إلى كل مهوم ومكروب
عبدالعزيز أبو يوسف
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين ، مجيب الداعين ، ومغيث المستغيثين ، رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما ، والصلاة والسلام على خير البرية وأزكى البشرية نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)، أما بعد:
عباد الله : في هذه الدنيا التي طُبعت على كدر، والإنسان الذي خُلق في كبد يُلاقي مشاق الحياة ونكدها وكدها وتعبها، فيمر به شدة وكرب أو هم وحزن إما في صحته أو ماله أو ولده أو زوجه أو غير ذلك مما يُحب، ويكره أن يُنال بأذى أو سوء ، وهذا هو حال هذه الدار الفانية، فيبحث جاهداً عن أمر يُنفس عنه همه وحزنه ويفرج عنه كربه، ومهما بذل من أسباب وسعى جاهداً لرفع ما أصابه ولحق به من كرب وهم وحزن فلن يجد سبباً دافعاً لهذا الكرب والهم والحزن الذي ألم به من أن يعتصم بالله تعالى وكتابه المبين، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد ورد فيهما إرشاداً للمؤمنين عند الكرب والهم والحزن بالتعلق بربهم عز وجل، وأن تلهج ألسنتهم بذكره والاعتصام به وحده دون سواه، فهو سبحانه المُنجي لهم والفارج لكل هم والمنفس لكل كرب ألم بهم، فإن كان الكرب مرض خف أو اشتد فيُعالج بالأدوية الحسية والعقاقير الطبية، ويرقي المريض نفسه بكتاب الله وما ورد في السنة من الرقية، فالله تعالى يقول في كتابه الحكيم: ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) ، فإذا حسُن ظن العبد بربه وكتابه بأن فيه الشفاء نال مطلوبه يقيناً، ومن كان مجرباً متردداً ضعيف اليقين فقد أتى ما يحول بينه وبين مُراده.
وإن كان الكرب والهم والشدة في أمور أخرى فقد ورد في الكتاب العزيز مما يُبين السبيل للنجاة من ذلك، فمنه ما ذكره سبحانه عن نبيه يونس عليه السلام بقوله: ( وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن ألن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين* فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين)، أخرج الترمذي والنسائي والحاكم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله تعالى له، فقال رجل: أكانت ليونس خاصة؟ أم للمؤمنين عامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تسمع إلى قول الله تعالى: ( وكذلك ننجي المؤمنين)، قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: " ما كُرب نبي من الأنبياء إلا استغاث بالتسبيح"، فالتسبيح يقوم مقام الدعاء ويتضمنه، فكل منهما يدخل في الآخر كما ذكر ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله.
وقال عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين)، قال المفسرون: " أي فافزع فيما أنابك من أمر تكرهه ويغمك ويُحزنك إلى الثناء على الله تعالى بتسبيحه فإنه جل وعلا يكفيك ذلك كله".
أيها الفضلاء: ومن الأدعية والأذكار التي يكشف الله بها الشدة والكرب ما أخرجه البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو عند الكرب: لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب السماوات والأرض ورب العرش العظيم"، وأخرج النسائي والحاكم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: " لقنني رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الكلمات: لا إله إلا الله العظيم الحليم ، لا إله إلا الله رب السماوات والأرض ورب العرش العظيم، وأمرني إن نزل بي كرب أو شدة أن أقولها".
ومن أدعية الكرب عباد الله ما أخرجه أصحاب السنن عن أسماء بنت عميس رضي الله عنها قالت: " قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أُعلمك كلمات تقوليهن عند الكرب؟ الله الله ربي لا أشرك به شيئا"، وأخرج أبو داود وابن حبان عن أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت".
وجاء في مسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان وصححه الألباني عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أصاب عبدًا قط همٌّ ولا حزنٌ فقال : اللهم إني عبدُك ، ابنُ عبدِك وابنُ أمتِك ، ناصيتي بيدِك ، ماضٍ فيّ حكمُك ، عدلٌ فيّ قضاؤُك ، أسألُك بكلِّ اسمٍ هو لك ، سميتَ به نفسَك ، أو علمته أحدًا من خلقِك ، أو استأثرت به في علمِ الغيبِ عندك أن تجعلَ القرآنَ ربيعَ قلبي ، ونورَ صدري ، وجلاءَ حزني ، وذهابَ همي وغمي إلا أذهب اللهُ همَّه وغمَّه وأبدله مكانه فرحًا ، قالوا : أفلا نتعلمهن يا رسولَ اللهِ ، قال : بل ينبغي لمن يسمعُهن أن يتعلمَهن".
أيها المباركون: لكل من أثقله الهم لأي أمر من أمور الدنيا ، ولكل من تحمل ديوناً عجز عن وفائها وسدادها لأصحابها استمع لتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم لتفريج همك وقضاء دينك ، أخرج أبو داود في سننه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: " دخل رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم ذات يوم المسجد فإذا هو برجل من الأنصار يقال له : أبو أمامة, فقال : يا أبا أمامة مالي أراك جالسا في غير وقت صلاة ؟ قال : هموم لزمتني وديون يا رسول اللهِ, قال : أفلا أعلمك كلاما إذا قلته أذهب الله همك وقضى عنك دينك,قلت : بلى يا رسول اللهِ, قال : قل إذا أصبحت وإذا أمسيت : اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال قال : ففعلت ذلك فأذهب الله تعالى همي وغمي وقضى عني ديني".
أيها المؤمنون: الشواهد على من أتى بهذه الأدعية والأذكار العظيمة نال الفرج وتفريج الهم والحزن كثيرة، ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله في كتابه : " فتح الباري شرح صحيح البخاري" عند شرحه لأحاديث الكرب عدداً من الحوادث تُؤكد هذا الأمر لأُناس أصابهم كرب وهم وحزن فلاذوا بربهم والتزموا هذه الأدعية ففُرج عنهم كربهم وأُزيل همهم، فمنهم من شُفي من مرضه، وآخر تخلص من ظُلم وقع عليه، وآخر خرج منه سجن فُرض عليه قهراً وبغياً، وآخر رُزق رزقاً حسناً أوفى به ما أهمه وأثقله من دين، ومثل ذلك ذكر التنوخي وابن أبي الدنيا في كتابيهما الفرج بعد الشدة، والواقع يشهد بذلك ويصدقه .
فمنّ من الناس من لا يحزبه أمر ويهمه أو يمر عليه كرب وشدة أو حزن وهم؟!! ويرجوا زوال ذلك وفرجه، وقد تغيب عنه هذه الأدعية والأذكار المباركة أو يجهلها ، ولا يُهدى إليها إلا الموفقون من عباد الله تعالى، فهنيئاً لمن كان بالله تعالى معتصماً، وبه واثقاً مؤملاً بربه عز وجل الخير يفزع له ويلجأ في كل حال له في سفره وإقامته، ويسره وعسره، وصحته ومرضه يلوذ به عند كل نائبه وكرب وشدةٍ تنزل به، فهذا وعد من الحي القيوم وضمانُُُ بأن من لزم هذه الأدعية والأذكار مما ورد في الكتاب وسنة رسوله الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى كان الفرج والحفظ له عطاءً وكرماً من الله تعالى.
اللهم اجعلنا ممن توكَّل عليك فكفيته، واستعان بك فأعنته، واستهداك فهديته، ودعاك فأجبته، وسألك فمنحته وأعطيته.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إني ربي غفور رحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشة ومداد كلماته أما بعد:
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمرنا المولى بالصلاة والسلام عليه فقال عز من قائل عليماً: ( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً) ، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر ، وأرضى اللهم عن خلفائه الراشدين والأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وعن سائر الصحب والآل ومن تبعهم بإحسان إلى يوم التناد، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم فرج هم المهمومين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم ضعفنا، واجبر كسر قلوبنا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعدائك أعداء الدين ، وانصر عبادك الموحدين ، اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، اللهم وفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين وولي عهده لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال ، اللهم مدهما بعونك ونصرك وتوفيقك ، اللهم انصر جنودنا المرابطين على حدودنا ، وأحفظهم بحفظك وسدد رميهم ، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وألف بين قلوبهم وأصلح ذات بينهم واهدهم سُبل السلام، وجنبهم الفتن والمحن، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا وبلغنا فيما يرضيك آمالنا وحرم على النار أجسادنا ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.