إنما نحن فتنة فلا تكفر

الشيخ نواف بن معيض الحارثي
1444/03/09 - 2022/10/05 18:30PM

الخطبة الأولى : إنما نحن فتنة فلا تكفر

الحمدُ للـهِ أهلِ الحمدِ والفضلِ، أقامَ خلْقَه وأمرَهُم بالحقِّ والعدلِ ، وخصَّ المكلفينَ بنعمةِ العقل، وأشهدُ أنَّ لا إلهَ إلا اللـهُ وحدَه لا شريكَ له وأشهدُ أن سيدَنا ونبينَا محمدًا عبدُ اللـهِ ورسولُه أفضلُ نبيٍّ وأكرمُ مرسلٍ. صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابِه والتابعينَ ومن تبعَهم بإحسانٍ وسلِّم تسليما كثيراً.                                   أما بعد: فأوصيكم ...

عباد الله : قصةٌ عجيبةٌ إليكم أحداثُها : فعن عَائِشَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ r أَنَّهَا قَالَتْ: " قَدِمَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ دُومَةِ الْـجَنْدَلِ، جَاءَتْ تَبْتَغِي رَسُولَ اللَّـهِ r بَعْدَ مَوْتِهِ حَدَاثَةَ ذَلِكَ، تَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ دَخَلَتْ فِيهِ مِنْ أَمْرِ السِّحْرِ وَلَمْ تَعْمَلْ بِهِ.

قَالَتْ عَائِشَةُ لِعُرْوَةَ: يَا ابْنَ أُخْتِي، فَرَأَيْتُهَا تَبْكِي حِينَ لَمْ تَجِدْ رَسُولَ اللَّـهِ r فَيَشْفِيَهَا، كَانَتْ تَبْكِي حَتَّى إِنِّي لَأَرْحَمُهَا، وَتَقُولُ: إِنِّي لَأَخَافُ أَنْ أَكُونَ قَدْ هَلَكْتُ، كَانَ لِي زَوْجٌ فَغَابَ عَنِّي، فَدَخَلَتْ عَلَيَّ عَجُوزٌ فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ: إِنْ فَعَلْتِ مَا آمُرُكِ بِهِ فَأَجْعَلُهُ يَأْتِيكِ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ جَاءَتْنِي بِكَلْبَيْنِ أَسْوَدَيْنِ، فَرَكِبَتْ أَحَدَهُمَا وَرَكِبْتُ الْآخَرَ، فَلَمْ يَكُنْ كَشَيْءٍ حَتَّى وَقَفْنَا بِبَابِلَ، فَإِذَا بِرَجُلَيْنِ مُعَلَّقَيْنِ بِأَرْجُلِهِمَا، فَقَالَا: مَا جَاءَ بِكِ؟ فَقُلْتُ: أَتَعَلَّمُ السِّحْرَ؟ فَقَالَا: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرِي وَارْجِعِي، فَأَبَيْتُ وَقُلْتُ: لَا، فَقَالَا: اذْهَبِي إِلَى ذَلِكَ التَّنُّورِ فَبُولِي فِيهِ-أكرمكم الله- فَذَهَبْتُ فَفَزِعْتُ فَلَمْ أَفْعَلْ، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِمَا، فَقَالَا: أَفَعَلْتِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَا: فَهَلْ رَأَيْتِ شَيْئًا؟ قُلْتُ: لَمْ أَرَ شَيْئًا، فَقَالَا لِي: لَمْ تَفْعَلِي، ارْجِعِي إِلَى بِلَادِكَ وَلَا تَكْفُرِي. فَأَبَيْتُ، وفي الثالثةِ فعلتْ ما أَمراها به ، قالت: فَرَأَيْتُ فَارِسًا مُتَقَنِّعًا بِحَدِيدٍ خَرَجَ مِنِّي حَتَّى ذَهَبَ فِي السَّمَاءِ وَغَابَ عَنِّي حَتَّى مَا أُرَاهُ، فَجِئْتُهُمَا فَقُلْتُ: قَدْ فَعَلْتُ، فَقَالَا: مَا رَأَيْتِ؟ فَقُلْتُ: فَارِسًا مُتَقَنِّعًا خَرَجَ مِنِّي فَذَهَبَ فِي السَّمَاءِ حَتَّى مَا أُرَاهُ، فَقَالَا: صَدَقْتِ، ذَلِكَ إِيمَانُكِ خَرَجَ مِنْكِ اذْهَبِي .

 فَقُلْتُ لِلْمَرْأَةِ: وَاللَّـهِ مَا أَعْلَمُ شَيْئًا وَمَا قَالَا لِي شَيْئًا، فَقَالَتْ: بَلَى، لَنْ تُرِيدِي شَيْئًا إِلَّا كَانَ، خُذِي هَذَا الْقَمْحَ فَابْذُرِي، فَبَذَرْتُ، فَقُلْتُ: أطْلِعِي، فَأَطْلَعَتْ، وَقُلْتُ: أَحْقِلِي، فَأَحْقَلَتْ، ثُمَّ قُلْتُ: أَفْرِكِي. فَأَفْرَكَتْ، ثُمَّ قُلْتُ: أَيْبِسِي، فَأَيْبَسَتْ، ثُمَّ قُلْتُ: أَطْحِنِي، فَأَطْحَنَتْ، ثُمَّ قُلْتُ: أَخْبِزِي، فَأَخْبَزَتْ فَلَمَّا رَأَيْتُ أَنِّيَ لَا أُرِيدُ شَيْئًا إِلَّا كَانَ سُقِطَ فِي يَدِي وَنَدِمْتُ وَاللَّـهِ يَا أُمَّ الْـمُؤْمِنِينَ، وَاللَّـهِ مَا فَعَلْتُ شَيْئًا قَطُّ وَلَا أفْعَلُهُ أَبَدًا) رواه الطبريُّ وغيرُه، وقال ابنُ كثير: إِسْنَادٌ جَيِّدٌ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهَا

عباد الله: داءٌ من أدواءِ الدَّجلِ قديمًا، ومشكلةٌ من مشكلاتِ العصرِ حديثًا، إنَّه من أعظمِ المهلكاتِ العقديةِ التي تُهلِكُ صاحبَها بما يَترتَّبُ عليها مِن عِقابِهِ في الدُّنيا، ودُخولِ النَّارِ واستِحْقاقِ عَذابِها في الآخِرةِ : إنه السحرُ والعياذُ بالله .

السحرُ: عزائمُ ورُقى وكلامٌ يُتكلمُ به، وأدويةٌ وغيرُ ذلك، تسببُ مرضاً في الأبدانِ والقلوبِ، وهو قِسمانِ؛ الأوَّلُ: عُقَدٌ وَرُقيً، أي: قِراءاتٌ وطَلاسِمُ يَتوصَّلُ بها السَّاحرُ إلى اسْتِخدامِ الشَّياطينِ فيما يُريدُ به ضَرَرَ المَسحورِ.

والثَّاني: أَدوِيةٌ وعَقاقيرُ تُؤثِّرُ على بَدَنِ المَسحورِ وعَقْلِه وإرادتِه ومَيْلِه، فتَجِدُه يَنصرِفُ ويَميلُ، وهو ما يُسمَّى بالصَّرْفِ والعَطْفِ .

عباد الله: لقد وقَفَ الإسلامُ من السحرِ موقفاً حاسماً؛ فسدَّ كلَّ طريقٍ يؤدي إليه، وحرّمَ تعلمَهُ وتعليمَه وممارستَه، وإتيانَ السحرةِ، منعاً لضررهِ، وحسماً لمادةِ الخُرافةِ أن تَتسللَ إلى عقولِ المسلمينَ فتُعطِلَها عن التفكيرِ الصحيحِ، والتخطيطِ القائمِ على قانونِ الأسبابِ والمسبِباتِ الذي قامَ عليه نِظامُ الكونِ.

ولقد ذم اللـهُ الذين يصدقونَ بالجبتِ الذي منه السحرُ كما قال تعالى (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ)، قال عمرُ t:"الجبتُ: السحرُ، والطاغوتُ الشيطانُ ، وقد ذم اللـهُ -سبحانه- في الآيةِ اليهودَ الذين يصدِّقونَ بالجبتِ الذي منه السحرُ".

عباد الله: السحرُ ناقضٌ من نواقضِ التوحيدِ؛ مخرجٌ من ملةِ الإسلامِ ، موجبٌ لصاحبه الخلودَ في النارِ، لما ينتجُ عنه من ضياعٍ لحقِّ اللـهِ، وصرفِ العبادةِ لغيرِ اللـهِ، والمساواةِ بين الخالقِ والمخلوقِ، بما يعتقدهُ الشخصُ في الساحرِ، من القدرةِ على كشفِ المغيباتِ، والنفعِ والضِّرِ، ولما يُفسدُه السحرُ في حقوقِ الآدميينَ.

يقول ابنُ سعديٍ : "السحرُ يدخلُ في الشركِ من جهتينِ: من جهةِ ما فيه من استخدامِ الشياطينِ ومن التعلُّقِ بهم، وربّما تقرّبَ إليهم بما يُحبونَ؛ ليقوموا بخدمتِه ومطلوبِه ، ومن جهةِ ما فيه من دعوى علمِ الغيبِ، ودعوى مشاركةِ اللـهِ في علمِه، وسلوكِ الطرقِ المفْضيةِ إلى ذلكَ، وذلكَ من شُعَبِ الشركِ والكفرِ".

عباد الله: السّاحِرُ زنديقٌ خلا قلبُه من محبةِ اللـهِ والخوفِ منه، من أخبَثِ الناسِ نَفسًا وأفسدِهم طَبعًا وأظلَمِهم قَلبًا، قَريبٌ من الشّيطانِ عابدٌ له، مدبِرٌ عن الخيرِ محرومٌ منه ، متَّصِفٌ بأحقرِ الصّفاتِ، كاذبٌ في أقوالِه ، موبقٌ لأعمالِه بأفعالِه الشريرةِ الفاسدةِ ، ويكفيه سوءاً أنه كافرٌ باللـهِ العظيم فلا يَتِمُّ له السِّحرُ إلاّ بعدَ الكفرِ باللـهِ والتقربِ إلى الجنِّ والشياطينَ بأعمالٍ لا يقرُها دينٌ ولا يقبلُها عقلٌ، فيستعينُ بالشياطينِ من دونِ ربِّ العالمينَ ، فيتقربُ لهم بما تحبُ من كلِّ شيءٍ : بعقيدةٍ فاسدةٍ ، وأعمالٍ خياليةٍ، وأكلٍ للمحرماتِ والخبائثِ ،وتقربٍ بالنجاساتِ ، ووقوعٍ في الموبقاتِ ، حتى يصلَ الحالُ بهم إلى كتابةِ المصحفِ بالنجاسةِ وبدمِ الحيضِ والدخولِ به إلى دوراتِ المياه وأماكنِ النجاساتٍ عياذاً باللـهِ من الضلال (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) .  قال r: (ومَن سحَر فقد أَشرَك) النسائيّ.

عباد الله: السّاحِرُ ضرَرُه محضٌ على المجتَمع، وأفعالُه ظُلماتٌ متراكِبةٌ، أوقَع أفرادًا من المجتَمعِ في الشّركِ، وأحلَّ به الخُطوبَ ، فكم قتلَ من أُناسٍ، وأمرضَ آخرينَ، وأذهبَ بعقولـِهم، ودمّرَ مستقبلَ حياتِهم .

كم شتتَ من أُسرٍ، وهدمَ من بيوتٍ، وفرقَ بين زوجٍ وزوجتِه ، وولدٍ ووالدِه ، وسببَ العداوةَ والبغضاءَ بين أفرادِ الأسرةِ الواحدةِ .

كم من إنسانٍ مُعافى تسبَّبَ الساحرُ والسحرُ في مرَضه، وكم من فقيرٍ تحمّلَ ديونًا طلبًا لعافيةٍ سلَبها منه السّاحرُ، وكم أكَلَ السّاحرُ من الأموالِ سُحتًا لقاءَ ما يزعمُه من الدّواءِ أو عِلمِ الغَيب، وكم من إنسانٍ أخرَجَه الساحِرُ والسحرُ من الدّينِ؛ لتصديقِه خَبرًا من الغيبِ لا يعلَمُه إلا اللـهُ ، قال r (مَن أتى عرّافًا أو كَاهنًا فسأَله عن شيءٍ فصدَّقه فقَد كفَرَ بما أُنزلَ علَى محمّدٍ) أحمد.

ألا فاتقوا اللـهَ عبادَ اللـهِ واحفظوا دينَـكُم واحذروا السِّحرَ والسحرةَ ، وتوكلوا على اللـهِ في جميعِ أمورِكم وابذلوا الأسبابَ الشرعيةَ في التحصنِ من شرِ السحرةِ والمشعوذينَ ( وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّـهِ )  بارك الله ...

 

 

الخطبة الثانية :

الحمد لله ... أما بعد : فيا عباد الله

عباد الله: لتفاقُمِ خطَرِ السّحَرةِ على المسلِمينَ جاءَ حُكمُهم بقَطعِ أعناقِهم لتسلَمَ المجتمعاتُ من شرورِهم، فكتب عمرُ بنُ الخطابِ رضي اللـهُ عنه إلى عمّالِه أن اقتُلوا كلَّ ساحِرٍ وساحرةٍ ، وجزَاؤُه في الآخِرةِ أن يكونَ من أهلِ النّارِ، وبئسَ القرارُ .

مَع ضرَرِ السّاحرِ المتحقِّقِ على المجتمعِ والدّينِ فإنكَ ترَى نفوسًا تُفسِدُ دينَها بإتيانِ السّاحرِ مرّةً بعدَ أخرى ، وتبذلُ الأموالَ لذلكَ لتؤذيَ مسلماً بغيرِ حقٍّ .

ومَن طرَقَ بابَ ساحرٍ ليعمَلَ له سِحرًا فقد باعَ دينَه بدنياه، واستعَاضَ عن نورِ الإيمانِ بظلامِ القَلبِ، وإنَّ الراضِيَ بالفعلِ المستحبِّ له كالفاعِلِ له، قال النوويُ: "وعملُ السحرِ حرامٌ، وهو من الكبائرِ بالإجماعِ، وقد عدَّهُ النبيُّ r من السبعِ الموبقاتِ، وتعلمُهُ وتعليمُهُ حرامٌ، فإنَّ تضمَّنَ ما يقتضي الكفرَ كفرٌ ".

ويقول الذهبيُّ :" ترى خلقًا كثيرًا من الضلالِ يدخلونَ في السحرِ ويظنونَ أنه حرامٌ فقطْ، وما يشعرونَ أنه كفرٌ).

الذّاهِبُ للسّحَرةِ -عبادَ اللـهِ-أغضَبَ الخالقَ، وظَلَمَ المخلوقَ، وبلَغَ من الحسَدِ غايتَهُ بعمَلِ السِّحرِ لغيرِه ، إزالةً لنِعمةٍ تفضَّلَ اللـهُ بها علَى غيرِه، ووَبالُ من سعَى لسحرِ غيرِه مَردودٌ عليه (وَلاَ يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ).

فلا تكن ـ يا طالبَ السِّحرِ ـ منَ الهاوينَ مع السَّحَرةِ بالخروجِ من دينِكَ، واغسِل حسَدَ قلبِكَ بالإحسانِ إلى غيرِكَ عِوَضًا عَن سِحرِهم، واحلُلْ عُقَدَ مَنْ سحَرتَ قبلَ أن تدورَ عليكَ الدوائرُ من الربِّ العظيمِ ، وتذكرْ أنَّ الظلمَ ظلماتٌ يومَ القيامةِ ، وعندَ اللـهِ تجتمعُ الخصومُ ... ثم صلوا ...

 

المرفقات

1664983800_خطبة إنماء نحن فتنة فلا تكفر.docx

1664983800_خطبة إنماء نحن فتنة فلا تكفر.pdf

المشاهدات 417 | التعليقات 0