إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون

عبدالله بن جابر الزهراني
1436/08/04 - 2015/05/22 07:37AM
عباد الله: بينما كان النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، تلك الغزوة التي امتحن الله فيها المسلمين وتبين فيها أهل الصدق وأهل النفاق، غزوة العسرة التي كانت في شدة حر، لما انتهت تلك المعركة كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يسيرون قافلين، راجعين يقصدون المدينة النبوية، إذ كان نفر من أهل النفاق يتغامزون ويتحادثون بينهم يقطعون الطريق بالحديث، ويتسلون بالكلام، إلا أن كلامهم كان في الاستهزاء بالنبي  واصحابه، وكان فيه تنقص للإسلام واهله ورموزه، فقال قائلهم: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أكذب ألسنا وأرغب بطونا وأجبن عند اللقاء، يقولون ما رأينا مثل هؤلاء الصحابة العباد وقراء القرآن ما رأينا مثلهم في الكذب والحرص على الدنيا والخوف من الجهاد والقتال، فسمع تلك الكلمات أحد المسلمين المخلصين الغيورين، فقال: والله لأنقلن هذا الكلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فتوجه قاصداً رسول الله صلى الله عليه وسلم ، غاضبا من تلك الكلمات التي تدل على النفاق وكره الإسلام وأهله، فما كاد يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد وجد الوحي قد نزل على النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت آيات عظيمة، نزلت آيات تتلى إلى يوم القيامة تنطبق على كل مستهزئ بالدين وأهله، وحملته، لقد غار الله سبحانه على دينه فأنزل قول جل ذكره، (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزؤوا إن الله مخرج ما تحذرون ولئن سألتهم ...)، فجاء المنافقون يعتذرون ويبررون لكلامهم بأنه ليس من باب الحقيقة بل من باب المزاح والتسلية، فكان رسولنا صلى الله عليه وسلم يرد عليهم بقول المولى سبحانه، (لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم)، وجعل يردد عليهم: (لا تعتذروا قد كفرتم..).
يدعو النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة إلى الإنفاق في سبيل الله تعالى، فيشارك المسلمون بأموالهم كل حسب قدرته وطاقته، فيأتي الغني بمال كثير، ويأتي الفقير بجهد المقل فيضعه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، أما المنافقون فلا يشاركون في الإنفاق والبذل، بل همهم النقد والسخرية، يتغامزون ويتضاحكون، فإذا رأوا غنيا ً بذل الكثير من ماله قالوا: لا يريد هذا إلا الرياء والمدح، وإذا جاء الفقير بما يستطيع قالوا: ما هذا المال القليل إن الله لغني عن هذا المال، فينزل قول الحق سبحانه: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين ...).
إنها صفة ملازمة لأهل النفاق، الاستهزاء والسخرية بالإسلام وأهله، لا ينصرون الإسلام ولا يكفون المسلمين من شرهم، وظيفتهم التثبيط والإرجاف والاستهزاء، إن الاستهزاء بدين الله إنما هو من أخلاق المنافقين وليس من أخلاق المسلمين، إذ المسلم معظِّم لله، معظمٌ لدينه، معظّم لنبيه ، مصدق بوعد الله، مصدق بوعيد الله، أما المنافقون الذين آمنوا بألسنتهم وكفرت قلوبُهم فهم أهلُ الاستهزاء والسخرية بالله وبدينه، قال تعالى عن المنافقين: وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ، فالمنافقون إذا لقوا أهل الإيمان والتقى، قَالُوا ءامَنَّا، ونحن معكم، وعلى طريقكم، وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ من الإنس الذين تمادوا معهم على الباطل في الباطن قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ، آمنا استهزاءً بهم وسخريةً منهم. يقول الحق سبحانه: (زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة)، ويقول جل وعلا: (ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤون)،
إنها قصة بدأت منذ بداية الدعوة إلى الله تعالى، نوح عليه السلام مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم ويحثهم على عبادة الخالق وتوحيده ونبذ الشرك والأخلاق السيئة، استعمل معهم شتى الوسائل والسبل لإقناعهم فكان قومه يستهزؤون به ويسخرون منه، يقول جل وعلا: (وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم ..)، يمر عليه قومه ويستهزؤون به، (ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون).
إنه طريق وصف فيه الأنبياء بالسفاهة، يقول جل وعلا: (وإلى عاد أخاهم هوداً قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين قال يقوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين)
إن طريق الدعوة إلى الله والاستقامة على دينه وشرعه محفوف بالمكاره والأذى من المخالفين، يقول جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم: (لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا ...).
تعرض نبينا صلى الله عليه وسلم لأقصى أنواع الأذى والسخرية، فاتهم بالكذب والسحر، ووصف بالشاعر والكاهن، خرج من مكة إلى الطائف فأوذي وصبر وكان يناجي ربه ويقول: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس أرحم الراحمين، أنت أرحم الراحمين، إلى من تكلني؟، إلى عدو يتجهمني، أم إلى قريب ملكته أمري، إن لم تكن غضبانا علي، فلا أبالي، إن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن تنزل بي غضبك، أو تحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، لا قوة إلا بك)، فتنزل الآيات العظيمة في تسلية نبينا صلى الله عليه وسلم: (إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر فسوف يعلمون ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح ....).
أيها المسلم: إنك لا ترضى أن يستهزأ أو يسخر بك أحد، ولو نال أحد منك بكلمة واحدة لتوجعت وشعرت بالأذى، وطالبت من نال منك بالاعتذار وإعادة الاعتبار، ولقد حرم الله السخرية بين الخلق فقال: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم ...).
وإذا كان هذا في الاستهزاء بالناس فثمة أنواع من الاستهزاء تعد كبيرة من الكبائر بل قد تخرج بصاحبها من الملة، ذلكم أيها الكرام هو الاستهزاء بشيء من أمور الإسلام أو أعلامه الكرام أو بسيد الأنام عليه السلام أو بذي الجلال والإكرام.
وقد تضافر كلام العلماء على هذا الأمر؛ قال ابن قدامة رحمه الله: من سب الله أو أستهزأ به أو بآياته أو برسله أو كتبه كفر سواء مازحاً أو جاداً.
ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نواقض الإسلام: الناقض السادس: مَن استهزأ بشيء مِن دين الرسول صلى الله عليه وسلم أو ثواب الله، أوعقابه، كَفَرَ. والدليل قوله -تعالى-: (قُلْ أَبِاللَّه وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَإِيمَانِكُمْ).
عباد الله: إن ظاهرة الاستهزاء بالدين وأهله ظاهرة خطيرة تنم عن كره الدين والحقد على حملته، إنها حرب شعواء يشنها أعداء الإسلام للصد عن دين الله، وتزهيد الناس فيه، وتثبيط الدعاة والعلماء والمصلحين، إنها ظاهرة قديمة جديدة، يتواصى فيها المنافقون ويسلكون فيها الوسائل ويطرقون كل باب للكيد.
وفي هذا الزمن نشكو إلى الله من فشو ظاهرة السخرية والاستهزاء بالدين، فقد طفحت وسائل الإعلام والتواصل والصحافة بالمقالات والعبارات التي تستهزأ بالإسلام والدين، حتى وصل الحال ببعض المنافقين أن ينكر آيات من القرآن ويطالب بإلغاء مدلولها لعدم مناسبتها للعصر ومتطلباته، ويتحدث بعضهم عن ربنا جل وعلا ونبيه صلى الله عليه وسلم كأنه يتحدث
استهزاء بشعيرة الجهاد في سبيل الله تعالى, ولمز لأهل الدين والعلماء, والآمرين بالمعروف والنهي عن المنكر, حتى وصل الحال ببعضهم أن طالب بإلغاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
وينادي آخرون بإلغاء حلقات القرآن الكريم، وإلغاء المواد الشرعية في المدارس بحجة محاربة الإرهاب وتجفيف منابعه.
تصيد لأخطاء المصلحين والدعاة، وسخرية من الحجاب والمحرم، ومطالبات بتحرير المرأة من رق الإسلام،
تعريض بأن الإسلام هو السبب في تخلف المسلمين، ووصف للإسلام بالتخلف والجمود والتطرف والتزمت.
إن هذا الاستهزاء ليس في وسائل غربية أو صحف بعيدة بل من أناس ينتسبون إلى الإسلام، ويدّعون الإصلاح والنقد والتصحيح وحرية الرأي.
ألا فليتق الله كل مسلم، وليعلم أن الله سيحاسبه على كل كلمة يتفوه بها، وعلى كل حرف تخطه أنامله، يقول رينا جل وعلا: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : (وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة).
من أنت يا ابن آدم حتى تستهزأ بربك وخالقك والمتفضل عليك؟
من أنت حتى تتكبر على خالقك وتهزأ بدينه وشرعه، (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك).
والله لن ينفعك رضا الخلق والبحث عن الشهرة ما دام خالقك غاضب عليك
بارك الله لي ولكم
الخطبة الثانية:
عباد الله: إن الواجب علينا الإنكار على المستهزئين والإعراض عنهم والبعد عن مجالسهم, والتحذير من عملهم، يقول ربنا جل وعلا: (( وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً)) إذا استهزأ المنافقون بدين الله ولم يغار المسلم ولم ينكر عليهم ولم يؤخذ على أيديهم ويجعلوا عظة لغيرهم غضب ربنا جل وعلا وأذن بالهلاك.
وحين يضيق المؤمن بالاستهزاء منه فعليه أن يصبر ويحتسب, فقد أوذي المصلحون من قبله واستهزيء بهم, ولكن العاقبة يجعلها الله للمؤمنين, قال الله تعالى: ( ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب)
وستمضي الدنيا ويلتقي الجميع عند الله، وسيعلم المؤمن أنه هو الرابح حين صبر على أذى المستزئين, وأذى المناؤين، فيضحك ممن كان يستهزئ به في دار الدنيا، ويتذكر تلك اللحظات العصيبة التي مرت به، (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاء لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يضْحَكُونَ (34) عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ )
المشاهدات 2339 | التعليقات 1

نفع الله بك شيخ عبدالله وحياك وبياك أفدت وأجدت مزيد من الحضور والتواجد.