اجعل أخاك صديقك


أيها المسلمون:
جئتم إلى بيت من بيوت الله فحياكم الله، وعفا عنكم، وحديث هذا اليوم يدور حول سبب من أسباب دخول الجنة، وهو سبب من أسباب صلة الله عزوجل لعبده في دنياه وفي أخراه، وسبب لطول العمر، وسعة الرزق، وسبب في التوفيق للذرية الصالحة.
روى البخاري ومسلم أن رجلًا قال:
یا رسول الله، أخبرني بما يدخلني الجنة، ويباعدني عن النار؟ فقال النبي ﷺ: لقد وفق أو قال: لقد هدي، كيف قلت؟ فأعاد الرجل، فقال النبي ﷺ: (تعبد الله، ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل رحمك). فلما أدبر قال النبي ﷺ: (إن تمسك بما أمرته به دخل الجنة).
الأقارب في الإسلام لهم مكانة عالية، ومنزلة رفيعة، ولقد تكفل المولى -جل وعلا- للرحم بأن يصل من وصلها، ويقطع من قطعها.
إنَّ مما يحسن بنا، أن ننظر في أحوالنا، ونفتش في علاقاتنا بأقاربنا كيف نحن معهم؟
هل قمنا بما يجب علينا نحوهم من صلة وبر؟!
هل ألنّا لهم الجانب؟! وهل أحسنا بهم الظن؟!
وهل التمسنا لهم الأعذار عندما يخطئون أو يقصرون؟!
وهل شرحنا لهم صدورنا عند لقائنا بهم؟! وهل قمنا بزيارتهم في حال صحتهم وعافيتهم، إكرامًا لهم واحترامًا وتقديرًا، وطلبًا لمرضاة الله تعالى؟!
وهل عدناهم إذا مرضوا للطمأنينة عليهم، والسؤال عنهم، والدعاء لهم؟!
وهل قمنا بإعطائهم شيئًا من أموالنا، إذا كانوا فقراء محتاجين؟!
وهل نظرنا إليهم نظرة القريب لأقاربه؟! وهل عاملناهم معاملة تليق بهم؟!
وهل سامحناهم وصاحبناهم، حتى ولو وقع منهم الخطأ أو التقصير؟!
إنها أسئلة كثيرة تدعونا إلى محاسبة النفوس !!
البعض من الناس يعادي أقاربه؛ لأدنى تقصير يحصل منهم.
يعاديهم لأسباب حقيرة تافهة، ويترك القيام بواجب صلتهم لا في كلامه ولا في زیارتهم، ولا في مواساتهم عند الحاجة، وهكذا يقطع أقاربه مقاطعة تامة.
وقد تمر الأيام تلو الأيام، والأسابيع تلو الأسابيع، والشهور تلو الشهور، ودار الإنسان مغلقة عن أقاربه، ودورهم مغلقة عنه، بل قد تمر السنوات بلا تزاور، ولا تراحم، ولا تهنئة، ولا طيب كلمة، ولا تقارب، ولا ترابط، مع أن الإنسان قد يكون مع الأبعدين أحلى من السكر، وألذ من العسل، ولكنه مع أقاربه كالحنظل مرارة، وكالعلقم طعمًا فالله المستعان.
وإن من الأقارب الذين يستحقون الصلة والحفاوة: الإخوةَ الأشقاء، أو لأب، أو لأم، ولقد سئل أحد الحكماء: أيهم أحب إليك: أخوك أو صديقك؟ فقال: أخي إذا كان صديقي.
البعض من الناس يكتفي برابطة الأخوة مع أخيه، وهي رابطة قوية ولا شك، ولكن ينبغي عليه أن لا يكتفي بها بل يضيف إليها الصداقة، فيجمع في علاقته مع أخيه بين الصداقة والأخوّة.
من الملاحظ في هذا العصر فتورُ العلاقات بين الإخوة، فهذا له أصدقاء، والآخر له أصدقاء غيرهم، والثالث له أصدقاء وهكذا!
مع العلم أن أعمار الإخوة قد تكون متقاربة، وهم بهذا الأسلوب يفوتهم التآخي والتآزر، وتسودهم العلاقة الرسمية فيما بينهم.
وكان الأولى بالإخوة أن تكون العلاقات فيما بينهم والتقدير، وإنزال صاحب المكانة منزلته اللائقة به، ورحمة الصغير واحترام الكبير، وتشجيع المتكاسل والمتباطئ على الصلة والبر؛ لتسعد الأسرة، وتكون مثالًا يحتذى في الصلة والترابط.
إنَّ من أسباب فتور العلاقة بين الإخوة، ووجود الجفوة بينهم:
تفضيل الأب بعض الأبناء على بعض، فالعدل بينهم واجب، وذلك بتربيتهم على الخير والاحترام مع عدم التفضيل بينهم في الحب والعطف والعطاء؛ لأن ذلك يوجد أثرًا سيئًا في نفوسهم يؤدي إلى العداوة والمخاصمة والكراهية، ويوقظ في نفوسهم مشاعر القلق والملل، ويزرع في صدورهم العداوة والبغضاء.
ولهذا لما ظهر لإخوة يوسف ڠ من محبة أبيهم يعقوب ليوسف وعدم صبره عنه، وانشغاله به عنهم، سعوا في أمر وخيم، وهو التفريق بينه وبين أبيه ليصفو لهم والدهم في زعمهم، ومما لا يخفى أن الابن الصغير يكون الأب أكثر حُنُوًّا عليه من إخوانه إلا أن الشيطان كان له دور في الإضرار بيوسف عليه السلام قال الله تعالى: ﴿إِذ قالوا لَيوسُفُ وَأَخوهُ أَحَبُّ إِلى أَبينا مِنّا وَنَحنُ عُصبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفي ضَلالٍ مُبينٍ ۝ اقتُلوا يوسُفَ أَوِ اطرَحوهُ أَرضًا يَخلُ لَكُم وَجهُ أَبيكُم وَتَكونوا مِن بَعدِهِ قَومًا صالِحينَ﴾ [يوسف: ٨-٩].
وعن عامر قال سمعت النعمانَ بن بشير ﭭ وهو على المنبر يقول: أعطاني أبي عطية، قالت عَمْرَةَ بنت رواحة (يعني أمه): لا أرضى حتى تُشهدَ رسول الله ﷺ، فأتى رسولَ الله ﷺ فقال: (إني أعطيت ابني من عَمْرَةَ بنتِ رواحة عطيةً، فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله، قال: أعطيتَ سائرَ ولدك مثل هذا؟ قال: لا، قال: فاتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم، قال: فرجع فرد عطيته) رواه البخاري ومسلم.
إنَّ مما لاشك فيه أن ميول الأب سوف يكون مع من يخدمه ويطيعه ویبره، ولكن عليه ألّا يظهر حب ذلك الابن البار عند إخوانه، كما أن الابن الصغير له مكانة في القلب أكثر من الأبناء الكبار  فواجب الأبناء التنبه لذلك.
ثم إن من الأمور المطلوبة من الأب وأبنائه الوضوح في الأشياء المالية والممتلكات، بحيث يعرف الوالد الذي يخصه، ويعرف أولاده الذي يخصهم من أبيهم، ويكون الجميع على بصيرة وبرهان، ولو كان ذلك مكتوبًا لكان أفضل.
فلو كانت الأمور واضحة للأبناء، لأصبح الأمر أهون وأيسر، علمًا أن الشيطان حريص على إيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين، وبين الأقارب بالذات، لتحصل القطيعة ويسود الجفاء.
إنّ الوضوح بين الأب وأولاده يختصر كثيرًا من المسافة، فلينتبه الآباء لذلك، وليحذروا أن يوقع الشيطان العداوة بين أولادهم بسبب المال.
ومما يكون سببًا في حصول القطيعة بين الإخوة:
تأخير قسمة الميراث: فإنَّ ذلك يورث القطيعة وسوء الظن، وتحصل بسببه الانقسامات ليس بين الدول والأحزاب، ولكن بين الإخوان والأخوات، ويحصل بسببه الهجر الذي قد يمتد إلى سنوات طويلة ويحصل بسببه التفكك الأسري حتى يكون الإخوة وكأنهم ليسوا في مجتمع تحكمه الأخلاق والقيم، لا يلتقون - إن التقوا - إلا في مناسبات الأعياد أو العزاء، وقد لا يحضرون سويًا عند والدتهم، فرّقتهم المادة وقد جمعهم أبٌ واحد، بل وأمٌّ واحدة أحيانًا.
إنَّ مما يزيد في الصلة:
لزوم لين الجانب، والتغاضي والتغافل، ونسيان الخطأ، والابتعاد عن المطالبة بالمال، وتوطين النفس على الرضا بالقليل مما يأتي من الإخوة، ومراعاة أحوالهم وطباعهم وتجنب الشدة والعتاب حال وقوع الخطأ منهم، والمبادرة بالزيارة والهدية، مع  استحضار أن الإخوة لا انفكاك للإنسان عنهم، ولا بد له منهم، واستحضار أن عداوتهم شر وبلاء وفتنة، الرابح في تلك المعاداة خاسر.
ومما يبقي المودة: أن يربي الإخوة أبناءهم على محبة أعمامهم، وتقديرهم، والسلام عليهم، واصطحابهم في زيارتهم لهم، وغرس احترامهم في نفوسهم.
ومما يبقي المودة: قبول اعتذارهم، وعدم لومهم، والعفو عنهم، فإن العفو من أجمل ما تحلى به المتقون، يقول الحسن بن علي ﭭ: (لو أن رجلًا شتمني في أذني هذه، واعتذر إلي في أذني هذه لقبلت عذره) إن المسامحة سبب لراحة القلب، وسعة الصدر:
إذا ضاق صدر المرء لم يصف عيشه      ولا يستطب العيش إلا المسامح
أيها المسلمون:
قد يوجد من هو فقير لا يملك بيتًا يسكنه، ويعجز عن سداد أجرته، أو قد يفتك بجسمه المرض، وتطول عليه مواعيد المراجعة، وتعتذر عن علاجه، واستقباله العيادات الخاصة، لأنه فقير، أو قد يحتاج أولاده من بنين وبنات إلى مطالب متعددة للمدارس، من لباس، ومصروف، وأدوات مكتبية، إلى غير ذلك، ويكون أخوه غنيًا يملك الأموال الطائلة، ولكن لا يرف له جفن، ولا يتحرك به عرق؛ لمساعدة أخيه، وبعض الأغنياء يعتقدون أن الفقير إنما هو فقير المأكل والملبس والمشرب؛ ولا شك أن الذي يعجز عن ذلك فقير، ولكن مطالب الحياة تنوعت، والمصروفات تعددت، والأزمنة تغيرت، فهنيئًا لمن كان عونًا لإخوانه المسلمين وبخاصة الأقربين.
فلقد أمر الله عزوجل أن نرأف بالأقارب، وعلى رأسهم، الإخوة كما نراف بالمسكين: ﴿وَآتِ ذَا القُربى حَقَّهُ وَالمِسكينَ﴾ [الإسراء: ٢٦]، وحقهم في البذل والعطاء مقدم على حق اليتامى والفقراء: ﴿يَسأَلونَكَ ماذا يُنفِقونَ قُل ما أَنفَقتُم مِن خَيرٍ فَلِلوالِدَينِ وَالأَقرَبينَ﴾ [البقرة: ٢١٥].
السخاء على الأقارب مضاعف، يقول النبي ﷺ: (الصدقة على المسكين صدقة، وعلى القريب صدقة وصلة) رواه الترمذي.
وأول من يُتصدق عليهم الأقربون من ذوي الحاجة: تصدق أبو طلحة ﭬ ببستانه، فقال النبي ﷺ: (أرى أن تجعلها في الأقربين، فقسمها أبو طلحة على أقاربه وبني عمه) رواه البخاري ومسلم، ويقول علي ﭬ: (لأن أصل أخًا من إخواني بدرهم، أحب إلي من أن أتصدق بعشرين درهم)، ويقول الإمام الشعبي ‘: (ما مات ذو قرابة لي وعليه دين، إلا وقضيت عنه دينه).
 
أيها المسلمون:
إخوان الإنسان غير معصومین، فهم يتعرضون للزلل، وينطقون بالخطأ، فيا أيها المسلم الكريم: احرص أشد الحرص إن بدر من أخيك الشقيق، أو من جهة أبيك، أو من جهة أمك، احرص أن تلزم جانب العفو معه، وقابل إساءته بالإحسان، واقبل عذره إذا اعتذر إليك.
لقد فعل إخوة يوسف ڠ ما فعلوا بأخيهم، وعندما اعتذروا قبل عذرهم، وعفا عنهم، ولم يوبخهم، بل دعا لهم، وسأل لهم المغفرة: ﴿قالَ لا تَثريبَ عَلَيكُمُ اليَومَ يَغفِرُ اللَّهُ لَكُم وَهُوَ أَرحَمُ الرّاحِمينَ﴾ [يوسف: ٩٢].
أخوك أيها المسلم الكريم لا يملُّك عند قربك منه، ولا ينساك عند بعدك عنه، عزُّه عزُّك، وذلُّه ذلُّك، قطيعته شر، ومعاداته بلاء، يقول النبي ﷺ: (لا يدخل الجنة قاطع) رواه البخاري ومسلم يعني: (قاطع رحم).فإن كان بينك وبين أخيك شيء من القطيعة فبادر بالصلة، واعف، واصفح: ﴿ فَمَن عَفا وَأَصلَحَ فَأَجرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾ [الشورى: ٤٠].
اللهم اشرح لنا صدورنا، ويسّر لنا أمورنا، واغفر وارحم وتجاوز عنَّا وعن المسلمين.
 
***
 
المرفقات

1727357239_اجعل أخاك صديقك.docx

المشاهدات 109 | التعليقات 0