إنه اللطيف جل جلاله ..

 

هناك في مصر ... حيث يسام بنو إسرائيل سوء العذاب .. يذبح فرعون رجالهم وصبيانهم بل وأطفالهم .. يسخرهم ويذلهم .. يضع من كرامتهم .. فلله كم استُضعف القوم ونيل منهم وأُخذ وسُلب .

هذا حكم الظالم فرعون .. المتجبر المتغطرس ..

 

ولكن حكم الله اللطيف الخبير (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ)

 

وتأمل : نريد .. نمن .. ونجعلهم .. ونمكن .. ونري .. إنها ألطاف الله في ثناي المحن والألام ..

يولد موسى عليه السلام في هذا الجو المتلبد بالظلم والقتل والطغيان ... يحفظه الله ويصونه وهو رضيع في أيامه الأولى ... يأمر الله أمه أن تضعه في تابوت من خشب وتلقيه في الماء ... فما ظنك برضيع في قطعة خشب تسير به المياه ... أخطار ومهالك .. ولكن الله يصنعه على عين منه .. ينزل على الرضيع في تلك الحال بركاته وتحوطه ألطافه وهباته ..

وفي أرض نينوى وفي بحر من بحارها يقترع أصحاب السفينة.. فتقع القرعة على نبي الله يونس ويرمى في البحر .. يبتلعه الحوت.. ويبقى في جوفه ما شاء الله.. يحفظه الله وهو في بطن الحوت.. يرعاه و يتولاه.. لا يأكل له لحماً ولا يهشم له عظماً .. ثم يلقيه في أرض لا بشر فيها .. لا أنيس ولا جليس.. ينبت عليه شجرة من يقطين يأكل و يستظل و يطمئن ..

 

إنه اللطف الخفي من اللطيف الخبير تعالى وتقدس .

 

 اللطيف  اسم من أسماء الله ورد  في القرآن الكريم في سبع آيات.

 

واسم الله اللطيف له معنيان:

الأول: اللطيف بمعنى الرفيق، الذي يوصل إلى العبد ما يحب في رفقٍ من حيث لا يعلم، وييسر له أسباب المعيشة من حيث لا يحتسب، فهو الذي يسوق الخير إلى عباده، ويعصمهم من الشر، بطرقٍ خفيةٍ لا يشعرون بها.

الثاني: اللطيف أي: الذي يعلم دقائق الأمور وخفاياها، وما في الضمائر والصدور، فهو الخبير الذي أحاط علمه بالأسرار والبواطن والخبايا والخفايا، ومكنونات الصدور ومغيبات الأمور، وما لَطُفَ ودقَّ من كل شيء.

 

وهو اللطيف بعبده ولعبده ... واللُطف في أوصافه نوعان

إدراك أسرار الأمور بخبرةٍ ... واللطف عند مواقع الإحسان

فيريك عزَّته ويُبدي لطفه ...

والعبد في الغفلات عن ذا الشَّان .

 

لطفه سبحانه لا يحصيه العباد ولا يحويه فكرهم .. لطف في الخلق والرزق والتدبير والتيسير .. لطف في الإحياء والإماته .. في الغنى والفقر .. في الصحة والمرض .. في العطاء والمنع .. الحياة من حولنا .. كل الحياة.. بما فيها ومن فيها .. كلها تحكي لطف اللطيف الخبير .. وتلهج بلسان واحد ينادي ويهمس (سبحانك ما ألطفك)

 

 وإن من ألطف مظاهر لطف الله بعبده أنه يسوق إليه رزقه وما يحتاج في معاشه، وما زال جنينًا في بطن أمه في ظلمات ثلاث، فحفظه ورعاه، وغذّاه بواسطة حبل دقيق  إلى أن ينفصل، ثم ألهمه بعد الانفصال التقام موضع الغذاء ، وتناول الحليب منه بالفم، ثم أخر خلق الأسنان إلى وقت الحاجة إليها بعد الفطام .. فسبحانه من ربٍ لطيف خبير .

 

والله -تبارك وتعالى- رفق ولطف بعباده في كل شيء، فقد لطف بهم -سبحانه- في الأوامر الشرعية، أنزل القرآن مفصلاً ومنجّمًا، وتدرج في تشريع الأحكام وفرض الفرائض والواجبات، وما فيها من اليسر والمرونة حتى اكتملت، وأصبحت دينًا كاملاً ارتضاه ربنا لعباده، كل ذلك خير شاهد وأعظم دليل على لطف الله بعباده.

ومن لطف الله بخلقه اللطف في النهي، فإن الشريعة لم تأتِ جملة واحدة، بحيث يدرك العبد المحرمات كلها دفعة واحدة، بل تدرجت بحسب الوقائع والحاجات، حتى إن بعضًا مما حرَّمه الله لاحقًا استمر على الإباحة وقتًا طويلاً, ومنها ما نزل الحكم فيها تدريجيًّا، لطفًا من الله بالذين اعتادوا عليها وألفوها، كما في تحريم الخمر ، فقد كان بالتدريج، مراعاةً للنفوس التي اعتادت شربها.

 

ومن لطفه المعهود سبحانه تيسير الطاعة وتحبيبها لنفس المؤمن ... فإذا يسر الله لعبده طريق الخير وأعانه عليه : فقد لطف به .

وإذا دفع عنه السوء والمكروه : فقد لطف به .

وإذا هداه من ظلمات الجهل والكفر والبدع والمعاصي ، إلى نور العلم والإيمان والطاعة : فقد لطف به .

وإذا قيض الله له أسباباً خارجية غير داخلة تحت قدرة العبد : فقد لطف به .

فمن لطفه : أن يسوق عبده إلى الخير ، ويعصمه من الشر ، بطرق خفية لا يشعر العبد بها ، ويسوق إليه من الرزق ما لا يدريه ، ويريه من الأسباب التي تكرهها النفوس ما يكون ذلك طريقا له إلى أعلى الدرجات ، وأرفع المنازل .

" ولهذا لما تنقلت بيوسف عليه السلام تلك الأحوال ، وتطورت به الأطوار من رؤياه ، وحسد إخوته له ، وسعيهم في إبعاده جدا ، واختصامهم بأبيهم ثم محنته بالنسوة ثم بالسجن .

ثم بالخروج منه بسبب رؤيا الملك العظيمة ، وانفراده بتعبيرها ، وتبوئه من الأرض حيث يشاء ، وحصول ما حصل على أبيه من الابتلاء والامتحان .

ثم حصل بعد ذلك الاجتماع السار وإزالة الأكدار وصلاح حالة الجميع والاجتباء العظيم ليوسف : عرف عليه السلام أن هذه الأشياء وغيرها لطف لطف الله لهم به ، فاعترف بهذه النعمة فقال: (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) لطفه تعالى خاص لمن يشاء من عباده ممن يعلمه تعالى محلا لذلك وأهلاً له ، فلا يضعه إلا في محله ، فالله أعلم حيث يضع فضله .

فإذا رأيت الله تعالى قد يسر العبد لليسرى ، وسهل له طريق الخير ، وذلل له صعابه ، وفتح له أبوابه ، ونهج له طرقه ، ومهد له أسبابه ، وجنبه العسرى : فقد لطف به "

ومن لطفه سبحانه بعبده : أنه يقدر عليه أنواع المصائب ، وضروب المحن والابتلاء رحمةً به ولطفاً ، وسوقاً إلى كماله ، وكمال نعيمه ( وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) .

ومن لطفه تعالى  : أنه ربما طمحت نفس العبد المسكين لسبب من الأسباب الدنيوية التي يظن فيها إدراك بغيته ، ويعلم الله تعالى أنها تضره وتصده عما ينفعه ، فيحول بينه وبينها ، فيظل كارهاً ولم يدرِ أن ربه اللطيف الخبير قد لطف به حيث أبقى له الأمر النافع  وصرف عنه الضار  المؤلم .

 

ومن لطيف لطفه بعبده إذ أهّله للمراتب العالية، والمنازل السامية ـ  التي لا يدركها إلا أرباب الهمم العالية، أن يقدر له في ابتداء أمره بعض الأسباب اليسيرة  المناسبة لحاله ليتدرج من الأدنى إلى الأعلى ولتتمرن نفسه وتأخذ الأمر شيئاً فشيئاً ، وكذلك يذيق عبده حلاوة بعض الطاعات فينجذب ويرغب ويصير له شوق بعد ذلك إلى طاعات أجل منها وأعلى، ولم تكن تحصل بتلك الإرادة السابقة حتى وصل إلى هذه الإرادة والرغبة التامة.

 

ومن لطفه بعبده أن يقدر له أن يتربى في ولاية أهل الصلاح، والعلم، والإيمان وبين أهل الخير ليكتسب من أدبهم، وتأديبهم ولينشأ على صلاحهم وإصلاحهم كما أمتن الله على مريم في قوله تعالى: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زكريا)

 

ومن ذلك: أن ينشأ العبد بين أبوين صالحين وأقارب أتقياء أو في بلد صلاح أو يوفقه الله لمقارنة أهل الخير وصحبتهم أو لتربية العلماء الربانيين، فإن هذا من أعظم لطفه بعبده .

 

عن عبدالله بن جعفر البرقي ـ يرحمه الله تعالى ـ قال : ( رأيت امرأة بالبادية وقد جاء

البرد فذهب بزرع كان لها فجاء الناس يُعزونها فرفعت طرفها إلى السماء وقالت :

اللهم أنت المأمول لأحسن الخلف ، وبيدك التعويض عما تلف ، فافعل بنا ما أنت

أهله ، فإنأرزاقنا عليك وآمالنا مصروفة إليك ، قال : فلم أبرح حتى جاء رجل

من الأجلاء الأغنياء أهل البلد فحدث بما كان فوهب لها خمسمائة دينار )

 

من الذي ساق العطايا  في ثنايا البلايا .. إنه اللطيف الخبير .

 

 

وكم لله من لطفٍ خفيٍّ **

 يَدِقّ خَفَاهُ عَنْ فَهْمِ الذَّكِيِّ

 

وَكَمْ يُسْرٍ أَتَى مِنْ بَعْدِ عُسْرٍ **

 فَفَرَّجَ كُرْبَةَ القَلْبِ الشَّجِيِّ

 

وكم أمرٍ تساءُ به صباحاً **

 وَتَأْتِيْكَ المَسَرَّةُ بالعَشِيِّ

 

إذا ضاقت بك الأحوال يوماً ** فَثِقْ بالواحِدِ الفَرْدِ العَلِيِّ

 

المشاهدات 628 | التعليقات 0