اجعلوا همكم الآخرة

سعود المغيص
1440/05/26 - 2019/02/01 08:02AM
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً.
أمّا بعد عباد الله:
اتقُوا اللهَ تعالى, واستَعِدُّوا قَبْلَ المَوتِ لِما بَعْدَ المَوْت, واجْعَلُوا الآخِرةَ هَمَّكُم, لأنَّ مَرَدَكُم إلى الله, ولا تُعْطُوا الدنيا من الاهْتِمامِ إلا بِقَدْرِ ما تَسْتَعِينُون بِه على ما يُوصِلُكُم إلى المَسْكَنِ الحَقيقي, ألا وَهُوَ الجنة. لأنَّ الدُنيا ليست مَسْكَناً للإنسان. ثُمّ اعْلَمُوا أَنَّ الإنسانَ بِطَبْعِهِ دائِمُ التَمَنِّي, وأَمانِيهِ مُتَفاوِتَةٌ ومُتَنَوِّعة. مِنْها ما يُحِبُّه الله, ومِنها ما يُسْخِطُ الله, ومِنها ما هُوَ مباح.
ومِنْ أعَظَمِ ما وَرَدَ في أَمْرِ الَتَمَنِّي يا عبادَ الله, تَمَنِّي الكافرين أو الْمُفَرِّطِين مِنْ حِينِ مُفارَقَةِ الدُّنيا, حِينَما يَنْكَشِفُ لَهُم الغِطاء. لأنَّ الكُفارَ لا يُؤْمِنُونَ بالغَيبِ, ولا يؤْمِنُونَ إلا بما يَحُسُّونَه ويَرَونَه عِياناً بِأبصارِهِم, ولا يُؤْمِنُونَ إلا بِما أَقَرَّتْهُ عقُولُهم. وأمَّا الإيمانُ بالغيبِ فإِنَّهُم يَعْتَبِرونَهُ إيمانَ الدّراويشِ, لأنَّه مُتَعَلِّقٌ بِأَمْرٍ غائِبٍ غَيْرِ مُشاهَد. وهذا هُو الفَرْقُ يا عبادَ الله, بين الإنسانِ العاقِلِ, والإنسانِ البهيمي الذي لا يؤمِنُ إلا بالأشياءِ المِحْسُوسةِ المُشاهَدة. فإنَّ الإيمانَ بالغَيبِ أَوَّلُ أوصافِ المؤمنين في القرآن. وأما الكُفارُ فإنَّهم لا يُؤْمِنُون إلا إذا رأَوا ما يُوعَدُون بِأَعْيُنِهِم, كما قال تعالى: ( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ* فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ). فإِذا انْكَشَفَ لَهُمُ الغِطاء, ورأَوا ما غابَ عَنْهُم, تَتابَعَت أمانِيهِم في جَمِيعِ ما يَسْتَقْبِلُونَه مِن مَراحِلِ الآخِرة. فَإِنَّ اللهَ تعالى ذَكَرَها لَنا في كتابِه, وبَيَّنَها بَياناً شافِياً لِنَعْتَبِرَ بِها, ونَجْعَلَها مَوْعِظَةً دائِمَةً إلى أَنْ نَلْقَى الله. فاسْمَعُوها يا عبادَ الله وتَدَبَّرُوها, وَحَرِّكُوا بِها قُلُوبَكُم. قال تعالى: ( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ). وقال تعالى:    
( وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ ), وقال تعالى: ( وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ ), وقال تعالى: ( وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ), وقال تعالى: ( وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ), وقال تعالى: ( قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ), وقال تعالى: ( وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ). فيا لَها مِنْ آياتٍ عَظيمَة, ذَكَرَ اللهُ فيها جَميعَ مَراحِلِ الآخرةِ التي تَمُرُّ على الكُفَّارِ وأمانِيهِم فيها, الأولى: عِنْدَ الاحْتِضار. والثانيةُ: يَوْمَ النُّشُور. والثالثةُ: وَقْتَ العَرْضِ على الجَبَّار. والرابعةُ: وَهُمْ يُعْرَضُونَ على النار. والخامسةُ: وَهُمْ في غَمَراتِ الجَحيم. كُلُّ ذلكَ لِنَعْتَبِرَ بِها ونَعْلَمَ يَقيناً أنَّنا لَمْ نُخْلَقْ لِلدّنْيا, ولا لِلعَيْشِ فيها. فَهَذِهِ حالُ الكُفَّارِ الذينَ تَقَلَّبُوا في الدُّنيا ومُتَعِها, وفُتِحَت لَهُم أَبوابُ عُلُومِها ونَعِيمِها ومَلَذَّاتِها, وأبْهَرُوا العِبادَ بِما يَمْلِكُونَه مِن إمكانات. يَتَمَنَّون الرُّجُوعَ إلى الدنيا, لا مِن أَجْلِ الأَهْلِ والأَوْلادِ والأصحاب, ولا لِلتَمَتُّعِ بِلَذَّاتِ الدُّنيا واقْتِطافِ ثَمَراتِها, ولا لِيَسْتَكْمِلُوا ما بَنَوهُ مِن ثَرَوات, ولا لِيَسْتَدْرِكُوا ما فاتَهُم مِن إنْجازاتٍ وابْتِكارات, وإنَّما يَتَمَنَّونَ الرُّجُوعَ لِيُؤْمِنوا باللهِ ورسولِه, ولِيَكُونوا مِن أهْلِ الصلاحِ والصلاةِ والصَّدَقةِ والذِّكْرِ والعبادة. فهذه هيَ غايَةُ أمانيهِم في الآخِرةِ, اعْمَلُوا بها في الدنيا ما دمتمُ في زَمَن الإمهال.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
 
 الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِين, وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين, وَلا عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين, وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشهدُ أَنَّ مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ, صَلَى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد:
عباد الله: إن الغَفْلةَ عن المَوْتِ وما بَعْدَه والتي اسْتَوْلَت على قُلُوبِ كثيرٍ مِنّا هي التي تُعِيقُ العبدَ عنِ السَّيْرِ إلى الله, وهي السببُ في التفريطِ والوقوعِ في المعاصي، ألا تَرَوْنَ أَنَّ اللهَ تعالى رَبَطَ ذلك بِتَذَكُّرِ اليَوْمِ الآخِرِ؟ فقد بيّن الله تعالى أنه لا يُحافِظُ على الصلاةِ إلا مَنْ تَذَكَّرَ المَوْتَ وما بَعْدَه, قال تعالى: ( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ). فَكُلُّ مَنْ قَصَّرَ في هذه العبادةِ فَلْيَعْلَمْ أَنَّ إيمانَه باليومِ الآخِرِ ضَعيفٌ. وقال تعالى في شأنِ التَمَسُّكِ بِهَدْيِ النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم: ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ). فَكُلُّ مَنْ قَصَّرَ في التَمَسُّكِ بالسُّنَّةِ فَلْيَعْلَمْ أَنَّ إيمانَه باليومِ الآخِرِ ضعيف. وقال صلى الله عليه وسلم في شأن حفظ اللسان: ( مَنْ كان يُؤْمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أو لِيَصْمُت ). فَكُلُّ مَنْ تَكَلَّمَ فيما يُسْخِطُ اللهَ, فَلْيَعْلَمْ أَنَّ إيمانَهُ باليومِ الآخِرِ ضعيف. مِمَّا يَدُلُّ على أَنَّ العبدَ يَستَحِيُل أَنْ يُقْبِلَ على اللهِ كَما يَنْبَغِي ويَنْكَفَّ عن معصيةِ اللهِ إلا إذا تَعَلَّقَ قَلْبُهُ باليومِ الآخِر.
 
المشاهدات 943 | التعليقات 0