احترام الكبير

عبد الله بن علي الطريف
1442/11/14 - 2021/06/24 18:43PM

  احترام الكبير 1442/11/15هـ

يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾ [الروم:54]، ويقول: ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء:28] فالإنسانُ مهما بلغَ من القوةِ والمالِ والجاهِ ضعيفٌ.! ضعيفٌ يصيبُه العطبُ، فتعطبه شوكة، ويقتله فيروس لا يرى بالعين؛ قال ابن القيم في قول الله تعالى: ﴿وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾ قال: "ضعيف البنية، ضعيف القوة، ضعيف الإرادة، ضعيف العلم، ضعيف الصبر، والآفات إليه مع هذا الضعف أسرع من السيل في الحدور".. ويزداد هذا الضعف عند الكبر.

ومن عظمة هذا الدين أنه حث على العناية بالكبير، والاهتمام به، وأمر بحسن رعايته واحترامه مهما كان، أباً أو أماً أو أخاً أو عماً أو خالاً قريباً أو بعيداً، جاراً أو صديقاً، معروفاً أو غير معروف، قال الله تعالى عن الوالدين: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا* وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء:23-24]. وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا    قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: جِئْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ أَبْتَغِي وَجْهَ اللهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: «هَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ؟» قَالَ: نَعَمْ، بَلْ كِلَاهُمَا وَلَقَدْ تَرَكْتُهُمَا يَبْكِيَانِ قَالَ: «فَتَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنْ اللهِ؟» قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ أَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا وَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا» وَأَبَى أَنْ يُبَايِعَهُ. رواه أبو داود وغيره مجموع من ألفاظ متعددة.  رواه أبو داود والنسائي وصححه الألباني.

وعد رَسُولُ ﷺ اللهِ توقير الكبير مهما كان من سُننِ الإسلامِ فَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا» رواه أحمد وصححه الأرنؤوط..

وجعل رَسُولُ اللهِ ﷺ للشيب وهو إحدى علامات كبر السن في الغالب قيمة عظيمة، وأجراً كبيراً؛ فَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنْ نَتْفِ الشَّيْبِ» وَقَالَ: «هُوَ نُورُ الْمُؤْمِنِ» وَقَالَ: «مَا شَابَ رَجُلٌ فِي الْإِسْلَامِ شَيْبَةً، إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ بِهَا دَرَجَةً، وَمُحِيَتْ عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةٌ، وَكُتِبَتْ لَهُ بِهَا حَسَنَةٌ» رواه أحمد وصححه الأرنؤوط.

وذهب الإسلام في تقدير الكبار وأصحاب الفضل، إلى أبعد من ذلك فعَدَّ تكريمهم من إجلال الله وتعظيمه، فَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ [أَيْ: تَبْجِيله وَتَعْظِيمه] إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ [أَيْ: تَعْظِيمُ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ فِي الْإِسْلَام، بِتَوْقِيرِهِ فِي الْمَجَالِس، وَالرِّفْقِ بِهِ وَالشَّفَقَةِ عَلَيْهِ، وَنَحْو ذَلِكَ.] وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ» [العَادِلِ] رواه أبو داود وحسنه الألباني.

وكان رَسُولُ اللهِ ﷺ يقدمُ الكبير في الحديث ويسمع منه؛ فقد انْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، وَمُحَيِّصَةُ، وَحُوَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتَكَلَّمُ، وَهُوَ أَحْدَثُ القَوْمِ فَقَالَ النَّبِيِّ ﷺ: «كَبِّرْ كَبِّرْ» يُرِيدُ السِّنَّ، فَسَكَتَ فَتَكَلَّمَا، فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ. رواه البخاري.

وقال المهلب: تقديم ذي السن أولى في كل شيء ما لم يترتب القوم في الجلوس، فإذا ترتبوا فالسنة تقديم الأيمن فالأيمن من الرئيس أو العالم، على ما جاء في حديث شرب اللبن.

قال شيخان محمد العثيمين: وفي حديث الرؤيا التي رآها الرسول ﷺ أنه كان يتسوك بسواك فجاءه رجلان فأراد أن يعطيه الأصغر، فقيل له: كبّر كبّر. فيه دليل أيضاً على اعتبار الكبر، وأنه يقدم الأكبر في إعطاء الشيء.

ومن ذلك إذا قدمت الطعام مثلاً أو القهوة أو الشاي فلا تبدأ باليمين، بل ابدأ بالأكبر الذي أمامك؛ لأن النبي ﷺ لما أراد أن يعطيه الأصغر قيل له كبّر، ومعلوم أنه لو كان الأصغر هو الأيسر لا يذهب الرسول صلى الله عليه وسلم يعطيه إياه فالظاهر أنه أعطى الأيمن من أجل التيامن، لكن قيل له كبّر: يعني أعطه الأكبر، فهذا إذا كان الناس أمامك تبدأ بالكبير، لا تبدأ باليمين، أما إذا كانوا جالسين عن اليمين وعن الشمال فابدأ باليمين. أ.هـ

أيها الإخوة: ولم يقتصر الحث على احترام الكبير ورعايته على المسلم فقط، بل شمل غير المسلم طالما أنه يعيش بين المسلمين، قال الإمام أبو يوسف في كتابه الخراج: وَحَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ نَافِع عَن أبي بكرَة قَالَ: مَرَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِبَابِ قَوْمٍ وَعَلَيْهِ سَائِلٌ يَسْأَلُ: شَيْخٌ كَبِيرٌ ضَرِيرُ الْبَصَرِ، فَضَرَبَ عَضُدَهُ مِنْ خَلْفِهِ، وَقَالَ: مِنْ أَيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنْتَ؟ فَقَالَ: يَهُودِيٌّ. قَالَ: فَمَا أَلْجَأَكَ إِلَى مَا أَرَى؟ قَالَ: أَسْأَلُ الْجِزْيَةَ وَالْحَاجَةَ وَالسِّنَّ. قَالَ: فَأَخَذَ عُمَرُ بِيَدِهِ، وَذَهَبَ بِهِ إِلَى مَنْزِلِهِ فَرَضَخَ لَهُ بِشَيْء مِنَ الْمَنْزِلِ [أَي أعطَاهُ شَيْئا لَيْسَ بالكثير]، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى خَازِنِ بَيْتِ الْمَالِ فَقَالَ: انْظُرْ هَذَا وَضُرَبَاءَهُ؛ فَوَاللَّهِ مَا أَنْصَفْنَاهُ أَن أكلنَا شَبِيْبَتَهُ ثُمَّ نَخُذُلُهُ عِنْدَ الْهَرَمِ "إِنَّمَا الصَّدقَات للْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين"، وَالْفُقَرَاءُ هُمُ الْمُسْلِمُونَ وَهَذَا مِنَ الْمَسَاكِينِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَوَضَعَ عَنْهُ الْجِزْيَةَ وَعَنْ ضُرَبَائِهِ. قَالَ: قَالَ أَبُو بكرَة: أَنَا شَهِدْتُ ذَلِكَ مِنْ عُمَرَ وَرَأَيْتُ ذَلِكَ الشَّيْخَ..

والاهتمام بالكبار منهجًا متبعًا عند خلفاء المسلمين، فهذا الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله جعل كفالة الطاعنين في السن من الذميين نظامًا مفروضًا على ولاته، ففي كتاب الأموال لابن زنجويه، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: أنا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي رَجَاءِ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ جِسْرِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، قَالَ: شَهِدْتُ كِتَابَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ بْنِ أَرْطَاةَ، وكان عاملُه على البصرة قُرِئَ عَلَيْنَا بِالْبَصْرَةِ: "أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ، إِنَّمَا أَمَرَ أَنْ تُؤْخَذَ الْجِزْيَةُ مِمَّنْ رَغِبَ عَنِ الْإِسْلَامِ وَاخْتَارَ الْكُفْرَ عُتُوًا وَخُسْرَانًا مُبِينًا، فَضَعَ الْجِزْيَةَ عَلَى مَنْ أَطَاقَ حِمْلَهَا. وَخَلِّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عِمَارَةِ الْأَرْضِ؛ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ صَلَاحًا لِمَعَاشِ الْمُسْلِمِينَ، وَقُوَّةً عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَانْظُرْ مَنْ قِبَلَكَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، قَدْ كَبِرَتْ سِنُّهُ، وَضَعُفَتْ قُوَّتُهُ، وَوَلَّتْ عَنْهُ الْمَكَاسِبُ، فَأَجْرِ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ مَا يُصْلِحُهُ. فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، كَانَ لَهُ مَمْلُوكٌ كَبُرَتْ سِنُّهُ، وَضَعُفَتْ قُوَّتُهُ، وَوَلَّتْ عَنْهُ الْمَكَاسِبُ، كَانَ مِنَ الْحَقِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقُوتَهُ أَوْ يُقَوِّيَهُ، حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا مَوْتٌ أَوْ عِتْقٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ مَرَّ بِشَيْخٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، يَسْأَلُ عَلَى أَبْوَابِ النَّاسِ، فَقَالَ: مَا أَنْصَفْنَاكَ إِنْ كُنَّا أَخَذْنَا مِنْكَ الْجِزْيَةَ فِي شَبِيبَتِكَ، ثُمَّ ضَيَّعْنَاكَ فِي كِبَرِكَ. قَالَ: ثُمَّ أَجْرَى عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَا يُصْلِحُهُ"

أين منظمات حقوق الإنسان اليوم عن مثل هذه الأحكام وهذه التشريعات؟! ولماذا لا نعود لقيمنا وأخلاقنا ونعلمها لأبنائنا وننشرها للعالم كله؟ ففيها السعادة، والراحة، والحب، والتآلف، والتراحم. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..

الخطبة الثانية:

أيها الإخوة: ومن المعاني العظيمة والآداب الجليلة التي أولاها الإسلام جل الاهتمام، احترام الصغير للكبير، وقد جعل لهذا الأدب ضوابط كثيرة منها ما أشارت له السنة، ومنها ما تعارف عليه ذووا الأخلاق العالية.. تدريباً لأبناء الأمة على إنزال الناس منازلهم، وإعطاء كل ذي حق حقه.. وبث لروح المحبة والالفة بين أفراد المجتمع.

من ذلك ما رواه عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا». رواه أحمد وقال الأرنؤوط حسن لغيره ورواه الحاكم.. قال المناوي: قال الحكيم: إجلال الكبير هو حقُ سِنِّهِ لكونه تقلب في العبودية لله في أمد طويل، ورحمة الصغير موافقة لله فإنه رحمه ورفع عنه العبودية..

أيها الإخوة: ومن مظاهر تربية الصغير على احترام الكبير، تدريبه على إيثار والديه على نفسه في كل معروف وفي كل خير، حيث لا يبدأ الابن بتناول الطعام قبلهما، ولا يدخل الدار قبلهما.. وحثه على خفض صوته عند مخاطبة الكبير أو الحديث معه.. وألا تكون لهجة الصغير في الحديث لهجة غاضبة، أو فيها استهزاء، أو تعالٍ أو تكبّر.. وحث الصغار على الإصغاء إلى كبار السن والاستماع إليهم وإلى أحاديثهم وعدم الانشغال عنهم بأي أمر.. والاهتمام بمشورتهم. والجلوس بهيئة مؤدبة في حضرة الكبار تجنب مد الأرجل بوجههم، أو إدارة الصغار ظهورهم إليهم.. وزيارتهم في دورهم، واصطحاب الصغار عند رعاية  كبار السن؛ لغرس هذه الأخلاق النبيلة لديهم.

 

المشاهدات 1098 | التعليقات 0