معروفاً أو غير معروف، قال الله تعالى عن الوالدين: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا* وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء:23-24]. وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا    قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: جِئْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ أَبْتَغِي وَجْهَ اللهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: «هَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ؟» قَالَ: نَعَمْ، بَلْ كِلَاهُمَا وَلَقَدْ تَرَكْتُهُمَا يَبْكِيَانِ قَالَ: «فَتَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنْ اللهِ؟» قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ أَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا وَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا» وَأَبَى أَنْ يُبَايِعَهُ. رواه أبو داود وغيره مجموع من ألفاظ متعددة.  رواه أبو داود والنسائي وصححه الألباني.

أيها الأحبة: ولقد عَدَّ رَسُولُ ﷺ اللهِ توقيرَ كبارِ ِ عموماً من سُننِ الإسلامِ فَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا» رواه أحمد وصححه الأرنؤوط..

وجعلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ للشيبِ قيمةً عظيمة، وأجراً كبيراً؛ فَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنْ نَتْفِ الشَّيْبِ» وَقَالَ: «هُوَ نُورُ الْمُؤْمِنِ» وَقَالَ: «مَا شَابَ رَجُلٌ فِي الْإِسْلَامِ شَيْبَةً، إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ بِهَا دَرَجَةً، وَمُحِيَتْ عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةٌ، وَكُتِبَتْ لَهُ بِهَا حَسَنَةٌ» رواه أحمد وصححه الأرنؤوط.

ولقد ذهبَ الإسلامُ في تقديرِ الكبارِ وأصحابِ الفضل، إلى أبعد من ذلك فعَدَّ تكريمَهم من إجلالِ اللهِ تعالى وتعظيمِه، فَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ [أَيْ: تَبْجِيله وَتَعْظِيمه] إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ [أَيْ: تَعْظِيمُ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ فِي الْإِسْلَام، بِتَوْقِيرِهِ فِي الْمَجَالِس، وَالرِّفْقِ بِهِ وَالشَّفَقَةِ عَلَيْهِ، وَنَحْو ذَلِكَ.] وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ» [العَادِلِ]. رواه أبو داود وحسنه الألباني.

وكان رَسُولُ اللهِ ﷺ يُقَدِمُ الكبيرَ في الحديثِ ويسمعُ منه؛ فقد انْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، وَمُحَيِّصَةُ، وَحُوَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتَكَلَّمُ، وَهُوَ أَحْدَثُ القَوْمِ فَقَالَ النَّبِيِّ ﷺ: «كَبِّرْ كَبِّرْ» يُرِيدُ السِّنَّ، فَسَكَتَ فَتَكَلَّمَا، فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ. رواه البخاري.

وَالسُنَةُ تَقْدِيمُ الأَكْبَرِ فِي إِعْطَاءِ الشَيءِ قَالَ النَّبِيَّ ﷺ في حَدِيثِ الرُؤيَا: «أَرَانِي أَتَسَوَّكُ بِسِوَاكٍ، فَجَاءَنِي رَجُلاَنِ، أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الآخَرِ، فَنَاوَلْتُ السِّوَاكَ الأَصْغَرَ مِنْهُمَا، فَقِيلَ لِي: كَبِّرْ، فَدَفَعْتُهُ إِلَى الأَكْبَرِ مِنْهُمَا» رواه البخاري ومسلم عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا    قال شيخنا محمد العثيمين رحمه الله معلقاً على هذا الحديث: ومن ذلك إذا قدمت الطعام مثلاً أو القهوة أو الشاي فلا تبدأ باليمين، بل ابدأ بالأكبر الذي أمامك؛ لأن النبي ﷺ لما أراد أن يُعطي السواكَ الأصغر قيلَ له كبّر، ومعلومٌ أنه لو كان الأصغرُ هو الأيسر لا يَذهبُ الرسولُ ﷺ يعطيه إياه، فالظاهرُ أنه أعطى الأيمنَ من أجلِ التيامنِ، لكن قيل له كَبِّر: يعني أَعْطِهِ الأكبرَ، فهذا إذا كان الناسُ أمامَك تبدأُ بالكبيرِ، لا تبدأُ باليمينِ، أما إذا كانوا جالسين عن اليمينِ وعن الشمالِ فابدأ باليمين. أ.هـ

وقال المهلب: تقديمُ ذي السنِ أولى في كُلِ شيءٍ ما لم يترتبْ القومُ في الجلوسِ، فإذا ترتبوا فالسنةُ تقديمُ الأيمنِ فالأيمن من الرئيسِ أو العالمِ، على ما جاء في حديثِ شُربِ اللبن.

أيها الإخوة: ولم يقتصرْ الحثُ على احترام الكبير ورعايته على المسلم فقط، بل شمل غير المسلم طالما أنه يعيشُ بين المسلمين، قال الإمامُ أبو يوسف في كتابه الخراج: وَحَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ نَافِع عَن أبي بكرَة قَالَ: مَرَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِبَابِ قَوْمٍ وَعَلَيْهِ سَائِلٌ يَسْأَلُ: شَيْخٌ كَبِيرٌ ضَرِيرُ الْبَصَرِ، فَضَرَبَ عَضُدَهُ مِنْ خَلْفِهِ، وَقَالَ: مِنْ أَيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنْتَ؟ فَقَالَ: يَهُودِيٌّ. قَالَ: فَمَا أَلْجَأَكَ إِلَى مَا أَرَى؟ قَالَ: أَسْأَلُ الْجِزْيَةَ وَالْحَاجَةَ وَالسِّنَّ. قَالَ: فَأَخَذَ عُمَرُ بِيَدِهِ، وَذَهَبَ بِهِ إِلَى مَنْزِلِهِ فَرَضَخَ لَهُ بِشَيْء مِنَ الْمَنْزِلِ [أَي أعطَاهُ شَيْئا لَيْسَ بالكثير]، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى خَازِنِ بَيْتِ الْمَالِ فَقَالَ: انْظُرْ هَذَا وَضُرَبَاءَهُ؛ فَوَاللَّهِ مَا أَنْصَفْنَاهُ أَن أكلنَا شَبِيْبَتَهُ ثُمَّ نَخُذُلُهُ عِنْدَ الْهَرَمِ "إِنَّمَا الصَّدقَات للْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين"، وَالْفُقَرَاءُ هُمُ الْمُسْلِمُونَ وَهَذَا مِنَ الْمَسَاكِينِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَوَضَعَ عَنْهُ الْجِزْيَةَ وَعَنْ ضُرَبَائِهِ. قَالَ: قَالَ أَبُو بكرَة: أَنَا شَهِدْتُ ذَلِكَ مِنْ عُمَرَ وَرَأَيْتُ ذَلِكَ الشَّيْخَ..

وكانَ الاهتمامُ بالكبارِ منهجًا مُتبعًا عند خلفاءِ المسلمين، فهذا الخليفةُ الراشدُ عمرُ بنُ عبد العزيز رحمه الله جعل َكفَالةَ الطاعنين في السنِ من الذميين نظامًا مفروضًا على ولاته، ففي كتاب الأموال لابنِ زنجويه، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: أخبرنا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي رَجَاءِ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ جِسْرِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، قَالَ: شَهِدْتُ كِتَابَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ بْنِ أَرْطَاةَ، وكانَ عاملُه على البَصْرَةِ قُرِئَ عَلَيْنَا بِالْبَصْرَةِ: "أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ، إِنَّمَا أَمَرَ أَنْ تُؤْخَذَ الْجِزْيَةُ مِمَّنْ رَغِبَ عَنِ الْإِسْلَامِ وَاخْتَارَ الْكُفْرَ عُتُوًا وَخُسْرَانًا مُبِينًا، فَضَعَ الْجِزْيَةَ عَلَى مَنْ أَطَاقَ حِمْلَهَا. وَخَلِّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عِمَارَةِ الْأَرْضِ؛ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ صَلَاحًا لِمَعَاشِ الْمُسْلِمِينَ، وَقُوَّةً عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَانْظُرْ مَنْ قِبَلَكَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، قَدْ كَبِرَتْ سِنُّهُ، وَضَعُفَتْ قُوَّتُهُ، وَوَلَّتْ عَنْهُ الْمَكَاسِبُ، فَأَجْرِ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ مَا يُصْلِحُهُ. فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، كَانَ لَهُ مَمْلُوكٌ كَبُرَتْ سِنُّهُ، وَضَعُفَتْ قُوَّتُهُ، وَوَلَّتْ عَنْهُ الْمَكَاسِبُ، كَانَ مِنَ الْحَقِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقُوتَهُ أَوْ يُقَوِّيَهُ، حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا مَوْتٌ أَوْ عِتْقٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ مَرَّ بِشَيْخٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، يَسْأَلُ عَلَى أَبْوَابِ النَّاسِ، فَقَالَ: مَا أَنْصَفْنَاكَ إِنْ كُنَّا أَخَذْنَا مِنْكَ الْجِزْيَةَ فِي شَبِيبَتِكَ، ثُمَّ ضَيَّعْنَاكَ فِي كِبَرِكَ. قَالَ: ثُمَّ أَجْرَى عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَا يُصْلِحُهُ"

وبعد: أين منظمات حقوق الإنسان اليوم عن مثل هذه الأحكام وهذه التشريعات؟! حقٌ علينا أن نُعلمَ هذه القيمَ والأخلاقَ للأجيالِ، وننشرَها للعالمِ كُله؛ ففيها التآلف، والتراحم، والراحة، والحب.. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..

الخطبة الثانية:

أيها الإخوة: ومن المعاني العظيمة والآداب الجليلة التي أولاها الإسلام جل الاهتمام، احترام الصغير للكبير، وقد جعل لهذا الأدب ضوابط كثيرة منها ما أشارت له السنة، ومنها ما يُفْهمُ من عمومِ الأمر بتوقيرِ الكبير.. وعلى الأمةِ تدريبُ أبناءها على إنزال الناس منازلهم، وإعطاء كل ذي حق حقه.. وبث روح المحبة والالفة بين أفراد المجتمع.

وانْطِلاقاً من قولِ الرَسُولِ ﷺ: «لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا». رواه أحمد وقال الأرنؤوط حسن لغيره ورواه الحاكم عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ.. فسرَ الحكيمُ هذا الحديث بقوله: إِجْلالُ الكبيرِ هو حَقُ سِنِّهِ لكونِهِ تقلبَ في العبوديةِ لله في أمدٍ طويلٍ، ورحمةُ الصغيرِ مُوَافَقَةٌ للهِ فإنه رَحِمَهُ ورَفَعَ عَنْهُ العُبودِية..

أيها الإخوة: ومن مظاهر تربية الصغير على احترام الكبير، تدريبه على إيثار والديه على نفسه في كل معروف وفي كل خير، فلا يبدأ بتناول الطعام قبلهما، ولا يتقدم بين يديهما بدخول أو خروج.. ولا يرفع صوته عند مخاطبة الكبير أو الحديث معه.. وألا تكون لهجة الصغير في الحديث لهجة غاضبة، أو يشوبها استهزاءٌ، أو تعالٍ أو تكبّر.. وحث الصغار على الإصغاء إلى الكبار والاستماع إليهم وعدم الانشغال عنهم بجوال أو غيره، ومشورتهم.. ومن احترام الكبير إحسان الجلسة بحضرتهم، فلا يمد بين أيديهم رِجْلاً ولا يُولِيْهم ظَهراً في الجلوس، وغيره من مكارم الأخلاق.. وزيارتهم في دورهم، واصطحاب الصغار عند رعاية الكبار وزيارتهم؛ لغرس هذه الأخلاق النبيلة لديهم.. وصلوا وسلموا...

 

 

المشاهدات 1186 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا