إنه مصعب بن عمير رضي الله عنه

محمد سعيد الهاشمي
1436/03/07 - 2014/12/29 16:14PM
مصعب بن عمير رضي الله عنه

431436هـــ
أما بعد :
فأتقوا الله عباد الله وراقبوه في السر والعلن ولا تعصوه .
أسمحوا لي أيها الأخوة أن أخترق أربعة عشر قرنا إلى الوراء لنُطـل على الحجاز يتهلل بِشرًا وفرحًا برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه ، بين مكة والمدينة والإيمان يأرز بينهما.
ما أجمل أن نعيش لحظاتنا هذه في شوارع مكّة وطرقاتها ، ونواديها وعرصاتها ، وبتحديد عن شاب من شبابها يحدثنا عنه أريج المسك والأطياب وناعم المسكن والثياب ولذيذ المطعم والشراب، تحدّثنا عنه مكّة بأسرها ، فتياتها اللاتي لطالما تمنينه ، وبشبابها الذين كانوا يغبطونه على عيشه , لكنه سار إلى الله تعالى يحدوه الشوق ويدفعه الأمل ليرقى في منازل الصادقين .
إنه مصعب بن عمير كان أبواه يحبانه حبا عظيما ، ويغدقان عليه بما يشاء من أسباب الراحة والترف ، يكسى أحسن الثياب ، ويلبس أجمل اللباس .
شهد له بذلك أصدق الخلق صلى الله عليه وسلم حين قال (مَا رَأَيْتُ بِمَكَّةَ أَحْسَنَ لِمَّةً ، وَلا أَرَقَّ حُلَّةً ، وَلا أَنْعَمَ نِعْمَةً مِنْ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ).
ومع ما كان فيه من النعيم لما يمنعه ذلك عن البحث عن نور الحق ومصدر السعادة ، سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم وأنه يدعو إلى دين جديد يحرر العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد , فتقدم إليه مستخفياً وهو في دار الأرقم بن أبي الأرقم , فسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ما انشرح به صدره وارتاح له فؤاده فأعلنها بين يديه : أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله .
ثم مضى رضي الله عنه حافظاً للعهد بأن يكتم إسلامه خوفاً على نبيه وسلامة لدينه .
لما أسلم مصعب انقلب نعيم عيشه بؤسًا وفقرًا ، وحالُ ترفه جوعًا ونصبًا، لكنه لم يبال، فكل شيء لله يهون.
فليتك تحـلـو والحياةُ مـريرةٌ وليتك ترضى والأنامُ غـضـابُ
وليت الذي بيني وبينك عامرٌ وبيني وبينَ العالمـينَ خـرابُ
إذا صحَّ منك الـودُّ فالكل هينٌ وكلُّ الذي فوق الترابِ تـرابُ
لقد آثر رضي الله عنه الآخرة على الدنيا .
وحين علمت أمه بإسلامه حلفت ألا تأكل أو تشرب أو تستظل حتى يرجع عن دينه ويترك محمدا وصحبه ، لم يغير ذلك من حاله رضي الله عنه ، فأدركت أمه حينها أن سياسة الاستعطاف لا تجدي ، فأمرت به فحبس في ركن قصي من أركان دارها وحرمته من كل النعيم الذي تغدقه عليه ، حتى تغير لونه ، وذهب لحمه ، وكان صلى الله عليه وسلم يمر عليه وهو بتلك الحال ينظر إليه فيبكي صلى الله عليه وسلم لما كان يعرف من حاله ونعمته.
عباد الله : مضى مصعب بن عمير يجر قدميه فوق الشوك يريد الجنة يريد ما عند الله يريد أن يحظى بمرافقة النبي في الجنان ، حتى إذا جاء الفرج هاجر إلى الحبشة، ترك وطنه ، وودع حبيبه فاراً بدينه مع ثلة من المؤمنين الصادقين.
وتأتي الأخبار في أرض الحبشة أن قريشاً هادنت المسلمين , وتمضي الأيام ويعود مصعب إلى مكة مشتاقاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وليشهد هذه المرة محنة الحصار في الشعب .
وفي الشعب صبر مصعب وصابر ، حتى أنهكه الجوع والعطش ، فخارت قواه وصار لا يقدر على المشي، والمسلمون يحملونه على أكتافهم , صقلته الأحداث ، ولم تغيره الدنيا بزخرفها عن الثبات على المبدأ والتمسك بالدين .
والنبي صلى الله عليه وسلم أرد سفير له للمدينة أرد معلماً وداعياً لأهل المدينة واختار من هؤلاء الثلة المباركة مصعبٌ بن عمير رضي الله عنه .
فنطلق مصعب بن عمير إلى المدينة معلماً وداعياً وإماما ، وما هي إلا ثمانية أشهر حتى أسلم أهل المدينة إلا من شاء الله على يد مصعب بن عمير رضي الله عنه ، فما أهناه وأسعده ، الأنصار كلهم حسنة في ميزان حسناته رضي الله عنه .
وبعد أن قضى مصعب مهمته في المدينة ، بعد أن جادل أهلها ودعاهم إلى دين الله ، فأتم ما أرسل لأجله ، ما تراه صنع رضي الله عنه , هل طلب أوسمة شرف أوشهادات تقدير؟
كلاّ بل عاد إلى مكة إلى أرض البلاء والمحنة لتنعم عيناه بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحين أذن الله لنبيه بالقتال علت همته للدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم والذود عنه .
ففي السنة الثالثة من الهجرة دفع النبي صلى الله عليه وسلم راية المسلمين في غزوة أحد إلى مصعب بن عمير رضي الله عنه ، فما اهتزت في يده رغم شدة القتال ، لكنهم تفاجئوا بخالد بن الوليد يغشاهم من أعلى الجبل فدارة الدائرة على المسلمين لمخالفة الرماة أمر النبي صلى الله عليه وسلم فطرب المسلمون وتخلخل صفهم وانقلب نصرهم , وشاع في الناس مقتل النبي صلى الله عليه وسلم فضعـفت النفوس وخارت العزائم فنكشف من انكشف , وأصبحت راية المسلمين هدفاً لرماح المشركين وسهامهم وسيوفهم وحجارتهم .
وراية المسلمين راسيةٌ ثابتة وهي في يمين مصعب بن عمير يقاتل دون سقوطها فتأتيه ضربة قاصمة في يمينه فتسقط يده اليمنى وهو يراها , فتتهاوى الراية فيتداركها مصعبٌ بشماله وهو يردد قوله تعالى (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ) آل عمران/ 144
فتأتيه ضربة أخرى بالسيف فتسقط يُسراه وهو يرها , فتتهاوى الراية فيسبقها مصعبٌ قبل أن تسقط ويضمها بين عضديه وهو يردد قوله تعالى (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ)
فتأتيه الضربة والضربات وتأتيه الرماح وضربات السيوف فيسقط عندها صريعاً , قد شاط في دمائه وحلقت روحه إلى بارئها .
وسقطت بعد سقوطه راية المسلمين نعم سقط مصعب ولكن سقط شريفاً عزيزاً كريما , سقط مصعب حين تعذر عليه أن يقاوم , وقد وفا والله وقضى ما عليه , سقط حامل القران بعد أن سقطت يداه وهي والله شاهدت على صدقه وثباته وإيمانه
ولما انقضت غزوة احد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الشهداء يتفقدهم، يعرج على الأجساد الطاهرة، وعلى القلوب الوفية ، يقلب النظر في ثلة قدموا أرواحهم فداء لنصرة الدين ، مر بهم صلى الله عليه وسلم واحداً واحداً ، فلما حاذى مصعب بن عمير وقف عنده ودمعت عيناه لما يعرف من حاله , ورفع يديه يدعو له ثم قرأ قوله تعالى : (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ) سورة الأحزاب :23
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (أَشْهَدُ أَنَّ هَؤُلاءِ شُهَدَاءُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَأْتُوهُمْ وَزُورُوهُمْ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلا رَدُّوا عَلَيْهِ) .
لقد كانت وقفة مؤثرة ودعوة معبرة ، أبى التاريخ إلا أن يسطرها ويحفظها للأجيال لتتخذها نبراساً في الحياة
لقد مضى مصعب ذلك الشاب المترف الذي كان يلبس أحسن الثياب ، وينتعل أفضل النعال ، مضى من الدنيا ولا يملك شيئاً سوى ثوبه الذي عليه ، إن غطوا رأسه بدت رجلاه ، وإن غطوا رجليه بدا رأسهَ .
يقول خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لما قتل مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ يَوْمَ أُحُدٍ لَمْ يَتْرُكْ إِلَّا نَمِرَةً كُنَّا إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلَاهُ , وَإِذَا غُطِّيَ بِهَا رِجْلَاهُ خَرَجَ رَأْسُهُ , فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( غَطُّوا بِهَا رَأْسَهُ ، وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلِهِ الْإِذْخِر ) متفق عليه
وهكذا عباد الله قضى مصعب بن عمير رضي الله عنه نحبه ، وهو ابن أربعين سنة ، مات ميتة الأبطال ، وهو عند الله تعالى من الشهداء الأبرار .
لقد باع الدنيا بالآخرة ، وقدم الرخيص فظفر بالغالي ، سقط جسده رضي الله عنه على الأرض وحلقت روحه إلى بارئها ، ليبعث يوم القيامة وجرحه يثعب دماً ، اللون لون الدم ، والريح ريح المسك .
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .


الخطبة الثانية
فإن قراءة سيرة الأبطال عباد الله تعلمنا أن السائر في هذه الحياة وما يعتريها من عوارض وأحوال ، وكوارث ونكبات ، يجد الصبر ضرورة حياتية لكل عمل من أعمال الدنيا ، وبمفتاح عزيمة الصبر تعالج مغاليق الأمور ، فمن صبر نال المنى ، ومن قل صبره عزب رأيه واشتد جزعه فصار صريع همومه وفريسة غمومه.
تلك هي سيرة الصحابي الجليل مصعب بن عمير رضي الله عنه ، فهل لشبابنا أن يتخذوه قدوة لهم ويكونوا مثله على الأقل في مجال الدعوة إلى الله والعبادة والعمل الصالح .
وهل لشبابنا أن يقتدوا بهؤلاء الرجال من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لهم من قدوات زائفة كاذبة ماكرة , وإياكم ومن لا قيمة له ولا وزن له أن تجعـله قدوة لكم ومثلا .
عباد الله : يجب علينا أن نربي أنفسنا أولاً وأن نربي أبنائنا وبناتنا على سيرة رسول اللهصلى الله عليه وسلموعلى سيرة الرعيل الأول ونغرس فيهم التفاني من أجل الدين والخروج من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة وأن نؤدبهم على ذلك من الصغر حتى تصبح عزة أحدهم بدينه .
ما مضى شيء من سيرة مصعب بن عمير رضي الله عنه فهل لنا أن نحي في شبابنا تلك الروح والهمة حتى نعيد للأمة مثل أمجاد الصحابة رضوان الله عليهم .
عـباد ليل إذا جــن الظـــلام بهم كم عابد دمعـه في الخـد أجراه
وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون رؤياه
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفرا يشيدون لنا مـجـداً أضعـناه
المشاهدات 1807 | التعليقات 0