(إن في مرور الأيام معتبرا) خطبة الجمعة 2-1-1439هـ
أ.د عبدالله الطيار
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشْهدُ أنْ لا إِله إِلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له، وأشْهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه، وعلى آله وأصحابِه والتابعينَ لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وسلَّم تسليماً مزيدا، أما بعدُ:
فأوصيكم عبادَ اللهِ ونفسي بتقوى اللهِ جلَّ وعلا، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[آل عمران:102].
أيها المؤمنون والمؤمنات: اعلموا رحمكم الله أن الدنيا مزرعةُ الآخرة، وأنها بوابةُ العبورِ إليها، فمن أطاع اللهَ جل وعلا، وخالفَ هواه، وجاهدَ نفسَه وتزودَ منها بالحسناتِ أفلح وفازَ بسكنى الجناتِ. وصدق الله العظيم{مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا}[الإسراء:18، 19] .
عباد الله: من نعمة الله علينا أن بلَّغنا العامَ الجديدَ، وهي نعمةٌ من أعظمِ النعمِ، حيثُ أمدَّ الله جل وعلا لنا في أعمارِنا وأعاننا على التزودِ وحسنِ العملِ للدارِ الآخرةِ.
لكن بعض الناس يغفلُ عن هذه النعمةِ العظيمةِ، فتراه سادراً في غفلتِه، مُعرضاً عن طريقِ خالقه الذي يَمدُ له في عُمره، ويزيدُ في أجلهِ ليرتقيَ من الغفلةِ إلى التفكر والتذكر، ومن التقصيرِ إلى المبادرةِ بالأعمالِ، ومن الانشغالِ بالدنيا إلى التفكرِ في دارِ القرارِ، وصدق الله العظيم{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُون * مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُون * لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ.. }[الأنبياء:1ـ 3].
إنَّ ذهابَ عامٍ، ومجيءَ آخرَ أمرٌ عظيمٌ يحتاجُ المرء معه للوقوفِ مع نفسِه المقصرة وقفةَ محاسبةٍ صادقةٍ، والتفكرِ في تتابعِ الأيامِ وسرعةِ انقضائِها؛ وأنَّ منْ غَفَلَ عن محاسبةِ نفسِه تصرَّمتْ أوقاتُه، واشتدَّتْ عليهِ حسَراتُه، وأيُّ حسرةٍ أعظمُ من أن يكونَ عمرهُ عليهِ حُجَةٌ.
إنَّ الزمانَ أيها المؤمنون وتقلباتِه أنصحُ المؤدبين، وإنَّ الدهرَ بقوارعِه أفصحُ المتكلمين، فانتبهوا بإيقاظِه، واعتبروا بألفاظِه، وقد ورد في الأثر: (أربعةٌ من الشقاءِ: جُمودُ العينِ، وقسوةُ القلبِ، وطولُ الأملِ، والحرصُ على الدنيا).
عباد الله: إنَّ من طبيعةِ الإنسانِ الوقوعَ في الخطأِ والذنبِ، وهذا مشاهدٌ في أخلاقِ الناسِ وتعاملاتِهم وعلاقاتهم مع بعضهم، ولكن َّمن رحمةِ الله جل وعلا أنْ جَعلَ لهذه الأخطاءِ والذنوبِ مخرجاً، فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:(كلُّ بني آدمَ خطَّاء، وخيرُ الخطّائينَ التوابون)(الترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه)، فبالتوبةِ الصادقةِ وحُسنِ التواضعِ والاعترافِ بالخطأِ تُمحى الخطايا والذنوب.
والله جل وعلا من رحمتِه أنَّه يحاسبُ الناسَ على أعمالِهم؛ خيرِها وشرِّها، فمنْ كثرُ خيرُه فله الثوابُ، ومن غَلبَ شرُّه فله العقابُ، ومن تاب وأناب غُفرت ذنوبُه ولو كانت مثلَ زبدِ البحرِ أو أكثر.
إننا أيها المؤمنون بحاجةٍ أن نصحَّحَ مسيرةَ حياتِنا بسلوكِ راشدٍ طريقُه الاستقامةِ، وأن نُلجمَ ألسنَتنَا، فلا نخوضُ فيما لا فائدةَ فيه؛ لأن كلَّ كلمةٍ تصدر منَّا سنحاسبُ عليها، وخيرٌ لنا الأدبُ مع الآخرين ورعايةُ حقوقهِم، وليكنْ شعارُنا التسامحَ والعفوَ والصفحَ، ومحبةَ الآخرينَ وعدمَ الخوضِ فيما لا ينفعُ؛ لننالَ رضوانَ اللهِ، ونكونَ من السائرينَ على دربِ الصالحين، فلا يُسوَّغ لمسلمٍ أن يتَّهمَ مسلمًا دون دليلٍ، أو أن يَنقل عن أحد دون تثبُّت أو يقين، أو أن يحملَ ويُحمل الكلام على غير ما يحتمل، أو أن يحكمَ على الآخرينَ دونَ وقوفٍ على أفعالهِم أو سماعٍ لأقوالهِم، أو اطلاعٍ على كتاباتِهم.
عباد الله: علينا أن نفرحَ بما امتنَّ اللهُ جل وعلا به علينا بالزيادةِ في أعمارِنا، كي نستغلَّها الاستغلالَ الحسنَ بالإكثارِ فيها من الطاعاتِ والمداومةِ عليها، فإنَّ ذلك من صفاتِ عبادِ اللهِ الموفَّقين.
وليُعلمَ أن للمداومةِ على الطاعاتِ ثمراتٍ جليلةً، ومن أهمها:
أنَّ حرصكَ عليها يزيدُ في إيمانِك وتقواك، ويُبعدُك عن الغفلةِ والإعراضِ، فالنفسُ إن لم تشغلها بالطاعةِ شغلتكَ بالمعصيةِ.
وهي سببٌ لنيلِ محبة الله جل وعلا، كما في الحديث القدسي:(ولا يزالُ عبدي يتقرب إليَّ بالنوافلِ حتى أحبَّه..)(رواه البخاري).
وهي سببٌ عظيمٌ للنجاةِ من الكرباتِ والشدائدِ، ومحوِ الذنوبِ والسيئاتِ.
وهي أيضاً تُيسرُ لك الحسابَ يومَ العرضِ على اللهِ.
وهي سببٌ لدخولِ الجنَّةِ بعدَ رحمةِ اللهِ جل وعلا، وهذا أعظمُ مطلبٍ يتمناهُ المسلمُ في حياتِه رضوان الله جل وعلا ودخول الجنة ورؤية الكريم المنان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } [آل عمران: 185].
بارك اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ أقولُ ما سمعتمْ فاستغفروا اللهَ يغفرْ لي ولكم إنه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ على فضلِه وإحسانِه، والشُّكرُ له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له تعظيماً لشأنِه، وأشهدُ أن محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه الداعي إلى جنتهِ ورضوانِه، صلى الله عليه وآله وصحبِه ومن سارَ على نهجِه إلى يومِ الدينِ وسلَّم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فاتقوا الله جل وعلا، واعلموا أنَّ خيرَ أعمارِكم أواخرُها وخيرَ أعمالِكم خواتِمُها، وخيرَ أيامِكم يومَ تلقونَ ربَّكم فَيغفرُ لكم ويدخِلكم جنةًّ عرضُها السماواتُ والأرضُ فاعملوا لذلك واجتهدوا رعاكم الله.
عباد الله: منْ نظرَ إلى الدنيا بعينِ البصيرةِ أيقنَ أنَّ نعيمَها ابتلاءٌ، وحياتَها عناءٌ، وعيشَها نكدٌ، وصفوَها كدرٌ، وجديدَها يَبلى، وأن مُلكَها يفنى، وودُّها ينقطع، وأن خيرَها يُنتزع، والمتعلقون بها على وجلٍ؛ فهي إما نعمةٌ زائلةٌ، أو بليةٌ نازلةٌ، أو منيَّةٌ قاضيةٌ، وصدق الله العظيم:{يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَار * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَاب}(غافر: 39، 40).
ومثلُ هذهِ الدنيا كَمثلِ راكبٍ استظلَّ تحتَ شجرةٍ ثمَّ ارتحلَ عنها وتركَها، فعن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قَالَ: نَامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى حَصيرٍ، فَقَامَ وَقَدْ أثَّرَ في جَنْبِهِ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً. فَقَالَ:(مَا لِي وَلِلدُّنْيَا؟ مَا أَنَا في الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا)(رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح)، وفي هذا عظةٌ وعبرةٌ لأولي الألبابِ الذين لا يغترونَ بالدُّنيا وزخرفِها ولا تغرُّهم الأمانيُّ .
وعن ابنِ عمر رضي الله عنهما قَالَ: أَخذَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بِمَنْكِبَيَّ، فقال:(كُنْ في الدُّنْيَا كَأنَّكَ غَرِيبٌ، أَو عَابِرُ سَبيلٍ) وَكَانَ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما يقول: "إِذَا أمْسَيتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ "(رواه البخاري).
يقولُ ابنُ الجوزي في (صيد الخاطر): " من تفكَّرَ بعواقبِ الدنيا، أَخذَ الحذرَ، ومن أَيقنَ بطولِ الطريقِ تأهَّبَ للسفرِ. ما أعجبَ أَمرَك يا من يُوقنُ بأمرٍ ثم ينساهُ، ويتحققَّ ضررَ حالٍ ثمَّ يغشَاهُ! وتخشى الناسَ واللهُ أحقُّ أن تخشاه. تغلبكَ نفسُك على ما تظنُّ، ولا تغلبُها على ما تستيقنُ. أعجبُ العجائبِ سرورُك بغرورِك، وسَهوُك في لهوِك، عما قد خُبئ لك. تغترُّ بصحتِك وتنسى دنوَّ السقمِ، وتفرحُ بعافيتِك غافلاً عن قربِ الألمِ. لقد أراكَ مصرعُ غيرِك مصرعَك، وأبدى مضجعُ سواكَ ـ قبل المماتِ ـ مضجعَك. وقد شغلكَ نيلُ لذاتِك، عن ذكرِ خرابِ ذاتِك.انتهى كلامه.
فمن عاشَ متأملاً متفكراً في آياتِ اللهِ الدَّالةِ على قدرتِه وعظمتِه وصدْق وعدِه قادهُ ذلكَ إلى التعلّقِ باللهِ وحده، ومحبتِه وخشيتِه، والاجتهادِ في عملِ الصالحاتِ لطلبِ مرضاتِه.
عباد الله: احرصوا على صيام التاسع والعاشر من هذا الشهر المبارك، فأفضل الصيام بعد رمضان صيام شهر الله المحرم، قال صلى الله عليه وسلم: (صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ)(رواه مسلم)، وقال في آخر حياته: (لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع)(رواه مسلم).
وارعوا رحمكم الله نعمة الأمن والأمان ورغد العيش، واعرفوا لبلادكم قدرها، وأدوا ما أوجب الله عليكم لولاة أمركم ليتحقق لكم الخير وتفلحوا في الدنيا والآخرة.
فاتقوا اللهَ عباَد الله، واحرصوا على استغلالِ أعمارِكم لتتزودِوا للدارِ الآخرةِ، وسارعوا الخطى إلى دار النعيم، فإنَّها نِعْمَ الدارُ لعبادِ اللهِ المتقينَ. جعلنَا الله وإياكم ووالدينا ووالديكم والمسلمين من ساكنيها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جلَّ من قائل عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب:٥٦).
الجمعة: 2 /1 /1439هـ
المرفقات
في-مرور-الأيام-معتبرا
في-مرور-الأيام-معتبرا