إِيذَاءٌ وَبرَاءةٌ ! 1443/2/24هـ

يوسف العوض
1443/02/21 - 2021/09/28 04:21AM

الخطبة الأولى

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي سَبَّحتْ الْكَائِنَاتُ بِحَمْدِه وعنَتِ الوُجوهُ لِعَظَمَتِه وَمَجْدِه وَأَشْهَدُ ألَّا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وصلى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وَبَارِك عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا ، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) وبعد ،،،

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : الْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ ، وخُلُقٌ عَظِيمٌ جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ ، وَهُوَ مِنْ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ الَّتِي أَمَرَنَا دِينُنَا بِالتَّحَلِّي بِهَا ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم : « الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً ، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ  وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ  وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ » رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَمَا أحَوَجَنَا فِي زَمَانِنَا هَذَا أَنْ نَتَّخِذَه مَنْهَجاً لَنَا في حَيَاتِنا عَلَى مُسْتَوَى الفردِ والمجتمعِ ، يقولُ ابْنُ الْقَيِّمِ رحمه الله : « الْحَيَاءُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْحَيَاةِ ، فَإِنَّ الْقَلْبَ الْحَيِّ يَكُونُ صَاحِبُهُ حيًّا فِيه حَيَاءٌ يَمْنَعُهُ عَنْ الْقَبَائِحِ ، فَإِنَّ حَيَاةَ الْقَلْبِ هِي الْمَانِعةُ مِنْ الْقَبَائِحِ الَّتِي تُفسِدُ الْقَلْبَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « إِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الْإِيمَانِ » رواه البخاري .

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ :لَنَا وَقْفةٌ الْيَوْمَ مَعَ أُنْمُوذَجٍ رَائِعٍ مِن الرُّقِيِّ فِي مَرَاتِبِِ الْكَمَالَاتِ وَدَرَجَاتِ الفَضِيلةِ نَقْتَبِسُ مِنْه نُورًا وَنَعِيشُ مَعَهُ هِدَايَةً يتَمثَّلُ في حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا لَا يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالُوا مَا يَسْتَتِرُ هَذَا التَّسَتُّرَ إِلَّا مِنْ عَيْبٍ بِجِلْدِهِ إِمَّا بَرَصٌ وَإِمَّا أُدْرَةٌ وَإِمَّا آفَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ مِمَّا قَالُوا لِمُوسَى فَخَلَا يَوْمًا وَحْدَهُ فَوَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَى الْحَجَرِ ثُمَّ اغْتَسَلَ فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ إِلَى ثِيَابِهِ لِيَأْخُذَهَا وَإِنَّ الْحَجَرَ عَدَا بِثَوْبِهِ فَأَخَذَ مُوسَى عَصَاهُ وَطَلَبَ الْحَجَرَ فَجَعَلَ يَقُولُ ثَوْبِي حَجَرُ ثَوْبِي حَجَرُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَلَإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا أَحْسَنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ وَأَبْرَأَهُ مِمَّا يَقُولُونَ وَقَامَ الْحَجَرُ فَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَلَبِسَهُ وَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا بِعَصَاهُ فَوَاللَّهِ إِنَّ بِالْحَجَرِ لَنَدَبًا مِنْ أَثَرِ ضَرْبِهِ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا فَذَلِكَ قَوْلُهُ "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا" رواه البخاري ومسلم

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : كان الأنبياءُ أكثرَ النَّاسِ اتِّصافًا بهذه الصِّفةِ الكريمةِ؛ فقدْ كان نبيُّنا محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أشدَّ حياءً مِن العَذراءِ في خِدْرِها، وكذلك نبيُّ اللهِ موسى عليه السلامُ كان حيِّيًا ، وفي هذا الحديثِ إخبارٌ مِن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن حَياءِ موسى عليه السَّلامُ، فكان مِن حيائِه ألَّا يغتسِلَ عاريًا، على الرَّغمِ مِن أنَّ بني إسرائيلَ كانوا يَغتسلون عُراةً، ولا يجِدونَ في ذلك شيئًا، ويَحتمِلُ أنَّ هذا كان جائزًا في شرعِهم، وقيل: لعلَّ ذلك كان في التِّيهِ؛ لانعدامِ العِماراتِ فيها، وقيل: كان التعرِّي حرامًا عندَهم، لكنَّهم كانوا يَتساهَلون في ذلك، ويَفعَلونه معاندةً للشَّرعِ، ومُخالَفةً لموسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وهذا مِن جملةِ عُتُوِّهِم، وقِلَّةِ مُبالاتِهم باتِّباعِ شرعِه ، وكان موسى عليه السَّلامُ لا يَتعرَّى أمامَ أحدٍ عندَ الاغتِسالِ، ولَمَّا رأى بنو إسرائيلَ امتِناعَ موسى عن الاغتسالِ عاريًا كما يفعَلون، شنَّعوا عليه، وقالوا: إنَّه آدَرُ أي: عظيمُ الخُصْيتَيْنِ، فذهَب مرَّةً يَغتسِلُ فوضَع ثَوبَه على حجَرٍ، فأراد اللهُ أن يُظهِرَ زَيْفَ قولِهم وادِّعاءَهم على موسى عليه السَّلامُ، ففرَّ الحجَرُ وجرى بقُدرةِ الله بثَوبِ موسى عليه السَّلامُ وهو يُلاحِقُه ويجري خَلْفَه، ويقولُ: ثَوْبي يا حجَرُ، وإنَّما خاطَبه موسى عليه السَّلامُ؛ لأنَّه أجراهُ مجرى مَن يعقِلُ؛ لكَونِه فرَّ بثَوبِه، فانتقَل عندَه مِن حُكمِ الجمادِ إلى حُكمِ الحيوانِ، فناداهُ، فلمَّا خرَج موسى وهو عارٍ رآه بنو إسرائيلَ، فعلِموا أنَّه صحيحُ الجسَدِ، وقيل: يَحتمِلُ أنَّه كان عليه مِئزرٌ رقيقٌ فظهَر ما تحتَه لَمَّا ابتلَّ بالماءِ، فرأَوْا أنَّه أحسَنُ الخَلقِ، فزالَ عنهم ما كان في نُفوسِهم. فقالوا: واللهِ ما بموسى مِن بأسٍ ولا عَيبٍ، فلحِق موسى بالحجَرِ، وأخَذ ثوبَه ولَبِسَه، ثمَّ ضرَب الحجَرَ حتَّى أحدَثَ في الحجَرِ سِتَّ أو سبْعَ نَدباتٍ، وهي آثارُ الضَّربِ بحيثُ يَتبيَّنُ للناظرِ عدَدُها ستَّة آثارٍ أو سبعة آثارٍ ، وَهَذَا مِنْ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي يُجْرِيهَا اللَّهُ عَلَى يَدِ أنبياءِه .

مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِين : حِينَمَا يَسُودُ الحياءُ فِي الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ فَإِنَّهُ يَرْتَفِعُ بِأَخْلاَقِ أَفْرَادِه ، ويسمو بِآدَابِهِم ، وَيَشِيعُ بَيْنَهُم الْخِصَالُ الْكَرِيمَةُ وَالْفَضَائِلُ الْحَمِيدَةُ ، وَلَا يَأْتِي عَلَيْهِمْ إلَّا بِخَيْرٍ ؛ فَفِي صحيح مسلم : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- : "  الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ " وَإِذَا انْعَدَمَ صَارَ وَصْمَةَ عَارٍ فِي كُلِّ مُجْتَمَعٍ لَا يَتَمَثَّلُ به .   

اللهمَّ جَمِّلنا بِخَيْرِ الْأَخْلَاقِ وَالصِّفَاتِ ، وَارْزُقنا والْمُسْلِمِينَ الحياءَ وَالْعِفَّةَ وَالْفَضِيلَة وَالْحِشْمَةَ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ يَا رَبِّ الْعَالَمِينَ ..

 

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ على إحْسانه والشُّكرُ له على توفيقِه وامتِنانه وأشهدُ أن لا إلهَ إلاَّ الله وحْده لا شريكَ له تعظيمًا لشأنِه وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه الدَّاعي إلى رضْوانه صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وصحْبِه وإخوانِه وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ وبعدُ .

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ :عَنْ عَطَاءَ بنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: قَالَ لِي ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا: أَلَا أُرِيْكَ امرَأَةً مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ؟ قُلتُ: بَلَى، قَالَ: هَذِهِ المَرْأَةُ السَّودَاءُ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم فَقَالَتْ: إِنِّي أُصْرَعُ ، وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ ، أَي: خَشِيَتْ أَن تَظهَرَ عَورَتُهَا وَهِيَ لَا تَشعُرُ ، فَادْعُ اللَّهَ لِي - أَي: بِالعَافِيَةِ مِن هَذَينِ الأَمرَينِ -؛ قَالَ: «إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ» فَقَالَتْ: أَصْبِرُ، فَقَالَتْ: إِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا .

مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِين : فَهَذِهِ المَرْأَةُ سَوْدَاءُ، لَكِنْ قَلبُهَا أَبْيَضُ قَدْ تَصْبِرُ عَلَى المَرَضِ، وَلَكِنَّهَا لَا تَسْتَطِيْعُ الصَّبْرَ عَلَى خَدْشِ الحَيَاءِ، وَجَرْحِ العَفَافِ؛ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إِرَادَتِها ، فسُبحانَ اللهِ حَرَصَتْ عَلَى عَدَمِ التَّكَشُّفِ وَسَترِ العَورَةِ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ المَفَاسِدِ مَا لَا يَخفَى، أَلَمْ يَأْنِ لِلنِّسْوَةِ فِي هَذَا الزَّمَنِ العَصِيبِ: أَنْ يَقْتَدِيْنَ بِهَذِهِ المَرْأَةِ، وَيَتَرَبَّيْنَ عَلَى العَفَافِ وَالحَيَاءِ؟!َ

اللَّهُمَّ اهْدِنَا لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ فَإِنَّهُ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إلَّا أَنْتَ ، وَاصْرِفْ عَنَّا سَيِّئَهَا لا يصرفُها عنَّا إلَّا أَنْتَ ، اللَّهُمَّ إنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَاف وَالْغِنَى بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ .

 

المرفقات

1632911206_إيذاء وبراءة.pdf

المشاهدات 1235 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا