ابنُ عَوف والمال
إبراهيم بن صالح العجلان
عبدالرحمن بن عوف والمال 22/11/1439هـ
مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ:
في المسِيْرِ إِلى غَزَاةِ تَبُوكٍ، وَمَعَ جُنْحِ الليلِ قَبْلَ الفَجْرِ خَرَجَ النبي r لِقَضاءِ حَاجَتِهِ، وَخَرَجَ مَعَهُ المغيرةُ بنُ شًعْبةَ، فَأَبْعَدُوا عن النَّاسِ وَأَبْطَأُوا، فَدَخَلَ وَقْتُ صَلَاةِ الفّجْرِ، وَمَضَى الوَقْتُ حتَّى بدأَ الإسْفَارُ، فقدَّمَ جيشُ المسلمينَ أحدَ الصَّحابةِ، فتقدَّمَ وصلَّى بِهِمْ.
فأَدْرَكَهُم النبيُّ r في الركعةِ الثَّانيةِ، فلمَّا رآه النَّاسُ سبحوا، فهمَّ هذا الصحابيُ أنْ يرجعَ مأموماً، فأشار إليه النَّبيُّ r أن يُتمَّ صلاتَه إماماً، فصلى ثم سلم بهم، وقضى رسول الله ركعته الثانية.
فيا تُرَى مَن هذا الصحابيُ الذي قُدِّمَ وتقدَّمَ للصلاة بجيش فيه ثلاثون ألفَ صَحابيٍّ.
مَنْ هذا الرَّجلُ الذي أَكْرَمَهُ اللهُ تَعالى بِصَلاةِ سَيِّدِ الأَوَّلِيْنَ والآخِرِيْنَ خَلْفَهُ.
فأَيُّ شَرَفٍ هذا الذي تَتَصَاغَرُ دُوْنَهُ الأَوْسِمَةُ.
أّمَّا مَنْ كان؟ ... فهو الغنيُ الشاكرُ، والتَّاجِرُ النَّاجِحُ، جَمَعَ الدِّينَ والدُّنيا، والعِلْمَ والعَمَلَ، والزُّهدَ والمالَ.
هو أَحَدُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، وَالْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرِينَ، ازدحمت حوله الفضائل، وتجمعت عنده الشمائل.
نحن اليوم مع أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الْقُرَشِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
والَّذِي رَفَعَ السَّماءَ لنْ نَرْفَعَ ابنَ عَوْفٍ رضي الله عنه بذكرِ فضائله، بل نحنُ الذين نَرْتَفِعْ إنْ تَعَلَّمْنَا بَعْضَ مآثِرِهِ.
لن نُوَفيَ عبدَالرحمنَ بعض حَقِّهِ في دقائقَ مَعْدوداتٍ ؛ وإنَّما حَسْبُنا أنْ نقفَ معَ صفْحَةٍ عُرِفَ بها ابنُ عَوْفٍ، وهي صَفْحَةُ المالِ.
فماذا كانُ المالُ بالنسبةِ لعبدِالرَّحمنِ رضي اللهُ عنه، وكيفَ حَصَّلَ ثَرَاءَهُ، وَماذا كان منْ خَبَرِهِ يومَ أنْ اِغْتَنَى.
لقد كانَ عبدُالرحمنِ ابنُ عوفٍ كحالِ أَهلِ مَكةَ، يَشْتَغِلُ في التِّجارة، فَكَدَّ واجْتَهَدَ، وَجَمَعَ واكْتَسَبَ، فلمَّا أَمَرَ النَّبيُّ r بالهِجَرَةِ إلى المدينةِ خَرَجَ مُهاجراً إلى اللهِ ورسولهِ، وَلِسَانُ حَالِهِ:
وَإِذَا الدِّيَارُ تَغَيَّرَتْ عَنْ حَالِهَا *** فَدَعِ الدِّيَارَ وَبَادِرِ التَّحْوِيلَا
لَيْسَ الْمَقَامُ عَلَيْكَ فَرْضًا وَاجِبًا *** فِي بَلْدَةٍ تَدَعُ الْعَزِيزَ ذَلِيلَا
نَعَمْ... خَرج عبدُالرحمنَ مِنْ مكةَ عائلاً فقيراً، لا يَملكُ إلا إزارَه ورداءَه، ولكنَّه يَملكُ العقلَ الذي جَمَعَ به الثَّراءَ.
دَخَلَ ابْنُ عَوْفٍ الْمَدِينَةَ مُعْدِمًا، لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَآخَى النَّبِيُّ r بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، فَقَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ، بِحَفَاوَةٍ إِيمَانِيَّةٍ صَادِقَةٍ، وَكَرَمٍ عَرَبِيٍّ أَصِيلٍ: "يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، أَنَا أَكْثَرُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَالًا، فَانْظُرْ شَطْرَ مَالِي فَخُذْهُ، وَتَحْتِي امْرَأَتَانِ، فَانْظُرْ أَيَّتُهُنَّ أَعْجَبُ لَكَ حَتَّى أُطَلِّقَهَا لَكَ وَتَتَزَوَّجَهَا".فَقَالَ لَهُ: "بَارَكَ اللهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلُّونِي عَلَى سُوقِ الْمَدِينَةِ".
يَقُولُ الْمُصْطَفَى r:"مَا فَتَحَ إِنْسَانٌ عَلَى نَفْسِهِ بَابَ مَسْأَلَةٍ، إِلَّا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ".
وَمَفْهُومُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا عَفَّ عَنِ الْمَسْأَلَةِ، وَاتَّقَى رَبَّهُ فِي طَلَبِ الْحَلَالِ، أَغْلَقَ اللهُ دُونَهُ أَبْوَابَ الْفَقْرِ، وَهَكَذَا كَانَ ابْنُ عَوْفٍ، بِسَبَبِ عَفَافِ يَدِهِ، وَشَرَفِ نَفْسِهِ، فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ بَابَ الرِّزْقِ.
فهذه أَبْرَزُ خَصْلة امتازَ بها ابنُ عوفٍ ضي الله عنه، وهي العِفَّة، وشَرَفُ النَّفْسِ عما في أَيْدي النَّاس، مع أنه عُرضَ عليه المالُ من سعدِ بنِ الرَّبيعِ وهو المليءُ الكريم، وَوَقْتَها كانَ عبدُالرحمن في أشدِّ حاجتِهِ للمالِ، ولكنَّ عزَّةَ النَّفسِ مَنَعَتْ أهلَها الذين تَرَبَّوا عليها.
دَخَلَ ابْنُ عَوْفٍ سُوقَ الْمَدِينَةِ وَعُمْرُهُ ثَلَاثٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً، وَكَانَ صُنَّاعُ السُّوقِ وَسَمَاسِرَتُهُ مِنْ يَهُودِ بَنِي قَيْنُقَاعٍ، فَلَمْ يُثْنِ عَزِيمَتَهُ، وَلَمْ يَفُتَّ فِي هِمَّتِهِ هَذَا الِاحْتِكَارُ الْيَهُودِيُّ، بَلْ دَخلَ السُّوقَ حَمَّالاً، واحتطب، ودرسَ حاجةَ الناس، ثم اشْتَرَى بما تيسر وَبَاعَ، وَرَبَحَ وَادَّخَرَ، وَهَكَذَا سَارتْ بِهِ الْأَيَّامُ، وَهُوَ يَكْدَحُ فِي الْعَمَلِ وَطَلَبَ الْحَلَالَ وَالْعَفَافَ.
وهذه خَصْلةٌ أُخرى في فَهْمِ ابنِ عَوْفٍ للمال، وهو أنَّ المالَ مالُ الله، والرِّزقَ بيدِ مَنْ بِيده خزائنُ السمواتِ والأرضِ، فلَمْ يَلْتَفت إلى سُوءِ وضع السُّوق، واحتكارِ العدو، بل فَعَلَ ما يقدرُ عليه، والإنسان مأمور بفعل الأسباب، وترك النتائج لمن خلق الإنسان من تراب.
رَآهُ النَّبِيُّ rبَعْدَ مُدَّةٍ، فِي هَيْئَةٍ حَسَنَةٍ، وَعَلَيْهِ أَثَرُ الطِّيبِ، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا ابْنَ عَوْفٍ؟، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: "بَارَكَ اللهُ لَكَ، أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ".
وهذه خَصْلةٌ أُخرى في نَظْرةِ ابنِ عوف رضي الله عنه للمالِ، وهي الاستفادةُ من المالِ بالحلالِ، والتحدثُ بنعمةِ الله تعالى.
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ:
ومِنْ أَبْرزِ مَعَالمِ شخصيةِ ابنِ عوف مع المال: جِدُّهُ وحَمَاسَتُهُ فِي تِّجَارَته، وَذَكَاؤُهُ فِي اسْتِجْلَابِ السِّلَعِ، وَطَرِيقَةِ تَصْرِيفِهَا، فقد كانَ ابنُ عوفٍ يَتَمتَّعُ بعقلٍ تجاريِّ في اقتناص البضائع، مع مع ذكاءٍ في تَصْريفها، وحرصٍ على عدمِ تكدُّسِهِا، وقناعةٍ في مَكْسَبِها.
يختصرُ لنا ابنُ عوفٍ تجربتَه التجاريةِ في قولِهِ حين سَأَلَهُ أَحَدُ أَصْحَابِهِ: "بِمَ أَدْرَكْتَ مِنَ التِّجَارَةِ مَا أَدْرَكْتَ؟ فَقَالَ: لِأَنِّي لَمْ أَشْتَرِ مَعِيبًا، وَلَمْ أُرِدْ رِبْحًا كَثِيرًا، وَاللهُ يُبَارِكُ لِمَنْ يَشَاءُ".
وَبَارَكَ اللهُ لِابْنِ عَوْفٍ فِي تِجَارَتِهِ، فَكَانَ لَا يَشْتَرِي شَيْئًا إِلَّا رَبِحَ فِيهِ، حَتَّى قَالَ عَنْ نَفْسِهِ مُتَعَجِّبًا: "لَقَدْ رَأَيْتُنِي لَوْ رَفَعْتُ حَجَرًا، لَوَجَدْتُ تَحْتَهُ فِضَّةً وَذَهَبًا".
باركَ اللهُ لعبدالرحمنَ واغتنى، بسبب جِده وصدْقِه، واتِّقائِه الكسبَ الخبيثَ، وبُعْدِهِ عن الغشِ، وتَنْفِيقِ السِّلعِ بالأَيْمانِ الكاذبةِ، وَأَكْلِ أَمْوالِ الناس بالباطل.
وَهَكَذَا أَصْبَحَ الْفَقِيرُ الْمُعْدِمُ فِي سَنَوَاتٍ مَعْدُودَةٍ مِنْ أَثْرِيَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَمِنْ أَصْحَابِ الْأَمْوَالِ الضَّخْمَةِ وَالْأَرْصِدَةِ الْعَالِيَةِ.
عِبَادَ اللهِ: أَخْبَرَنَا رَبُّنَا –تَعَالَى- أَنَّ الْمَالَ يَفْتِنُ الْعَبْدَ وَيُلْهِيهِ، وَهُوَ سِلَاحٌ ذُو حَدَّيْنِ، إِمَّا أَنْ يُنْجِيَ أَوْ يُرْدِيَ؛ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}.
لَكِنَّ ابْنَ عَوْفٍ كَانَ لَهُ شَأْنٌ؛ وَأَيُّ شَأْنٍ مَعَ هَذَا الْمَالِ، نَعَمْ، لَقَدْ عَرَفَ ابْنُ عَوْفٍ كَيْفَ يَجْمَعُ الْمَالَ، وَلَكِنَّهُ أَيْضًا، عَرَفَ كَيْفَ يُحْسِنُ اسْتِخْدَامَ هَذَا الْمَالِ، لَمْ يَكُنْ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَدَّاسًا لِلثَّرَوَاتِ، جَمَّاعًا لِلْمَالِ، فِي غَيْرِ نَفْعٍ وَلَا مَنْفَعَةٍ، فَسُبْحَانَ مَنْ خَلَقَ السَّخَاءَ وَالْإِنْفَاقَ، ثُمَّ سَلَّمَهُ لِابْنِ عَوْفٍ!
كَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَا يَهْنَأُ إِلَّا بِإِنْفَاقِ الْمَالِ، سِرًّا وَجَهْرًا، فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، حَتَّى مَلَكَ الْقُلُوبَ بِمَالِهِ، فَشَاطَرَهُ بِالِانْتِفَاعِ فِي هَذَا الْمَالِ أَهْلُهُ وَأَقَارِبُهُ، وَإِخْوَانُهُ وَمُجْتَمَعُهُ، حَتَّى قِيلَ: "كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ عِيَالًا عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَن ِبْنِ عَوْفٍ: ثُلُثٌ يُقْرِضُهُمْ مَالَهُ، وَثُلُثٌ يَقْضِي دَيْنَهُمْ، وَيَصِلُ ثُلُثًا".
سَمِعَ النَّبِيَّ r يَدْعُو النَّاسَ لِلصَّدَقَةِ، لِكَيْ يُجَهِّزَ سَرِيَّةً، فَذَهَبَ إِلَى بَيْتِهِ مُسْرِعًا ثُمَّ عَادَ، وَنَثَرَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ r أَرْبَعَةَ آلَافِ دِينَارٍ، هِيَ نِصْفُ مَالِهِ، فَدَعَا لَهُ النَّبِيُّ r فِي مَالِهِ.
قَدَّمَ يَوْمًا لِجُيُوشِ الْإِسْلَامِ خَمْسَمِائَةِ فَرَسٍ، وَمَرَّةً أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةِ رَاحِلَةٍ.
بَاعَ يَوْمًا أَرْضًا بِأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَقَسَّمَهَا فِي فُقَرَاءِ أَقَارِبِهِ، وَالْمُهَاجِرِينَ وَأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ.
فِي غَزْوَةِ تَبُوكٍ، حِينَمَا كَانَتِ الْحَاجَةُ لِلْمَالِ أَكْثَرَ مِنَ الرِّجَالِ، أَنْفَقَ ابْنُ عَوْفٍ إِنْفَاقَاً يعجز عنه الكرماء.
وَتَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ عَظِيمَةٍ، حَتَّى قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بَعْدَ أَنْ رَأَى كَثْرَةَ صَدَقَتِهِ: "إِنِّي لَا أَرَى عَبْدَ الرَّحْمَنِ إِلَّا مُرْتَكِبًا إِثْمًا، فَمَا تَرَكَ لِأَهْلِه شَيْئًا!".
وَغَمَزَهُ الْمُنَافِقُونَ وَلَمَزُوهُ بِالرِّيَاءِ، مِنْ كَثْرَةِ مَا جَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ r، فَأَنْزَلَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ}.
كَانَ دَائِمًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَا يَتَفَقَّدُ أَحْوَالَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، يَنْهَضُ بِحَوَائِجِهِنَّ، وَيَسْعَى فِي أُمُورِهِنَّ، وَيَحُجُّ مَعَهُنَّ إِذَا حَجَجْنَ.
أَرْسَلَ يَوْمًا مَالًا وَفِيرًا لِعَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فَقَالَتْ: "سَقَى اللهُ ابْنَ عَوْفٍ مِنْ سَلْسَبِيلِ الْجَنَّةِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ r يَقُولُ: لَا يَحْنُو عَلَيْكُنَّ بَعْدِي إِلَّا الصَّابِرُونَ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: وَمَعَ هَذَا الْمَالِ وَتِلْكَ الثَّرْوَةِ، إلا انه هذا المال لم يُطغيه، ، فقد كَانَ ابْنُ عَوْفٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَحْمِلُ بَيْنَ جَنْبَيْهِ نَفْسًا عَظِيمَةً مُتَوَاضِعَةً، لَا تَعْرِفُ الْكِبْرَ وَلَا التَّعَالِيَ، حَتَّى قِيلَ: "لَوْ رَآهُ غَرِيبٌ لَمْ يَعْرِفْهُ بَيْنَ عَبِيدِهِ وَخَدَمِهِ".
ورغم اتِّجار عبدالرحمن وسعيه فيه، إلأ أنَّ هذا لم يصدَّهُ عن طاعةِ ربِّه أو يلهيه، فقد كان صَوَّامًا قَوَّامًا، شُجَاعًا مِقْدَامًا، لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنِ النَّبِيِّ r فِي غَزْوَةٍ قَطُّ، وَهو مِنَ الْقِلَّةِ الَّذِينَ ثَبَتُوا بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ r يَوْمَ أُحُدٍ، فَهُتِمَ فَمُهُ، وَسَقَطَتْ ثَنِيَّتَاهُ، وَخَرَجَ مِنْ هَذِهِ الْغَزْوَةِ وَفِيهِ بِضْعَةٌ وَعِشْرُونَ جُرْحًا، بَعْضُهَا عَمِيقٌ تَدْخُلُ فِيهِ يَدُ الرَّجُلِ.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِهَدْيِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ.....
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
أَمَّا بَعْدُ: فَيَا عِبَادَ اللهِ:
وَمِنْ مَعَالِمِ شَخْصِيَّةِ ابْنِ عَوْفٍ مع المال أنَّه لم يكن متعلقاً شحيحاً به، بل كان المال في يده، وليس في قلبه، لا يكترث إنْ ذهبَ، ولا يَبْطُرُ إذا زاد، وهذا هو عين الزُّهد.
لقد كَانَ ابْنُ عَوْفٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كثيراً ما يذكر حاله قبل غناه، فيرق قلبه، وتَدْمَعُ عَيْنُهُ، وَيَبْكِي كَثِيرًا إِذَا تَذَكَّرَ الْحَالَ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا نَبِيُّهُ وَحَبِيبُهُ r.
اجْتَمَعَ يَوْمًا بَعْضُ أَصْحَابِهِ عِنْدَهُ عَلَى طَعَامٍ لَهُ، وَمَا كَادَ الطَّعَامُ يُوضَعُ حَتَّى بَكَى ابْنُ عَوْفٍ، فَسَأَلُوهُ: مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ؟ فَقَال: "لَقَدْ مَاتَ رَسُولُ اللهِ r وَمَا شَبِعَ هُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ".
جِيءَ لَهُ بِإِفْطَارِهِ يَوْمًا، وَكَانَ صَائِمًا، فَلَمَّا وَقَعَتْ عَيْنُهُ عَلَى الطَّعَامِ جَالَ فِي خَاطِرِهِ شَرِيطُ الذِّكْرَيَاتِ، فَتَذَكَّرَ إِخْوَانَهُ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ، وَالْحَالَ الَّتِي مَاتُوا عَلَيْهَا، فَفَقَدَ شَهِيَّةَ الطَّعَامِ، وَسَكَبَتْ عَيْنُهُ دَمَعَاتٍ حَارَّاتٍ، وَقَال: "اسْتُشْهِدَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ -وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي- فَكُفِّنَ فِي بُرْدَةٍ، إِنْ غَطَّتْ رَأْسَهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ، وَإِنْ غَطَّتْ رِجْلَيْهِ بَدَا رَأْسُهُ، وَاسْتُشْهِدَ حَمْزَةُ -وَهُوَ خَيْرٌ منِّي- فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ إِلَّا بُرْدَةٌ، ثُمَّ بُسِطَ لَنَا مِنَ الدُّنْيَا مَا بُسِطَ، وَأُعْطِينَا مِنْهَا مَا أُعْطِينَا، وَإِنِّي لَأَخْشَى أَنْ تَكُونَ قَدْ عُجِّلَتْ لَنَا حَسَنَاتُنَا"، ثُمَّ أَمَرَ بِالطَّعَامِ فَرُفِعَ.
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ جَاءَهُ أَمْرُ اللهِ، الَّذِي لَا يُخْطِئُ أَحَدًا مِنَ الْبَشَرِ، فَمَرِضَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَلَازَمَتْهُ الْأَوْجَاعُ، فَلَزِمَ بَيْتَهُ شَهْرًا، وَكَانَ فِي أَيَّامِهِ تِلْكَ كَثِيرَ الصَّوْمِ وَالِاسْتِغْفَارِ.
وَفِي آخِرِ حَيَاتِهِ أَوْصَى بِكَثِيرٍ مِنْ مَالِهِ، فَأَوْصَى بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ صَدَقَةً فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَوْصَى بِأَلْفِ فَرَسٍ لِجُيُوشِ الْإِسْلَامِ، وَأَعْتَقَ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ مَمَالِيكِهِ، وَلَمْ يَنْسَ إِخْوَانَهُ أَهْلَ بَدْرٍ، فَأَوْصَى لَهُمْ مِنْ مَالِهِ، وَكَانُوا مِائَةً، فَأُعْطِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ.
وَفِي أَيَّامِهِ تِلْكَ عَرَضَتْ عَلَيْهِ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنْ يُدْفَنَ فِي حُجْرَتِهَا إِلَى جِوَارِ الصِّدِّيقِ وَالْفَارُوقِ، فَاعْتَذَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ هَذَا التَّشْرِيفِ الْعَظِيمِ؛ لِأَنَّهُ تَذَكَّرَ مِيثَاقَهُ وَعَهْدَهُ مَعَ أَخِيهِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، عِنْدَمَا تَوَافَقَا وَتَعَاهَدَا أَيَّامَ حَيَاةِ النَّبِيِّ r أَيُّهُمَا مَاتَ بَعْدَ الْآخَرِ أَنْ يُدْفَنَ إِلَى جِوَارِ صَاحِبِهِ.
وَمَا هِيَ إِلَّا أَيَّامٌ قَلَائِلُ، حَتَّى فَاضَتْ رُوحُهُ الزَّكِيَّةُ، وَلَقِيَ رَبَّهُ مُؤْمِنًا صَادِقًا زَاهِدًا، بَعْدَ حَيَاةٍ مَلِيئَةٍ بِالْعِلْمِ وَالتُّقَى، وَالْبَذْلِ وَالْإِنْفَاقِ، وَتَأَثَّرَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِرَحِيلِهِ، وَبَكَوا عَلَيْهِ أياماً.
وَفِي الْبَقِيعِ ثُوِيَ جُثْمَانُ ذَاكَ الْجَوَادِ الْكَرِيمِ، مَعَ إِخْوَانِهِ الصَّحْبِ الْكِرَامِ، رَحَلَ ابْنُ عَوْفٍ لَكِنَّ اسْمَهُ وَنَفَقَاتِهِ سَتَبْقَى مَحْفُورَةً فِي ذَاكِرَةِ الْإِسْلَامِ إِلَى أَنْ يَرِثَ اللهُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا، وَسَتَبْقَى الْأُمَّةُ تذكرُه، وتَتَرَضَّى عَنْهُ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَشْهَدُ أَنَّا نُحِبُّ مُحَمَّدًا وَصَحْبَ مُحَمَّدٍ، فَاللَّهُمَّ احْشُرْنَا فِي زُمْرَتِهِمْ، وَاجْمَعْنَا بِهِمْ فِي جَنَّتِكَ وَرَحْمَتِكَ، مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ.
صَلُّوا بعد ذلك على إمام المرسلين، وحبيبِ ربِّ العالمين....