إن لكل دين خلقاً, وخلق الإسلام ...

عبدالله اليابس
1439/08/10 - 2018/04/26 19:20PM
الحياء                                   الجمعة 11/8/1439هـ  
الحمد لله رب الأرض والسماء، خلق آدم وعلمه الأسماء, وأسجد له ملائكتَه وأسكنه الجنة دار البقاء, وحَذَّرَه من الشيطان أَلَدِّ الأعداء، ونزل القرآن لما في الصدور شفاء، فأضاءت به قلوب العارفين والأتقياء, نحمده تبارك وتعالى على النعماء والسراء، ونستعينه على البأساء والضراء, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ليس له أنداد ولا أشباه ولا شركاء, وأشهد أن سيدنا محمدًا خاتَم الرسل والأنبياء, جمَّله ربُه بالأخلاق وزَيَّنَه بالحياء, اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وصحابته الأجلاء, ما تعاقب الصبح والمساء, وسلم تسليمًا كثيراً.
أمَّا بعدُ: فأوصِيكُمْ ونَفْسي بِتَقْوى اللهِ: (فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم .. ما أحوجنا في مثل هذه الأيام .. بل في كل الأيام .. إلى أن نتكلم عن خُلُق عظيم .. هو مفتاح من مفاتيح الخير.. بل مفتاح من مفاتيح الجنة.. وشُعبة من شُعَب الإيمان .. خُلُقٌ يحبه الله تعالى .. ويُحِبُ المُتَصِفَ به.. خُلُقٌ لا يأتي إلا بخير كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم .. إنه خلق الحياء.
 الحياء .. خُلُقٌ يبعث على فعلِ كُلِّ مَليح .. وتركِ كل قبيح، هو صفة من صفات النفس المحمودة.. زِينة الإيمان، وشِعار الإسلام؛ روى ابن عباس كما عند ابن ماجه وغيره وحسنه الألباني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لكل دين خُلقًا، وخُلُقُ الإسلام الحياء).
الحياء كاسمه .. فهو من الحياة .. ولا يقابل الحياةَ إلا الموت..
الحياء خَصلة فطرية .. هذا أبونا آدم وأمنا حواء .. لما انكشفت عوراتهما أسرعا يسترانها بأقرب ما تصل إليه أيديَهُما .. {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ}.
الحَيِّيُّ موعود بالجنة بإذن الله.. روى الترمذي وابن حبان وغيرهما وصححه الألباني من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ، وَالْإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ، وَالْبَذَاءُ مِنَ الْجَفَاءِ، وَالْجَفَاءُ فِي النَّارِ).
الحياء خلق عظيم .. ومن عظمته أنه صفة للرحمن سبحانه وتعالى.. روى أبو داوود وغيره وصححه الألباني من حديث يعلى بن أمية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ اللهَ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسِّتْرَ، فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ).
وإذا كان الله حييًا فإنه يحب الشخصَ المتصفَ بالحياء .. روى البيهقي وصححه الألباني من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ اللَّه تعالى إذا أنعم على عبد يُحب أن يرى أثر النعمة عليه, ويَكره البؤس والتباؤس، ويُبغض السائل المُلحِف, ويُحِب الحيي العفيف المُتعفِف).
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم متصفًا بهذه الصفة .. كما روى البخاري ومسلم عن حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا ، وَكَانَ إِذَا كَرِهَ شَيْئًا عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ"
الحياء مفتاح لكل خير .. مغلاق لكل شر.. فهو يدعو لترك الشرور والمنكرات .. حياء من الله أو حياء من الناس, روى البخاري في صحيحه من حديث أبي مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ ممَّا أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت).
يظن البعض أنه يتزين بفُحشه في قوله أو ملبسه أو فعله .. وما علِم أن الحياء زينة وبهاء.. يتزين به الرجال والنساء.. روى الترمذي وغيره وصححه الألباني من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَا كَانَ الْفُحْشُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا شَانَهُ، وَلَا كَانَ الْحَيَاءُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا زَانَهُ).
قال بعض الحكماء: " من كساه الحياءُ ثوبَه لم يَرَ الناسُ عيبَه".
وقال بعض البلغاء: " حياةُ الوجه بحيائه ,كما أن حياةَ الغرسِ بمائه".
وقال بعضهم: "يا عجباً! كيف لا تستحي من كثرة ما لا تستحي، وتتقي من طول مالا تتقي" ؟!
إذا قَلَّ ماءُ الوجه قَلَّ حياؤه ***ولا خير في وجهٍ إذا قَلَّ مَاؤهُ 
حياؤك فاحفظهُ عليكَ وإنما *** يَدُلُّ على فِعل الكريمِ حياؤه
 ومن كلام بعض الحكماء: "أحيوا الحياء بمُجالسة من يُستحى منه".
روى البخاري ومسلم من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحياءُ لا يأتي إلا بخير).
قال ابن القيم رحمه اللَّه: "الحياء من أعظمِ الأخلاق وأكرمِها, ذلك لأنه مصدر الفضائل، فالولد يَبَرُّ بوالديه بسبب الحياء، وصاحب الدار يُكرم ضيفَه بسبب الحياء، والعبد يفي بالموعد بسبب الحياء أيضا، لذلك عندما سئل المصطفى عليه الصلاة والسلام قال: (إن لكل دين خلقا، وخلق الإسلام الحياء)".
الحياءُ خير كله .. وهناك شعرةٌ دقيقةٌ بين الحياءِ والخجل .. فإنَّ المرء إذا استحيا من إنكار منكر على سبيل المثال فليس هذا بحياء محمود بل هو خجل مذموم .. وإذا كان الحياء من شُعب الإيمان فإنَّ ترك إنكار المنكرات ليس من الإيمان في شيء .. فإذا كان الإنكار بالقلب أضعف الإيمان فما بالك بترك الإنكار بالكلية؟
كذلك لا يدخل في الحياء ترك السؤال عن العلم .. قالت عائشة رضي الله عنها: "نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ، لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ".
إن الحياء وَسَطٌ بين نقيضين: وسط بين الخجل والذي يمنع من فعل الحقِ والخيرِ والصواب .. وبين البجاحة التي تُجرِّئُ على مساوئ الأخلاق ..
إذا لم تخشَ عاقبة الليالي *** ولم تستحِ فاصنع ما تشاءُ
فلا والله ما في العيش خير *** ولا الدنيا إذا ذهب الحياءُ
يعيش المرء ما استحيا بخيرٍ *** ويبقى العود ما بقي اللحاءُ
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم, ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, قد قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ.. {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
فيا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. هذا هو الحياء .. وهذه منزلته عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم وعند الناس ..
والأمة اليوم ولله الحمد لا زال فيها الخير والحياء باقٍ بفضل الله سبحانه ..
إلا أن بعضًا من أبنائها وبناتها ظَنُّوا أنَّ في خلعِ الحياءِ فضيلة ..
فالبعض يصوِّرُ نفسه في وسائل التواصل الاجتماعي في أحوال أقل ما يقال عنها أنها تخرم مروءته, ولا يمكن لشخص سوي الحياء أن يفعل مثل تلك التصرفات أمام من يُستحيى منه, والدافع لأولئك إما فساد الذائقة بكثرة متابعة التافهين قليلي الحياء .. فيتأثرُ بهم .. وإما رغبةُ الوصول إلى الشهرة بمثل هذه التصرفات ..
قال ابن الجوزي في كتابه (المنتظَم): "بينما الحُجّاجُ يطُوفون بالكعبةِ ويَغرِفُون الماءَ من بئرِ زمزمٍ، إذ قامَ أعرابيٌّ فحسَرَ عن ثوبه، ثمّ بالَ في البئرِ والنّاسُ يَنظُرون! فما كانَ منهم إلا أن انهَالُوا عليه بالضّربِ حتى كادَ أن يموت، فخَلَّصَه حُرّاسُ الحَرَمِ منهم, وجاؤوا به إلى أمير مكّة, فقال له: قبّحَكَ الله، لِمَ فعلتَ هذا؟! فقال: حتى يَعرِفَني النّاسُ فيقولوا: هذا الذي بال في بئر زمزم".
إن بعضَ بناتِ المسلمين يتخففن من الملابس التي تَستُرُ ما أَمرَ الله بستره, أو تكونُ ملابسُها ضيقةً تصفُ ما نهُي غيرُ الزوج أن ينظر إليه, يتخففن من الملابس .. ويخف معهنَّ الحياءُ من اللهِ ومن الناس..
إنَّ جمالَ المرأة وحسنَها بحيائها وسترِها, ورَضي الله عن أمِ سلمة.. لما سَمِعَت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ مِنَ الْخُيَلَاءِ ، لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إِلَيْهِ)، قَالَتْ: "فَكَيْفَ يَصْنَعُ النِّسَاءُ بِذُيُولِهِنَّ؟" قَالَ: يُرْخِينَهُ شِبْرًا ، قالْت: إِذًا تَنْكَشِفَ أَقْدَامُهُنَّ، قَالَ: فَيُرْخِينَهُ ذِرَاعًا، لَا يَزِدْنَ عَلَيْهِ).. الله أكبر .. إنه الحياء وكفى.
أيها الآباء والأولياء .. تابعوا بناتِكم وزوجاتِكم .. ناصحوهنَّ في شأنِ الحياء, وتناقشوا معهنَّ .. وحاوروهنَّ.. وأقنعوهنَّ .. واسألوهنَّ.. فإنكم اليوم تَسأَلون .. وغدًا تُسأَلون, روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته).
لا تخجل من سؤال ابنتك أو زوجتك عن لبسها إذا كان مخالفًا لِما أمر الله به, فالخجل هنا مذموم .. ولا موضع للحياء هنا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}.
اللهم جملنا بالحياء .. واجعلنا ممن يستحي منك في الغيب والشهادة يا رب العالمين ..
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. اعلموا أن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام, فللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله .. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون
المرفقات

11-8-1439

11-8-1439

المشاهدات 2853 | التعليقات 0