إنَّ اللهَ يَأْمُر بالعَدْل

د. محمود بن أحمد الدوسري
1443/04/26 - 2021/12/01 07:14AM

إنَّ اللهَ يَأْمُر بالعَدْل

      د. محمود بن أحمد الدوسري

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ, نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ, وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا, وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا, مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ, وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:

العدل: خِلافُ الجَوْرِ, وهو الأمرُ المُتوسِّط بين طَرَفَي الإفراط والتفريط, والعدلُ من الناس: هو المَرْضِيُّ قولُه وحُكْمُه.

والعدل هو غاية الرُّسل جميعاً؛ كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]. ولذا أمَرَ اللهُ به: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل: 9]. فالدِّينُ الذي جاءت به الرُّسلُ، كُلُّه عدلٌ وقِسْطٌ في الأوامر والنَّواهي, وفي مُعاملات الخَلْقِ، وفي الجِنايات والقِصاص, والحُدود والمَواريث وغير ذلك، وفي هذا دليلٌ على أنَّ الرُّسلَ مُتَّفِقون على القيام بالقِسْط، وإن اختلفتْ أنواعُ العدل، بِحَسَبِ الأزمنة والأحوال.

واللهُ تعالى يُحِبُّ أهلَ العدل: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9]. أي: العادلين في حُكمهم بين الناس وفي جميع الولايات، التي تَوَلُّوها؛ حتى إنه، قد يدخل في ذلك عَدْلُ الرَّجلِ في أهلِه، وعِيالِه، في أدائه حقوقهم. كيف وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ, وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ, الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ, وَأَهْلِيهِمْ, وَمَا وَلُوا» رواه مسلم.

قال السعدي رحمه الله: (العدل الذي أمَرَ اللهُ به يشمل العدلَ في حَقِّه, وفي حَقِّ عِباده؛ بأنْ يُؤدِّي العبدُ ما أوجبَ اللهُ عليه من الحقوق المالية والبدنية, والمُرَكَّبة منهما في حقِّه وحقِّ عباده، ويُعامِلُ الخَلْقَ بالعدل التام، فيؤدي كُلُّ والٍ ما عليه تحتَ ولايَتِه).

فالعدل مع الله تعالى؛ في توحيدِه وتنزيهه عن الشَّريك, وعبادتِه, وإخلاصِ الدِّين له كما أمَرَ وشَرَعَ خضوعاً وتذلُّلاً, ورِضًا بحكمه وقدره, وإيماناً بأسمائه وصفاته, فهذا هو أعظمُ العدل, وهو الحقُّ الذي قامت به السموات والأرض, ومِنْ أجْلِه خَلَقَ اللهُ الخلقَ: {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف: 3].

ويقابل هذا القسم من العدل؛ أعظمُ الظُّلم, وهو الإشراكُ بالله, والكُفْرُ به, والتَّحاكُمُ إلى غيرِ شرعِه ومنهجِه القويم: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]؛ {وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254].

والعدل مع النفس؛ في قيام الإنسان بالأمانة التي كَلَّفَه اللهُ بها, والعملِ على خَلاصِ النفس ونجاتِها مِمَّا لا تُطيقه من عذابِ اللهِ وغضبِه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].

ويُقابل هذا النوع من العدل؛ ظُلْمُ الإنسان لِنَفْسِه بترك ما أمَرَ اللهُ به, أو بِفِعْلِ ما حَرَّمَ اللهُ عليه مما هو دون الشرك, قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44].

عباد الله .. وكما يكون العدل في الأعمال والأموال, فهو مطلوبٌ في الأقوال والألفاظ؛ قال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152]. ولعل العدل في الأقوال أدق وأشق. واللهُ تعالى يُحِب الكلام بعلم وعدل, ويَكْره الكلام بظلم وجهل: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116].

وتأمَّلوا هذا الإنصافَ النبويَّ - في القول – حينما أعلنَ حُكمَه على كلمةٍ قالها شاعرٌ حال كُفْرِه؛ إذْ قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَصْدَقَ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ, كَلِمَةُ لَبِيدٍ: "أَلاَ كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلاَ اللَّهَ بَاطِلُ"» رواه مسلم.

       ومن إنصافِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضي الله عنه – في القول – أنه سُئِلَ عن مَنْ خَرَجَ عليه: أَمُشْرِكُونَ هُمْ؟ قَالَ: «مِنَ الشِّرْكِ فَرُّوا»، قِيلَ: مُنَافِقُونَ هُمْ؟ قَالَ: «إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً»، قِيلَ: فَمَا هُمْ؟ قَالَ: «إِخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا، فَقَاتَلْنَاهُمْ» رواه البيهقي وابن أبي شيبة. قال النووي رحمه الله: (يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ فَضْلُ أَهْلِ الْفَضْلِ, وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْهُ؛ لِسَبَبِ عَدَاوَةٍ وَنَحْوِهَا).

       وإقامة العدل في الأرض لا يمكن أنْ تَتِمَّ إلاَّ حين تتجرَّد النفوسُ لله تعالى, وتتخلَّى عن رغباتها, ويكون هدفُها الأسمى هو ابتغاء مَرضاةِ الله؛ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: 135]. والقوَّام صِيغَةُ مُبالغةٍ، أي: كونوا في كُلِّ أحوالكم قائمين بالقسط, الذي هو العدل في حقوق الناس, ومن أعظم أنواع القِسط: القِسْطُ في القول.

ومن ذلك: أداء الشهادة على وجهها الصحيح, حتى على الأقربين والأحباب؛ بل على النَّفس أيضاً؛ ولهذا قال الله تعالى – في الآيةِ نَفْسِها: {شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} أي: فلا تتَّبعوا الهوى فتتركوا العدلَ, فلا تُراعوا الغَنِيَّ لِغِناه، ولا الفَقِيرَ – بزعمكم - رحمةً له، بل اشهدوا بالحقِّ على مَنْ كان.

       قال ابن حزم رحمه الله: (أفضلُ نِعَمِ اللهِ تعالى على الْمَرْء أَنْ يَطْبَعَهُ على العدْلِ وحُبِّه, وعَلى الحقِّ وإيثارِه ). وقال ابن القيم رحمه الله: (التَّوْحِيدُ وَالْعَدْلُ هُمَا جِمَاعُ صِفَاتِ الْكَمَالِ).

الخطبة الثانية

الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على رسوله الكريم, وعلى آله وصحبه أجمعين؛ عباد الله .. إنَّ العدلَ بين الأولاد واجِبٌ شرعي - ذكوراً كانوا أو إناثاً؛ فَلْيَتَّقِ اللهَ الآباءُ والأُمَّهاتُ, ولا يُفضِّلوا بعضاً على بعض, ولا يُقدِّموا أحداً على أحد؛ فعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه قَالَ: انْطَلَقَ بِي أَبِي يَحْمِلُنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم, فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! اشْهَدْ أَنِّي قَدْ نَحَلْتُ النُّعْمَانَ كَذَا وَكَذَا مِنْ مَالِي. فَقَالَ: «أَكُلَّ بَنِيكَ قَدْ نَحَلْتَ مِثْلَ مَا نَحَلْتَ النُّعْمَانَ؟» قَالَ: لاَ, قَالَ: «فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي». ثُمَّ قَالَ: «أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا إِلَيْكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً» قَالَ: بَلَى, قَالَ: «فَلاَ إِذًا» رواه مسلم. وفي رواية قال: «لاَ تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ» رواه البخاري. وفي أُخرى قال: «فَاتَّقُوا اللَّهَ, وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ» رواه البخاري.

والعدلُ بين الزَّوجات واجبٌ شرعي أيضاً؛ أمَرَ اللهُ به, وأمَرَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم, فإنَّ الله تعالى لَمَّا أباح لِعِبادِه التَّعدُّدَ؛ قيَّدَه بقوله: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3].

فأباح التَّعدُّدَ وأذِنَ فيه, لكن شَرِيطةَ أنْ يكون المُعَدِّدُ يغلبُ على ظَنِّه العدل بين الزوجات, وألاَّ يقصِدَ بالتعدد ظُلْمَ هذه لمصلحةِ هذه. فيعدل في النَّفَقة والمَبِيتِ والمَسْكَن, ويعدل في الأمور التي يُمكنه العدل فيها, ولو كان في القلب حُبٌّ لواحدة, لكن لا يُظْهِر ذلك أمام الأُخرى, فلا يقدح في هذه عند الأُخرى, ولا يَعِيب هذه عند الأخرى, ولا يُفشِي سِرَّ هذه عند الأُخرى.

وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم أعدلَ الناس بين نسائه, وألزمَهم للعدل في الأمور كُلِّها, وحذَّر المُعَدِّدين من أنْ يجوروا ويظلموا, فقال: «مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا؛ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ» صحيح – رواه أبو داود.

       والممدوحون بالعدل, الموعودون بمنابر النور يوم القيامة؛ أهلُ عدلٍ في أهليهم, فليس عندهم جَورٌ في أهليهم؛ بل يُعاملون أهليهم بالعدلِ في كلِّ الأحوال, ولذا كان الإمامُ العادِلُ سابِعَ سبعةٍ يُظِلُّهم الله في ظِلِّه يوم لا ظِلَّ إلاَّ ظله.

وبِكُلِّ حال؛ فإنَّ المُسلِمَ يلزمه العدل فيمَنْ وُلِّيَ عليهم – سواء كان ذلك في مدرسة, أو شركة, أو مؤسسة, أو وزارة, أو نحوها - فيسوسُهم السياسة الشرعية, ويحكم بينه بالعدل, فلا يُحابِي هذا ضِدَّ هذا, وإنما يعدل بين مَنْ تَوَلَّى أمرَهم, ويقوم بهم على حسب العدلِ والقيام بالواجب, فأقربُ الناسِ إليه أحسنُهم أداءً, وأحسنُهم عملاً, وأنجزُهم مهمَّة, فلا يَمِيل مع هذا ضِدَّ هذا, وإنما يلزم تقوى الله فيمَنْ وُلِّيَ عليهم, واللهُ سبحانه سائلٌ كُلَّ راعٍ وما استرعى؛ حَفِظَ ذلك أو ضَيَّعَه.

هذا هو العدل العالَمِيُّ الذي جاء به نبيُّنا الكريمُ صلى الله عليه وسلم منذ أكثر من أربعة عشر قرناً؛ عَدْلٌ يتم فيه ضبط النفس, والتَّحكُّم في المشاعر. إنه القِمَّةُ العليا, والمُرتقَى الصَّعْبُ الذي لا يبلغه إلاَّ مًن رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا, وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا, وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَبِيًّا ورسولاً, وبِشريعتِه ومنهجِه دُستوراً وحُكْماً.

المرفقات

1638342840_إن الله يأمر بالعدل.docx

المشاهدات 920 | التعليقات 0