إلى كلِّ مهمومٍ-2-8-1438هـ-هلال الهاجري-الملتقى-بتصرف

محمد بن سامر
1438/08/01 - 2017/04/27 15:33PM
[align=justify] أما بعدُ: فعليكَ بتقوى اللهِ-تعالى-أيُّها المهمومُ، يُيَسِّرُ لكَ الأمرَ الحيُّ القيومُ، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا)، فتقوى اللهِ-سبحانَه-سببٌ للسَّعادةِ والسُّرورِ العميقِ، وطريقٌ للخروجِ من الهمِّ والضِّيقِ، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا).
يا شاكيًا هَمَّ الحياةِ وضيقَها*أبشِرْ فربُّك قد أبانَ المنهجَا
مَن يتَّقِ الرحمنَ جلَّ جلالُهُ*يجعلْ له مِن كلِّ ضِيقٍ مَخرجَا
يقولُ الشيخُ عليٌ الطنطاوي-رحمَه اللهُ-تعالى-: "دهمني مَرةً همٌّ مُقيمٌ مُقعِدٌ، وجعلتُ أُفكرُ في طَريقِ الخلاصِ، و أَضربُ الأخماسَ بالأسداسِ، وما أزالُ مع ذلكَ مشفقًا مما يأتي به الغدُ، ثم قلتُ: ما أجهَلَني إذ أَحسبُ أني أنا المُدبِّرُ لأمري، وأحملُ همَّ غَدي على ظَهري، ومن كانَ يُدبِّرُ أمري لما كنتُ طِفلًا رَضيعًا، مُلقىً على الأرضِ كالوِسادةِ، لا أعي ولا أَنطقُ، ولا أستطيعُ أن أحمي نفسي من العقربِ إن دبَّتْ إليَّ، والنَّارِ إن شَبَّتْ إلى جنبي، أو البعوضةِ إن طَنَّتْ حولي؟، ومن رعاني قبلَ ذلك جَنينًا، و بعدَ ذلك صَبيًّا؟، أفيتَخلى اللهُ الآنَ عني؟، و رأيتُ كأنَّ الهمَّ الذي كانَ على كتفي قد أُلقيَ عني، ونمتُ مطمئنًا".
وصدقَ-رحمَه الله-، فكيفَ يهتمُّ من له ربٌّ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ؟!، ربٌّ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ؟!، وكيفَ يهتمُّ من يتلو قولَه-تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)؟!، وقولَه-سبحانَه-: (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا)، وصدقَ القائلُ:
سيفتحُ اللهُ بابًا كُنتَ تَحسبُهُ*من شِدةِ اليأسِ لم يُخلقْ بمفتاحِ
هل تعلم-أيُّها المهمومُ-أنَّه ليسَ بينَكَ وبينَ ذهابِ همِّكَ إلا كلماتٌ مُباركاتٌ، ودَعواتٌ عَظيماتٌ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: "مَا قَالَ عَبْدٌ قَطُّ إِذَا أَصَابَهُ هَمٌّ وَحَزَنٌ، "اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي، إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ-عَزَّ وَجَلَّ-هَمَّهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَ حُزْنِهِ فَرَحًا"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَعَلَّمَ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ؟!، قَالَ: "أَجَلْ يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أَنْ يَتَعَلَّمَهُنَّ".
عَسَى مَا تَرَى أَلَا يَدُومَ وَأَنْ*تَرَى لَهُ فَرَجًا مِمَّا أَلَحَّ بِهِ الدَّهْرُ
عَسَى فَرَجٌ يَأْتِي بِهِ اللهُ إِنَّهُ*لَهُ كُلَّ يَوْمٍ فِي خَلِيقَتِهِ أَمْرُ
إذَا اشْتَدَّ عُسْرٌ فَارْجُ يُسْرًا فَإِنَّهُ*قَضَى اللَّهُ إنَّ الْعُسْرَ يَتْبَعُهُ الْيُسْرُ
فيا من أُبتليَ بغَمٍّ، كيفَ تَغفلُ عن قولِ: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)، واللهُ-سبحانَه-بعدَها يقولُ: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ)، ويا من ابتليَ بِضُرٍّ، كيفَ تغفلُ عن قولِ: (إنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ‌ وَأَنتَ أَرْ‌حَمُ الرَّ‌احِمِينَ)، واللهُ-تعالى-بعدَها يقولُ: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ)، ويا من ابتليَ بخوفٍ، كيفَ تَغفلُ عن قولِ: (حَسْبُنَا اللَّـهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)، واللهُ-عزَّ وجلَّ-بعدَها يقولُ: (فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ)، ويا من ابتليَ بمكرِ النَّاسِ، كيفَ تغفلُ عن قولِ: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِ‌ي إِلَى اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ بَصِيرٌ‌ بِالْعِبَادِ)، واللهُ-تعالى-بعدَها يقولُ: (فَوَقَاهُ اللَّـهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُ‌وا).
فمِنْ حُسنِ ظَنِّكَ بربِّكَ، وأنت في أسوإِ الأحوالِ والظروفِ أن تُردَّدُ (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ)، فلا مكانَ لليأسِ، ومعكَ الحيُّ القيوم، (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)، فها هو موسى-عليه وعلى نبيِنا الصلاةُ والسلامُ-قد سَدَّ عليه البحرُ المسيرَ، وحاصرَه الجيشُ الكثيرُ، (قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ)، فأجابَهم إجابةَالعارفِ بربِّه، الواثقِ بعهدِه، المؤمنِ بوعدِه: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ).
فيا من ضاقتْ عليه الدُّنيا، و يا من أظلمتْ في عينِه أنوارُ الحياةِ، و يا من ظُلِمَ ولم يجدْ له ناصرًا، و يا من تراكمتْ عليه الدُّيونُ، و يا من فقدَ الأحبابَ، و يا من أُوصدتْ في وجهِه الأبوابُ، قل: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي).
فإذا اشتدَّ الخَطبُ، وعظُمَ الكربُ، وكثُرَ الصَّخبُ، فتذكَّرْ ما قالَه الربُّ: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى).
ولقد ذكرتُكَ والخطوبُ كوالحٌ*سُودٌ ووجهُ الدَّهْرِ أغبرُ قاتِمُ
فهتفتُ في الأسحارِ باسمِكَ صَارخًا*فإذا محيَّا كُلِّ فجرٍ باسمُ
فإذا أحاطتْ بكَ الغُمومُ، وأصبحتَ من الحزنِ مكظومٌ، وأحسستَ بغَلَبَةِ المظلومِ، فمنْ تُنادي؟، فليسَ كلُ من تُناديه يسمعُ، وليسَ كلُ من يسمعُ يقدرُ، ولكن اقتدِ بالأنبياءِ الذينَ يعرفونَ منْ يُنادونَ فيجيبهم: (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ)، فإذا حقَّقَ لكَ المستحيلَ في نظرِك، وأصابَك ما أصابَ زكريا-عليه السَّلامُ-حينَ قالَ: (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا)، فتذكَّرْ الجوابَ: (قَالَ كَذلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ).
يا عبدَ اللهِ للهمِّ ساعاتٌ، وللضِّيقِ أوقاتٌ، وللمرضِ لحظاتٌ، فلا تأسرُكَ الحسراتُ، واسمعْ أجملَ الكلماتِ: (وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ)، واعلَمْ أنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبرِ، وأنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ، وأنَّ معَ العُسْرِ يُسرًا، زارَ سفيانُ ابنُ عيينةَ-رحمَه اللهُ-وهو أحدُ علماءِ السلفِ الكبارِ- زار رجلًا مريضًا، فقالَ: يا أبا محمدٍ ادعُ اللهَ لي، فقالَ: "دعاؤك لنفسِك خيرٌ من دعائي لكَ، ألمْ تقرأ قولَه: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ)؟".
دعِ المقاديرَ تجري في أَعنَّتِها*ولا تبيتنَّ إلا خاليَ البالِ
مابينَ غمضةِ عَينٍ وانتباهتِها*يُغيِّرُ اللهُ من حالٍ إلى حالِ
ولا تنسَ-أيُّها المهمومُ-ما أنتَ فيه من النِّعمَ، واعلمْ ما دفعَه اللهُ-تعالى-عنكَ من النِّقمَ، قالَ صالحُ الدِّمشقيُّ-رحمه الله تعالى-لابنِه: "يا بُنيَ، إذا مرَّ بك يومٌ وليلةٌ قد سَلِمَ فيهما دينُك، وجسمُك، ومالُك، وعيالُك فأكثِرْ الشُّكرَ للَّهِ-تعالى-، فكمْ مِن مَسلوبٍ دينُه، ومنزوعٍ مُلكُه، ومهتوكٍ سترُه، ومقصومٍ ظهرُه في ذلك اليومِ، أو تلك الليلةِ، وأنتَ في عافيةٍ).
أستغفر الله لي ولكم وللمسلمين...
الخطبة الثانية
أما بعد: فيا من أصابَه همٌّ عظيمٌ، اعلم أن لكَ ربًّا أعظمَ يقولُ: (فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)، فليسَ فيه خيرٌ فقط، بل خيرٌ كثيرٌ.
يقولُ ابنُ القيمُ-رحمَه اللهُ-كلامًا معناه: "لو كَشفَ اللهُ الغطَاءَ لِعبدِه، وأظهرَ له كيفَ يُدبِّرُ له أمورَه، وكيفَ أن اللهَ أحرصُ على مصلحةِ العبدِ من نفسِه، وأنَّه أرحمُ به من أمِّه، لَذابَ قلبُ العبدِ محبةً للهِ، ولتقطَّعَ قلبُه شُكراً للهِ".
أخي المكروبُ، الدنيا مليئةٌ بالمصائبِ والابتلاءاتِ، فمن مِنَّا لم يخالجُه همٌّ ولا حُزنٌ، فلا مَفرَ من الهمومِ والغمومِ، ولكن لا تنسَ أن ما أصابَك هو تكفيرٌ لذنوبِك، وزيادةٌ لحسناتِك، ورفعٌ لدرجاتِك، فربُّنا-عزَّ وجلَّ-إذا أحبَّ عبدًا ابتلاه، وما ابتلاهُ إلا ليسمعَ تضرعَه وشَكواه، فيا من تقطعتْ به الأسبابُ، وأُغلقتْ في وجهِه الأبوابُ، اقرعْ أبوابَ السَّماءِ، وألحَّ على اللهِ بالدُّعاءِ، بُثَّ إليه شكواكَ، وأحسنْ الظنَّ بمولاك، فما خابَ من رجاهُ، ولا رُدَّ من دعاهُ، فمَنْ لنا غيرهُ نأنسُ بنجواه، فناجِ ربَّك في الأسحارِ، وانكسرْ بين يدي العزيزِ الغفارِ، وأبشر بانفراجِ الهمِّ والخيرِ المدرارِ.
يا صاحبَ الهمِّ إن الهمَّ مُنفرجٌ*أبشرْ بخيرٍ فإنَّ الفـارِجَ اللهُ
اليأسُ يَقْطَعُ أحيانًا بصاحِبِه*لا تيأسَنَّ فإن الكـــافيَ اللهُ
اللهُ يُحدثُ بعدَ العُسْرِ مَيسرةً*لا تجزعنَّ فإن الصَّـانِعَ اللهُ
وإذا بُلِيتَ فَثِقْ باللهِ وارضَ به*إن الذي يَكْشِفُ البلوى هو اللهُ
[/align]
المشاهدات 1179 | التعليقات 0